{ الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
يعني تعالى ذكره : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم ، والذين في موضع خفض مردود على المؤمنين ، وهذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول والناس الأول هم قوم فيما ذكر لنا ، كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أُحد إلى حمراء الأسد¹ والناس الثاني : هم أبو سفيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بأُحد ، يعني بقوله : { قَدْ جَمعُوا لَكُمْ } : قد جمعوا الرجال للقائكم ، والكرّة إليكم لحربكم { فاخْشَوْهُمْ } يقول : فاحذروهم ، واتقوا لقاءهم ، فإنه لا طاقة لكم بهم ، { فَزادهُمْ إيمَانا } يقول : فزادهم ذلك من تخويف من خوّفهم أمر أبي سفيان وأصحابه من المشركين يقينا إلى يقينهم ، وتصديقا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم ، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه ، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه ، وقالوا ثقة بالله ، وتوكلاً عليه ، إذ خوفهم من خوفهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين { حَسْبُنا اللّهُ ونِعْم الوكِيل } يعني بقوله : حسبنا الله : كفانا الله ، يعني : يكفينا الله¹ ونعم الوكيل ، يقول : ونعم المولى لمن وليه وكفله¹ وإنما وصف تعالى نفسه بذلك لأن الوكيل في كلام العرب : هو المسند إليه القيام بأمر من أسند إليه القيام بأمره¹ فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الاَيات قد كانوا فوّضوا أمرهم إلى الله ، ووثقوا به ، وأسندوا ذلك إليه وصف نفسه بقيامه لهم بذلك ، وتفويضهم أمرهم إليه بالوكالة ، فقال : ونعم الوكيل الله تعالى لهم .
واختلف أهل التأويل في الوقت الذي قال من قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنّ النّاس قَدْ جَمعُوا لَكُمْ } فقال بعضهم : قيل ذلك لهم في وجههم الذي خرجوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أُحد إلى حمراء الأسد في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين .
ذكر من قال ذلك ، وذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك ، ومَن قائله :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، قال : مرّ به ، يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد ، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عَيْبَةَ نُصْحٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه ، لا يخفون عليه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك ، فقال : والله يا محمد ، أما والله لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم ! ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء ، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : أصبنا في أُحد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ! لنكرنّ على بقيتهم فلنفرغنّ منهم . فلما رأى أبا سفيان معبدا ، قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرّقون عليكم تحرّقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فهم من الحنق عليكم بشيء لم أر مثله قط . قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل . قال : فوالله لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك ! فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر ، قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
كادَتْ تُهَدّ مِنَ الأصْوَات رَاحِلَتِي *** إذْ سالَتِ الأرْضُ بالجُرْدِ الإبابِيلِ
تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَناِبَلةٍ *** عِنْدَ اللّقاءِ وَلا مِيلٍ مَعازِيلِ
فَظَلْتُ عَدْوا أظُنّ الأرْضَ مائِلَةً *** لَمّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
فَقُلْتُ وَيْلُ ابنِ حَرْبٍ منْ لِقائِكُمُ *** إذَا تَغَطْمَطَتِ البَطْحاءُ بالجِيلِ
إني نَذِيرٌ لأهْلِ البَسْلِ ضَاحِيَةً *** لكُلّ ذِي إرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ
مِنْ جَيْشِ أحمَدَ لا وَخْشٍ تَنابِلَةٍ *** وَلَيْسَ يُوصَفُ ما أنْذَرْتُ بالقِيلِ
قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه¹ ومرّ به ركب من عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة . قال : ولم ؟ قالوا : نريد المِيرة . قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها ، وأُحَمّلُ لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا : نعم . قال : فإذا جئتموه ، فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بَقِيتهم ! فمرّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فقال الله : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّهَ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } . والناس الذين قال لهم ما قالوا : النفر من عبد القيس ، الذين قال لهم أبو سفيان ما قال ، إن أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم ، يقول الله تبارك وتعالى : { فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } . . . الاَية .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما ندموا يعني : أبا سفيان وأصحابه على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا : ارجعوا فاستأصلوهم ! فقذف الله في قلوبهم الرعب ، فهزموا ، فلقوا أعرابيا ، فجعلوا له جعلاً : إن لقيت محمدا وأصحابه ، فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم . فأخبر الله جلّ ثناؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، فلقوا الأعرابي في الطريق ، فأخبرهم الخبر ، فقالوا : «حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ » ثم رجعوا من حمراء الأسد ، فأنزل الله تعالى فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخُشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : استقبل أبو سفيان في منصرفه من أُحد عيرا واردة المدينة ببضاعة لهم وبينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم حبال ، فقال : إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمدا ومن معه إن أنتم وجدتموه في طلبي وأخبرتموه أني قد جمعت له جموعا كثيرة ! فاستقبلت العيرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعا كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل . ولم يزده ذلك ومن معه إلا يقينا ، { وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيل } ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } . . . الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أُحد خلفهم ، حتى كانوا بذي الحليفة ، فجعل الأعراب والناس يأتون عليهم ، فيقولون لهم : هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس ، فقالوا : { حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } ، فأنزل الله تعالى فيهم : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخُشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } .
