22- ويقول إبليس - حين يقضى الله الأمر بتنعيم الطائعين وتعذيب العاصين - لمن اتبعه : إن الله تعالى وعدكم وعداً حقاً بالبعث والجزاء فأنجزه ، ووعدتكم وعداً باطلا بأن لا بعث ولا جزاء فأخلفتكم وعدي ، وما كان لي عليكم قوة أقهركم بها على اتباعي ، لكن دعوتكم بوسوستي إلى الضلالة فأسرعتم إلى طاعتي ، فلا تلوموني بوسوستي ، ولوموا أنفسكم على إجابتي وما أنا اليوم بمغيثكم من العذاب ، وما أنتم بمغيثيّ . إني جحدت اليوم إشراككم إياي مع الله في الدنيا حيث أطعتموني كما يطيع العبد ربه . إن الكافرين لهم عذاب مؤلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الشّيْطَانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إِنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ مّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيّ إِنّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : وقال إبليس لما قُضِي الأمر ، يعني لما أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار واستقرّ بكلّ فريق منهم قَرارهم : إن الله وعدكم أيها الأتباع النار ، ووعدتكم النّصْرة فأخلفتكم وعدي ، ووفى الله لكم بوعده . وَما كانَ لي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ يقول : وما كان لي عليكم فيما وعدتكم من النصرة من حجة تثبت لي عليكم بصدق قولي إلاّ أنْ دَعَوْتُكُمْ وهذا الاستثناء المنقطع عن الأوّل كما تقول : ما ضربته إلا أنه أحمق ، ومعناه : ولكن دعوتكم فاسْتَجَبْتُمْ لي يقول : إلا أن دعوتكم إلى طاعتي ومعصية الله ، فاستجبتم لدعائي . فَلا تَلُومُونِي على إجابتكم إياي وَلُومُوا أنْفُسَكُمْ عليها . ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ يقول : ما أنا بمغيثكم وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ ولا أنتم بمغيثيّ من عذاب الله فمنجّي منه . إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ يقول : إني جحدت أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني فيه من عبادتكم من قبلُ في الدنيا . إنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول : إنّ الكافرين بالله لهم عذاب أليم من الله مُوجع ، يقال : أصرخت الرجل : إذا أغثته إصراخا ، وقد صَرَخ الصارخ يَصْرُخ ، ويَصْرَخ قليلة وهو الصّريخ والصّراخ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر في هذه الاَية : ما أنا بمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمِصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ قال : خطيبان يقومان يوم القيامة : إبليس ، وعيسى ابن مريم فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول هذا القول وأما عيسى عليه السلام فيقول : ما قُلْتُ لَهُمْ إلاّ ما أمَرْتَنِي بِهِ أن اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ عَلى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، قال : يقوم خطيبان يوم القيامة : أحدهما عيسى ، والاَخر إبليس فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول : إنّ اللّهَ وَعَدكُمْ وَعْدَ الحَقّ فتلا داود حتى بلغ : بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ فلا أدري أتمّ الاَية أم لا ؟ وأما عيسى عليه السلام فيقال له : أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهْينِ مِنْ دُونِ اللّهِ فتلا حتى بلغ : إنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكيمُ .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عليّ بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، قال : يقول خطيبان يوم القيامة على رءوس الناس ، يقول الله عزّ وجلّ : يا عيسى ابن مريم أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ . . . إلى قوله : هَذّ يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ قال : ويقوم إبليس فيقول : وَما كانَ ليَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إلاّ أنْ دَعَوْتُكُم المثنى ، فاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا تَلُومُوني وَلُومُوا أنْفُسَكُمْ ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ وما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمغيثيّ .
حدثنا الحسين ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : ثني خالد ، عن داود ، عن الشعبي ، في قوله : ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ قال : خطيبان يقومان يوم القيامة فأما إبليس فيقول هذا وما عيسى فيقول : ما قُلْتُ لَهُمْ إلاّ ما أمَرْتَنِي بِهِ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن رشدين بن سعد ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن زياد ، عن دُخَين الحَجْرِي ، عن عقبة بن عامر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر الحديث قال : «يقول عيسَى : ذلِكُمُ النّبِيّ الأُمّيّ فَيَأْتُونَنِي ، فَيأْذَنُ اللّهُ لي أنْ أقُومَ فَيَثُورُ مِنْ مَجْلِسِي مِنْ أطْيَبِ رِيحٍ شَمّها أحَدٌ حتى آتِىَ رَبّي ، فَيُشَفعّنِي ، وَيَجْعَلَ لِي نُورا إلى نُورٍ مِنْ شَعْرِ رأسِي إلى ظُفْرِ قَدَمي ، ثُمّ يَقولُ الكافِرُونَ : قَدْ وَجَدَ المُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ فَقُمْ أنْتَ فاشْفَع لَنا ، فإنّكَ أنْتَ أضْلَلْتَنا ، فَيَقُومُ فَيَثُورُ مِنْ مَجْلِسِهِ أنْتَنُ رِيحٍ شَمّها أحَدٌ ، ثُمّ يَعْظُمُ نَحِيبُهُمْ ، وَيَقُولُ عِنْدَ ذلكَ : إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوَعَدْتُكُمْ فأخْلَفْتُكمْ . . . الاَية » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن ، في قوله : وَما كانَ ليَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ قال : إذا كان يوم القيامة ، قام إبليس خطيبا على منبر من نار ، فقال : إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوَعَدْتُكُمْ فأخْلَفْتُكُمْ . . . إلى قوله : وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ قال : بناصريّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ قال : بطاعتكم إياي في الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك عمن ذكره ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظي ، قال في قوله : وَقالَ الشّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ قال : قام إبليس يخطبهم فقال : إنّ اللّهَ وَعْدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ . . . إلى قوله : ما أنا بِمْصْرِخِكُمْ يقول : بمغن عنكم شيئا ، وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْركْتُمُونَ مِنْ قَبْلُ قال : فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم ، قال : فنودوا : لَمَقْتُ اللّهِ أكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أنْفُسَكُمْ . . . الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمغيثيّ .
وقوله : إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ يقول : عصيت الله قبلكم .
حدثني محمدبن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ قال : هذا قول إبليس يوم القيامة ، يقول : ما أنتم بنافعيّ وما أنا بنافعكم ، إني كفرت بِمَا أشركتمونِ من قبل قال : شرِكته : عبادته .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : بِمُصْرِخِيّ قال : بمغيثيّ .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : ما أنا بمنجيكم وما أنتم بمنجيّ .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : خطيب السوء إبليس الصادق ، أفرأيتم صادقا لم ينفعه صدقه إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوَعَدْتُكُمْ فأخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ ليَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أقهركم به ، إلاّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فاسْتَجَبْتُمْ لي قال : اطعتموني ، فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أنْفُسَكُمْ حين أطعتموني ، ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ ما أنا بناصركم ولا مغيثكم ، وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ : وما أنتم بناصريّ ولا مغيثيّ لما بي ، إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن الحكم ، عن عمرو بن أبي ليلى أحد بني عامر ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظيّ يقول : وَقالَ الشّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ قال : قام أبليس عند ذلك ، يعني حين قال أهل جهنم : سَوَاءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا مالَنا مِنْ مَحِيصٍ ، فخطبم فقال : إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ ، وَوَعَدْتُكُمْ فأخْلَفْتُكُمْ . . . إلى قوله : ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ يقول : بمغن عنكم شيئا ، وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ قال : فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم ، قال : فنودوا : لَمَقْتُ اللّهِ أكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ .
المراد هنا ب { الشيطان } إبليس الأفذم نفسه ، وروي في حديث عن النبي عليه السلام - من طريق عقبة بن عامر - أنه قال : «يقوم يوم القيامة خطيبان : أحدهما إبليس يقوم في الكفرة بهذه الألفاظ ، والآخر عيسى ابن مريم يقوم بقوله : { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به }{[7048]} [ المائدة : 117 [ ، وقال بعض العلماء : يقوم إِبليس خطيب السوء ، الصادق بهذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذه الرواية يكون معنى قوله : { قضي الأمر } أي حصل أهل النار في النار ، وأهل الجنة في الجنة ، وهو تأويل الطبري .
