القول في تأويل قوله تعالى : { مّا كَانَ عَلَى النّبِيّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مّقْدُوراً } .
يقول تعالى ذكره : ما كان على النبيّ من حرج من إثم فيما أحلّ الله له من نكاح امرأة من تَبَنّاه بعد فراقه إياها ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ما كانَ على النّبِيّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ للّهُ لَهُ : أي أحلّ الله له .
وقوله : سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِ يقول : لم يكن الله تعالى لُيؤْثِم نبيه فيما أحلّ له مثالَ فعله بمن قبله من الرسل الذين مضوا قبله في أنه لم يؤثمهم بما أحلّ لهم ، لم يكن لنبيه أن يخشى الناس فيما أمره به أو أحله له . ونصب قوله : سُنّةَ اللّهِ على معنى : حقا من الله ، كأنه قال : فعلنا ذلك سَنّةً منا .
وقوله : وكانَ أمْرُ اللّهِ قَدَرا مَقْدُورا يقول : وكان أمر الله قضاء مقضيا . وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وكانَ أمْرُ اللّهِ قَدَرا مَقْدُورا إن الله كان علمه معه قبل أن يخلق الأشياء كلها ، فأتمه في علمه أن يخلق خلقا ، ويأمرهم وينهاهم ، ويجعل ثوابا لأهل طاعته ، وعقابا لأهل معصيته فلما ائتمر ذلك الأمر قدّره ، فلما قدّره كتب وغاب عليه ، فسماه الغيب وأمّ الكتاب ، وخلق الخلق على ذلك الكتاب أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم ، وما يصيبهم من الأشياء من الرخاء والشدّة من الكتاب الذي كتبه أنه يصيبهم وقرأ : أُولَئِكَ يَنالَهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حتّى إذَا نَفِدَ ذَلكَ جَاءَتْهُمْ رُسُلَنا يَتَوَفّوْنَهُمْ ، وأمر الله الذي ائتمر قدره حين قدره مقدرا ، فلا يكون إلا ما في ذلك ، وما في ذلك الكتاب ، وفي ذلك التقدير ، ائتمر أمرا ثم قدره ، ثم خلق عليه ، فقال : كان أمر الله الذي مضى وفرغ منه ، وخلق عليه الخلق قَدَرا مَقْدُورا شاء أمرا ليمضي به أمره وقدره ، وشاء أمرا يرضاه من عباده في طاعته فلما أن كان الذي شاء من طاعته لعباده رضيه لهم ، ولما أن كان الذي شاء أراد أن ينفذ فيه أمره وتدبيره وقدره ، وقرأ : وَلَقَدْ ذَرأْنا لِجَهَنّمَ كَثِيرا مِنَ الجِنّ وَالإنْسِ فشاء أن يكون هؤلاء من أهل النار ، وشاء أن تكون أعمالهم أعمال أهل النار ، فقال : وكَذلكَ زَيّنا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ وقال : وكذلكَ زَيّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ هَذِهِ أعمالُ أهْلُ النّار وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ ، قال : وكَذلكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَياطِينَ . . . إلى قوله : وَلَوْ شاءَ رَبّكَ ما فَعَلُوهُ وقرأ : وأقْسَمُوا باللّهِ جَهْدَ أيمانِهِمْ . . . إلى كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ أن يؤمنوا بذلك ، قال : فأخرجوه من اسمه الذي تسمّى به ، قال : هو الفعّال لما يريد ، فزعموا أنه ما أراد .
استئناف لزيادة بيان مساواة النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في إباحة تزوج مطلقة دعيّه وبيان أن ذلك لا يخل بصفة النبوءة لأن تناول المباحات من سنة الأنبياء ، قال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً } [ المؤمنون : 51 ] ، وأن النبي إذا رام الانتفاع بمباح لميل نفسه إليه ينبغي له أن يتناوله لئلا يجاهد نفسه فيما لم يؤمر بمجاهدة النفس فيه ، لأن الأليق به أن يستبقي عزيمته ومجاهدته لدفع ما أمر بتجنبه .
وفي هذا الاستئناف ابتداء لنقض أقوال المنافقين أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة ابنه .