وقال آخرون : بل قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قال ذلك له في غزوة بدر الصغرى وذلك في مسير النبيّ صلى الله عليه وسلم عام قابل من وقعة أُحد للقاء عدوّه أبي سفيان وأصحابه للموعد الذي كان واعده الالتقاء بها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } قال : هذا أبو سفيان ، قال لمحمد : موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا ! فقال محمد صلى الله عليه وسلم : «عَسَى ! » فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرا ، فوافقوا السوق فيها ، وابتاعوا¹ فذلك قوله تبارك وتعالى : { فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } وهي غزوة بدر الصغرى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه ، وزاد فيه : وهي بدر الصغرى . قال ابن جريح : لما عمد النبيّ صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان ، فجعلوا يلقون المشركين ، ويسألونهم عن قريش ، فيقولون : { قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يرعبوهم ، فيقول المؤمنون : { حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الَوكِيلُ } حتى قدموا بدرا ، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد . قال : وقدم رجل من المشركين وأخبر أهل مكة بخيل محمد عليه الصلاة والسلام وقال في ذلك :
نَفَرَتْ قَلُوصِي عَنْ خُيولِ مُحَمّدِ *** وَعَجْوَةٍ مَنْثُورَةٍ كالعُنْجُدِ
( واتخذتْ ماءَ قُدَيدٍ مَوْعِدِي )
قال أبو جعفر : هكذا أنشدنا القاسم ، وهو خطأ ، وإنما هو :
قَدْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتيْ مُحَمّدِ *** وَعَجْوَةٍ مِنْ يَثرِبٍ كالعُنْجُدِ
تَهْوِى على دِينِ إبيِها الأتْلَدِ *** قدْ جَعَلَتْ ماءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي
*** وَماءَ ضَجْنانَ لَهَا ضُحَى الغَدِ***
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : كانت بدر متجرا في الجاهلية ، فخرج ناس من المسلمين يريدون ، ولقيهم ناس من المشركين فقالوا لهم : { إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ } ، فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التجارة ، { وَقالُوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } ، فأتوهم فلم يلقوا أحدا ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم : { إنّ النّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ } . قال ابن يحيى ، قال عبد الرزاق ، قال ابن عيينة : وأخبرني زكريا عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو قال : هي كلمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار ، فقال : { حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الَوكِيلُ } .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : إن الذي قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، كان في حال خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان ، ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أُحد إلى حمراء الأسد¹ لأن الله تعالى ذكره إنما مدح الذين وصفهم بقيلهم : { حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } لما قيل لهم : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم ، بقوله : { الّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ وَالرّسولِ مِنْ بَعْدِ ما أصَابَهُمُ القَرْحُ } ولم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرحى أصحابه بأحد إلى حمراء الأسد . وأما قول الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى ، فإنه لم يكن فيهم جريج ، إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه ، وبرأ كلمه ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى بدر الخرجة الثانية إليها لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها بعد سنة من غزوة أُحد في شعبان سنة أربع من الهجرة ، وذلك أن وقعة أُحد كانت في النصف من شوّال من سنة ثلاث ، وخروج النبيّ صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر الصغرى إليها في شعبان من سنة أربع ، ولم يكن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بين ذلك وقعة مع المشركين كانت بينهم فيها حرب جرح فيها أصحابه ، ولكن قد كان قتل في وقعة الرجيع من أصحابه جماعة لم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى ، وكانت وقعة الرجيع فيما بين وقعة أُحد وغزوة النبيّ صلى الله عليه وسلم بدر الصغرى .