قال القاضي أبو محمد : و { قضي } قد يعبر عنها في الأمور عن فعل كقوله تعالى : { وقضي الأمر واستوت على الجودي }{[7049]} [ هود : 44 ] وقد يعبر بها عن عزم على أن يفعل ، كقوله : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان }{[7050]} [ يوسف : 41 ] .
و { الوعد } في هذه الآية على بابه في الخير ، أي إن الله وعدهم النعيم إن آمنوا ، ووعدهم إبليس الظفر والأمر إن كذبوا ، ومعلوم اقتران وعد الله بوعيده ، واتفق أن لم يتبعوا طلب وعد الله فوقعوا في وعيده ، وجاء من ذلك كأن إبليس أخلفهم . وال { سلطان } الحجة البينة ، وقوله : { إلا أن دعوتكم } استثناء منقطع{[7051]} ، و { أن } في موضع نصب ، ويصح أن تكون في موضع رفع على معنى : إلا أن النائب عن السلطان ، إن دعوتكم فيكون هذا في المعنى كقول الشاعر : [ الوافر ]
تحية بينهم ضرب وجيع{[7052]} . . . ومعنى قوله : { فاستجبتم لي } أي رأيتم ما دعوتكم إليه ببصيرتكم واعتقدتموه الرأي وأتى نظركم عليه .
قال القاضي أبو محمد : وذكر بعض الناس أن هذا المكان يبطل منه التقليد ، وفي هذه المقالة ضعف على احتمالها ، والتقليد وإن كان باطلاً ففساده من غير هذا الموضع .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد ب » السلطان «في هذه الآية الغلبة والقدرة والملك ، أي ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة مني ، بل عرضت عليكم شيئاً ، فأتى رأيكم عليه .
وقوله : { فلا تلوموني } يريد بزعمه إذ لا ذنب لي { ولوموا أنفسكم } في سوء نظركم وقلة تثبتكم فإنكم إنما أتيتم اتباعي عن بصيرة منكم وتكسب . و » المصرخ «المغيث ، والصارخ : المستغيث . ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع . . . كان الصراخ له قطع الظنابيب{[7053]}
فيقال : صرخ الرجل ، وأصرخ غيره ، وأما الصريخ فهو مصدر بمنزلة البريح{[7054]} ، ويوصف به ، كما يقال : رجل عدل ونحوه .
وقرأ حمزة والأعمش وابن وثاب » بمصرخي «بكسر الياء تشبيهاً لياء الإضمار بهاء الإضمار في قوله : مصرخيه ، ورد الزجاج هذه القراءة ، وقال ردية مرذولة{[7055]} ، وقال فيها القاسم بن معن : إنها صواب ، ووجهها أبو علي وحكى أبو حاتم : أن أبا عمرو حسنها ، وأنكر أبو حاتم على أبي عمرو{[7056]} .
وقوله : { بما أشركتمون } أي مع الله تعالى في الطاعة لي التي ينبغي أن يفرد الله بها ، ف «ما » مصدرية ، وكأنه يقول : إني الآن كافر بإشراككم أيأي مع الله قبل هذا الوقت .
قال القاضي أبو محمد : فهذا تبر منه ، وقد قال الله تعالى : { ويوم القيامة يكفرون بشرككم }{[7057]} [ فاطر : 14 ] ويحتمل أن يكون اللفظ إقراراً على نفسه بكفره الأقدم ، فتكون «ما » بمعنى الذي ، يريد الله تعالى ، أي خطيئتي قبل خطيئتكم ، فلا إصراخ عندي{[7058]} ، وباقي الآية بين .
أفضت مجادلة الضعفاء وسادتهم في تغريرهم بالضلالة إلى نطق مصدر الضلالة وهو الشيطان ؛ إما لأنهم بعد أن اعتذر إليهم كبراؤهم بالحرمان من الهدى علموا أن سبب إضلالهم هو الشيطان لأن نفي الاهتداء يرادفه الضلال ، وإما لأن المستكبرين انتقلوا من الاعتذار للضعفاء إلى ملامة الشيطان الموسوس لهم ما أوجب ضلالهم ، وكل ذلك بعلم يقع في نفوسهم كالوجدان . على أن قوله : { فلا تلوموني } يظهر منه أنه توجه إليه ملام صريح ، ويحتمل أنه توقّعه فدفعه قبل وقوعه وأنه يتوجه إليه بطريقة التعريض ، فجملة { وقال الشيطان } عطف على جملة { فقال الضعفاء .