ومعنى : { فرض الله له } قدّره ، إذْ أَذِنَه بفعله . وتعدية فعل { فرض } باللام تدل على هذا المعنى بخلاف تعديته بحرف ( على ) كقوله : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } [ الأحزاب : 50 ] .
والسُّنَّة : السيرة من عمل أو خُلق يلازمه صاحبه . ومضى القول في هل السنة اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالى : { قد خلت من قبلكم سنن } في سورة آل عمران ( 137 ) ، وعلى الأول فانتصاب { سنة الله } هنا على أنه اسم وضع في موضع المصدر لدلالته على معنى فعل ومصدر . قال في « الكشاف » كقولهم : تُرباً وجندَلاً ، أي في الدعاء ، أي تَرب تُرباً . وأصله : تُرْب له وجندَلٌ له . وجاء على مراعاة الأصل قول المعري :
تمنتْ قُوَيْقاً والسراة حِيالها *** تُرَابٌ لها من أَينق وجِمال
ساقه مساق التعجب المشوب بغضب .
وعلى الثاني فانتصاب { سنة } على المفعول المطلق ، وعلى كلا الوجهين فالفعل مقدّر دل عليه المصدر أو نائبه . فالتقدير : سَنّ الله سنته في الذين خلوا من قبل .
والمعنى : أن محمداً صلى الله عليه وسلم متَّبع سُنَّة الأنبياء الذين سبقوه اتباعاً لما فرض الله له كما فرض لهم ، أي أباح .
والمراد ب { الذين خلوا } : الأنبياء بقرينة سياق لفظ النبي ، أي الذين خلوا من قبل النبوءة ، وقد زاده بياناً قوله : { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه } ، فالأنبياء كانوا متزوجين وكان لكثير منهم عدة أزواج ، وكان بعض أزواجهم أحب إليهم من بعضهن .
فإن وقفنا عند ما جاء في هذه الآية وما بيّنته الآثار الصحيحة فالعبرة بأحوال جميع الأنبياء .
وإن تلقَّيْنا بشيء من الإغضاء بعضَ الآثار الضعيفة التي أُلصِقت بقصة تزوج زينب كان داود عليه السلام عبرة بالخصوص فقد كانت له زوجات كثيرات وكان قد أحب أن يتزوج زَوجة ( أوريا ) وهي التي ضرب الله لها مثلاً بالخصم الذين تسَوّرُوا المحراب وتشاكوا بين يديه . وستأتي في سورة ص ، وقد ذكرت القصة في « سفر الملوك » . ومحلّ التمثيل بداود في أصل انصراف رغبته إلى امرأة لم تكن حلالاً له فصارت حلالاً له ، وليس محلّ التمثيل فيما حَفّ بقصة داود من لوم الله إياه على ذلك كما قال : { وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه } [ ص : 24 ] الآية لأن ذلك منتففٍ في قصة تزوّج زينب .
وجملة { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } معترضة بين الموصول والصفة إن كانت جملة { الذين يبلغون } صفة ل { الذين خلوا من قبل } ، أو تذييل مثل جملة { وكان أمر الله مفعولا } [ الأحزاب : 37 ] إن كانت جملة { الذين يبلغون } مستأنفة كما سيأتي ، والقول فيه مثل نظيره المتقدم آنفاً .
والقَدَر بفتح الدال : إيجاد الأشياء على صفة مقصودة وهو مشتق من القَدْر بسكون الدال وهو الكمية المحددة المضبوطة ، وتقدم في قوله تعالى : { فسالت أودية بقدرها } في سورة الرعد ( 17 ) وقوله : { وما ننزله إلا بقدر معلوم } في سورة الحجر ( 21 ) . ولما كان من لوازم هذا المعنى أن يكون مضبوطاً محكماً كثرت الكناية بالقدَر عن الإِتقان والصدور عن العلم . ومنه حديث : كل شيء بقضاء وقَدر ، أي من الله .
واصطلح علماء الكلام : أن القدَر اسم للإِرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه ، ويطلقونه على الشيء الذي تعلق به القدَر وهو المقدور كما في هذه الآية ، فالمعنى : وكان أمر الله مُقَدَّراً على حكمة أرادها الله تعالى من ذلك الأمر ، فالله لما أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بتزوج زينب التي فارقها زيد كان عالماً بأن ذلك لائق برسوله عليه الصلاة والسلام كما قدر لأسلافه من الأنبياء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.