يجوز أن يكون { الذين قال لهم الناس } إلى آخره ، بدلاً من { الذين استجابوا لله والرسول } [ آل عمران : 172 ] ، أو صفة له ، أو صفة ثانية للمؤمنين في قوله : { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } [ آل عمران : 171 ] على طريقة ترك العطف في الأخبار . وإنَّما جيء بإعادة الموصول ، دون أن تعطف الصلة على الصلة ، اهتماماً بشأن هذه الصلة الثانية حتّى لا تكون كجزء صلةٍ ، ويجوز أن يكون ابتداء كلام مستأنففٍ ، فيكون مبتدأ وخبره قوله : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } [ آل عمران : 175 ] أي ذلك القول ، كما سيأتي . وهذا تخلّص بذكر شأن من شؤون المسلمين كفاهم الله به بأس عدوّهم بعد يَوم أحُد بعامٍ ، إنجازاً لوعدهم مع أبي سفيان إذ قال : مَوعدكم بدر في العام القابل ، وكان أبو سفيان قد كره الخروج إلى لقاء المسلمين في ذلك الأجل ، وكاد للمسلمين ليُظهر إخلاف الوعد منهم ليجعل ذلك ذريعة إلى الإرجاف بين العرب بضعف المسلمين ، فجَاعَل ركباً من عبدِ القيس مارينَ بمَرّ الظَّهْرانَ قرب مكّة قاصدين المدينة للميرة ، أن يخبروا المسلمين بأنّ قريشاً جمعوا لهم جيشاً عظيماً ، وكان مع الركب نعيم بن مسعود الأشجعي ، فأخبر نعيم ومن معه المسلمين بذلك فزاد ذلك المسلمين استعداداً وحميّة للدين ، وخرجوا إلى الموعد وهو بدر ، فلم يجدوا المشركين وانتظروهم هنالك ، وكانت هنالك سوق فاتّجَرُوا ورجعوا سالمين غير مذمومين ، فذلك قوله تعالى : { الذين قال لهم الناس } أي الركب العَبْدِيُّون { إن الناس قد جمعوا لكم } أي إنّ قريشاً قد جمعوا لكم . وحذف مفعول { جمعوا } أي جمعوا أنفسهم وعُددهم وأحلافهم كما فعلوا يوم بدر الأول .
وقال بعض المُفسّرين وأهل العربية : إنّ لفظ الناس هنا أطلق على نُعيم بن مسعود وأبي سفيان ، وجعلوه شاهداً على استعمال الناس بمعنى الواحد والآية تحتمله ، وإطلاق لفظ الناس مراداً به واحد أو نحوه مستعمل لقصد الإبهام ، ومنه قوله تعالى : { أم يحسدون الناس على ما ءاتاهم الله من فضله } [ النساء : 54 ] قال المفسّرون : يعني ب ( الناس ) محمداً صلى الله عليه وسلم
وقوله : { فزادهم إيماناً } أي زادهم قول الناس ، فضمير الرفع المستتر في { فزادهم } عائد إلى القول المستفاد من فعل { قال لهم الناس } أو عائد إلى الناس ، ولمّا كان ذاك القول مراداً به تخويف المسلمين ورجوعهم عن قصدهم . وحصل منه خلاف ما أراد به المشركون ، جُعل ما حصل به زائداً في إيمان المسلمين . فالظاهر أنّ الإيمان أطلق هنا على العمل ، أي العزم على النصر والجهاد ، وهو بهذا المعنى يزيد وينقص . ومسألة زيادة الإيمان ونقصه مسألة قديمة ، والخلاف فيها مبنيّ على أنّ الأعمال يطلق عليها اسم الإيمان ، كما قال تعالى : { وما كان اللَّه ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] يعني صَلاتكم . أمّا التَّصديق القلبي وهو عقد القلب على إثبات وجود الله وصفاته وبعثة الرسل وصدق الرسول ، فلا يقبل النقص ، ولا يقبل الزيادة ، ولذلك لا خلاف بين المسلمين في هذا المعنى ، وإنّما هو خلاف مبني على اللفظ ، غير أنّه قد تقرّر في علم الأخلاق أنّ الاعتقاد الجازم إذا تكررت أدلّته ، أو طال زمانه ، أو قارنته التجارب ، يزداد جلاء وانكشافاً ، وهو المعبّر عنه بالمَلَكة ، فلعلّ هذا المعنى ممّا يراد بالزيادة ، بقرينة أنّ القرآن لم يطلق وصف النقص في الإيمان بل ما ذكر إلا الزيادة ، وقد قال إبراهيمُ عليه السلام : { بلى ولكن ليطمئنّ قلبي } [ البقرة : 260 ] .