والمقصود من وصف هذا الموقف إثارة بغض الشيطان في نفوس أهل الكفر ليأخذوا حذرهم بدفاع وسواسه لأن هذا الخطاب الذي يخاطبهم به الشيطان مليء بإضماره الشر لا لهم فيما وعدهم في الدنيا مما شأنه أن يستفز غضبهم من كيده لهم وسخريته بهم ، فيورثهم ذلك كراهية له وسوء ظنهم بما يتوقعون إتيانه إليهم من قِبَله . وذلك أصل عظيم في الموعظة والتربية .
ومعنى قضى { الأمر } تُمّم الشأن ، أي إذن الله وحكمه . ومعنى إتمامه : ظهوره ، وهو أمره تعالى بتمييز أهل الضلالة وأهل الهداية ، قال تعالى : { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } [ سورة يس : 59 ] ، وذلك بتوجيه كل فريق إلى مقره الذي استحقه بعمله ، فيتصدى الشيطان للتخفيف عن الملام عن نفسه بتشريك الذين أضلهم معه في تبعة ضلالهم ، وقد أنطقه الله بذلك لإعلان الحق ، وشهادة عليهم بأن لهم كسباً في اختيار الانصياع إلى دعوة الضلال دون دعوة الحق . فهذا شبيه شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقولها لهم : { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } إظهاراً للحقيقة وتسجيلاً على أهل الضلالة وقمعاً لسفسطتهم .
وأخبر الله بها الناس استقصاء في الإبلاغ ليحيط الناس علماً بكل ما سيحل بهم ، وإيقاظاً لهم ليتأملوا الحقائق الخفية فتصبح بينة واضحة . فقول الشيطان { فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } إبطال لإفراده باللوم أو لابتداء توجيه الملام إليه في حين أنهم أجدر باللوم أو بابتداء توجيهه .
وأما وقع كلام الشيطان من نفوس الذين خاطبهم فهو موقع الحسرة من نفوسهم زيادة في عذاب النفس .
وإضافة { وعد } إلى { الحق } من إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف ، أي الوعد الحق الذي لانقض له .
والحق : هنا بمعنى الصدق والوفاء بالموعود به . وضده : الإخلاف ، ولذلك قال : { ووعدتكم فأخلفتكم } [ سورة إبراهيم : 22 ] ، أي كذبتُ موعدي . وشمل وعد الحق جميع ما وعدهم الله بالقرآن على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام . وشمل الخُلْف جميعَ ما كان يعدهم الشيطان على لسان أوليائه وما يعدهم إلا غرورا .
والسلطان : اسم مصدر تسلط عليه ، أي غلبه وقهره ، أي لم أكن مجبراً لكم على اتباعي فيما أمرتكم .
والاستثناء في { إلا أن دعوتكم } استثناء منقطع لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله . فالمعنى : لكني دعوتكم فاستجبتم لي .
وتفرع على ذلك { فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } . والمقصود : لوموا أنفسكم ، أي إذ قبلتم إشارتي ودعوتي . وقد تقدم بيانه صدْرَ الكلام على الآية .
ومجموع الجملتين يفيد معنى القصر ، كأنه قال : فلا تلوموا إلاّ أنفسكم ، وهو في معنى قصر قلب بالنسبة إلى إفراده باللوم وحقهم التشريك فقلب اعتقادهم إفراده دون اعتبار الشركة ، وهذا من نادر معاني القصر الإضافي ، وهو مبني على اعتبار أجدر الطرفين بالرد ، وهو طرف اعتقاد العكس بحيث صار التشريك كالملغى لأن الحظ الأوفر لأحد الشريكين .
وجملة { ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي } ، بيان لجملة النهي عن لَومه لأن لومه فيه تعريض بأنهم يتطلبون منه حيلة لنجاتهم ، فنفي ذلك عن نفسه بعد أن نهاهم عن أن يلوموه .