وقولهم : { حسبنا الله ونعم الوكيل } كلمة لعلّهمُ ألهموها أو تلقّوها عن النبي صلى الله عليه وسلم وحسب أي كاف ، وهو اسم جامد بمعنى الوصف ليس له فعل ، قالوا : ومنه اسمه تعالى الحَسيب ، فهو فعيل بمعنى مُفعل . وقيل : الإحساب هو الإكفاء ، وقيل : هو اسم فعل بمعنى كفى ، وهو ظاهر القاموس . وردّه ابن هشام في توضيحه بأنّ دخول العوامل عليه نحو { فإنّ حسبك الله } ، وقولهم : بحسبك درهم ، ينافي دعوى كونه اسم فعل لأنّ أسماء الأفعال لا تدخل عليها العوامل ، وقيل : هو مصدر ، وهو ظاهر كلام سيبويه . وهو من الأسماء اللازمة للإضافة لفظاً دون معنى ، فيبنى على الضمّ مثل : قبلُ وبعدُ ، كقولهم : اعطه درهمين فَحَسْبُ ، ويتجدّد له معنى حينئذ فيكون بمعنى لا غير . وإضافته لا تفيده تعريفاً لأنّه في قوة المشتقّ ولذلك توصف به النكرة ، وهو ملازم الإفراد والتذكير فلا يثنّى ولا يجمعُ ولا يؤنّث لأنّه لجموده شابَه المصدر ، أو لأنّه لمّا كان اسم فعل فهو كالمصدر ، أو لأنّه مصدر ، ، وهو شأن المصادر ، ومَعناها : إنّهم اكتفوا بالله ناصراً وإن كانوا في قِلّة وضعف .
وجملة { ونعم الوكيل } معطوفة على { حسبنا الله } في كلام القائلين ، فالواو من المحكي لا من الحكاية ، وهو من عطف الإنشاء على الخبر الذي لا تطلب فيه إلا المناسبة . والمخصوص بالمدح محذوف لتقدّم دليله .
و { الوكيل } فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه . يقال : وكل حاجته إلى فلان إذا اعتمد عليه في قضائها وفوّض إليه تحصيلها ، ويقال للذي لا يستطيع القيام بشؤونه بنفسه : رَجل وَكَل بفتحتين أي كثير الاعتماد على غيره ، فالوكيل هو القائم بشأن من وكّله ، وهذا القيام بشأن الموكِّل يختلف باختلاف الأحوال الموكّل فيها ، وبذلك الاختلاف يختلف معنى الوكيل ، فإن كان القيام في دفع العداء والجور فالوكيل الناصر والمدافع { قل لست عليكم بوكيل } [ الأنعام : 66 ] ، ومنه { فمن يجادل اللَّه عنهم يوم القيامة أمَّن يكون عليهم وكيلاً } [ النساء : 109 ] . ومنه الوكيل في الخصومة ، وإن كان في شؤون الحياة فالوكيل الكافل والكافي منه : { أن لا تتخذوا من دوني وكيلاً } [ الإسراء : 2 ] كما قال : { قد جعلتم الله عليكم كفيلاً } [ النحل : 91 ] ولذلك كان من أسمائه تعالى : الوكيل ، وقولُه : { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } ومنه الوكيل على المال ، ولذلك أطلق على هذا المعنى أيضاً اسم الكفيل في قوله تعالى : { وقد جعلتم اللَّه عليكم كفيلاً } .
وقد حمل الزمخشري الوكيل على ما يشمل هذا عند قوله تعالى : { وهو على كل شيء وكيل } في سورة [ الأنعام : 102 ] ، فقال : وهو مالك لكلّ شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال . وذلك يدل على أنّ الوكيل اسم جامع للرقيب والحافظ في الأمور التي يُعني الناس بحفظها ورقابتها وادّخارها ، ولذلك يتقيّد ويتعمّم بحسب المقامات .