والإصراخ : الإغاثة ، اشتق من الصُراخ لأن المستغيث يصرخ بأعلى صوته ، فقيل : أصرخه ، إذا أجاب صُراخه ، كما قالوا : أعتبه ، إذا قبل استعتابه . وأما عطف { وما أنتم بمصرخي } فالمقصود منه استقصاء عدم غناء أحدهما عن الآخر .
وقرأ الجمهور { بِمُصرِخيَّ } بفتح التحتية مشددةً . وأصله بمصرخِييَ بياءين أولاهما ياء جمع المذكر المجرور ، وثانيتهما ياء المتكلم ، وحقها السكون فلما التقت الياءان ساكنتين وقع التخلص من التقاء الساكنين بالفتحة لخفة الفتحة .
وقرأ حمزة وخلَف « بِمُصرِخيِّ » بكسر الياء تخلصاً من التقاء الساكنين بالكسرة لأن الكسر هو أصل التخلص من التقاء الساكنين . قال الفراء : تحريك الياء بالكسر لأنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين ، إلا أن كسر ياء المتكلم في مثله نادر . وأنشد في تنظير هذا التخلص بالكسر قول الأغلب العِجْلي :
قال لها هل لككِ يا تَا فيَّ *** قالت له : ما أنتَ بالمرضيِّ
أراد هل لككِ فيّ يا هذه . وقال أبو علي الفارسي : زعم قطرب أنها لغة بني يربوع . وعن أبي عمرو بن العلاء أنه أجاز الكسر . واتفق الجميع على أن التخلص بالفتحة في مثله أشهر من التخلص بالكسرة وإن كان التخلص بالكسرة هو القياس ، وقد أثبته سند قراءة حمزة . وقد تحامل عليه الزجاج وتبعه الزمخشري وسبقهما في ذلك أبو عُبيد والأخفش بن سعيد وابن النحاس ولم يطلع الزجاج والزمخشري على نسبة ذلك البيت للأغلب العِجلي .
والذي يظهر لي أن هذه القراءة قرأ بها بنو يَربوع من تميم ، وبنو عِجل بن لُجيم من بكر بن وائل ، فقرأوا بلهجتهم أخذاً بالرخصة للقبائل أن يقرأوا القرآن بلهجاتهم وهي الرخصة التي أشار إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه " كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير ، ثم نسخت تلك الرخصة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الأعوام الأخيرة من حياته المباركة ولم يثبت مما ينسخها في هذه الآية .
واستقر الأمر على قبول كل قراءة صح سندها ووافقت وجهاً في العربية ولم تخالف رسم المصحف الإمام . وهذه الشروط متوفرة في قراءة حمزة هذه كما علمت آنفاً فقصارى أمرها أنها تتنزل منزلة ما ينطق به أحد فصحاء العرب على لغة بعض قبائلها بحيث لو قرىء بها في الصلاة لصحت عند مالك وأصحابه .
وجملة { إنى كفرت بما أشركتمون من قبل } استئنافُ تَنَصُّل آخر من تبعات عبادتهم إياه قصد منه دفع زيادة العذاب عنه بإظهار الخضوع لله تعالى . وأراد بقوله : { كفرتُ } شدة التبري من إشراكهم إياه في العبادة فإن أراد من مضي { كفرت } مضي الأزمنة كلها ، أي كنت غير راضضٍ بإشراككم إياي فهو كذب منه أظهر به التذلل ؛ وإن كان مراده من المضي إنشاء عدم الرضى بإشراكهم إياه فهو ندامة بمنزلة التوبة حيث لا يقبل متاب . و { من قبل } على التقديرين متعلق ب { أشركتمون } .
والإشراك الذي كفر به إشراكهم إياه في العبادة بأن عبدوه مع الله لأن من المشركين من يعبدون الشياطين والجن ، فهؤلاء يعبدون جنس الشيطان مباشرة ، ومنهم من يعبدون الأصنام فهم يعبدون الشياطين بواسطة عبادة آلهته .
وجملة { إن الظالمين لهم عذاب أليم } من الكلام المحكي عن الشيطان . وهي في موقع التعليل لما تقدم من قوله : { ما أنا بمصرخكم } ، أي لأنه لا يدفع عنكم العذاب دَافع فهو واقع بكم .