قوله تعالى : { وَعْدَ الْحَقِّ } : يجوز أن يكونَ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه ، أي : الوعد الحق ، وأن يرادَ بالحق صفةُ الباري تعالى ، أي : وَعَدَكم الله وَعْدَه ، وأن يراد بالحقِّ البعثُ والجزاءُ على الإِجمال ، فتكونَ إضافةً صريحةً .
قوله : { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنَّ دعاءَه ليس من جنسِ السلطانِ وهو الحُجَّةُ البيِّنَةُ . والثاني : أنه متصلٌ ، لأنَّ القدرةَ على حَمْلِ الإنسانِ على الشرِّ تارةً تكون بالقَهْرِ ، وتارةً تكون بقوة الداعية في قلبه ، وذلك بالوسوسة إليه فهو نوعٌ من التسلُّطِ .
وقُرِئَ " فلا يَلُوْموني " بالياء من تحتُ على الالتفاتِ ، كقولِه : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
قوله : { بِمُصْرِخِيَّ } العامَّةُ على فتحِ الياءِ ؛ لأنَّ الياءَ المدغمَ فيها تُفْتَحُ أبداً لا سيما وقبلها كسرٌ ثانٍ . وقرأ حمزةُ بكسرِها ، وهي لغةُ بني يَرْبوع . وقد اضطربت أقوالُ الناس في هذه القراءةِ اضطراباً شديداً : فمِنْ مُجْتَرِئٍ عليها مُلَحِّنٍ لقارئها ، ومِنْ مُجَوِّزٍ لها من غير ِ ضعفٍ ، ومِنْ مجوِّزٍ لها بضعفٍ .
قال حسين الجعفي : " سألتُ أبا عمروٍ عن كسرِ الياءِ فأجازه " . وهذه الحكايةُ تُحكى عنه بطرقٍ كثيرة ، منها ما تقدَّم ، ومنها : " سألت أبا عمروٍ وقلت : إن أصحابَ النحوِ يُلْحِّنُوننا فيها فقال : هي جائزة أيضاً ، إنما أراد تحريك الياء ، فلستَ تبالي إذا حَرَّكْتَها إلى أسفلَ أم إلى فوقُ " . وعنه : مَنْ شاء فتحَ ، ومَنْ شاء كسر ، ومنها أنه قال : إنها بالخفضِ حسنةٌ . وعنه قال : قَدِم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألتُه عن القرآن فوجدْتُه به عالماً ، فسألتُه عن شيء [ مِنْ ] قراءة الأعمش واستشعرتُه { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } بالجرِّ فقال : هي جائزةٌ ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمشُ أَخَذْتُ بها .
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمروٍ تحسينَه لهذه القراءةِ ، ولا التفاتَ إليه لأنه عَلَمٌ من اعلامِ القرآن واللغةِ والنحوِ ، واطَّلع على ما لم يطَّلع عليه [ مَنْ فوقَ السجستاني ] :
وابنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ *** لم يستطعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القناعيسِ
ثم ذكر العلماءُ في ذلك توجيهات : منها أنَّ الكسرَ على أصلِ التقاءِ الساكنين ، وذلك أنَّ/ ياءَ الإِعرابِ ساكنةٌ ، وياءَ المتكلمِ أصلُها السكونُ ، فلمَّا التقيا كُسِرَتْ لالتقاء الساكنين . الثاني : أنها تُشْبِهُ هاءَ الضميرِ في أنَّ كلاًّ منهما ضميرٌ على حرف واحد ، وهاءُ الضميرِ تُوْصَلُ بواوٍ إذا كانت مضمومةً ، وبياءٍ إذا كانت مكسورة ، وتُكْسَرُ بعد الكسرةِ والياءِ الساكنة ، فَتُكْسَرُ كما تُكْسَرُ الهاءُ في " عليْهِ " ، وبنو يربوعٍ يَصِلونها بياءٍ ، كما يَصِل ابن كثير نحو : " عليهي " بياء ، فحمزةُ كسرَ هذه الياءَ من غير صلةٍ ، إذ أصلُه يقتضي عدَمها . وزعم قطرب أيضاً أنها لغةُ بني يربوع ، قال : يزيدون على ياء الإِضافة ياءً ، وأنشد :
ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضِيِّ *** قال لها : هل لكِ ياتا فِيَّ
أنشده الفراء وقال : " فإنْ يَكُ ذلك صحيحاً فهو ممَّا يلتقي من الساكنين " . وقال أبو عليّ : " قال الفراء في كتاب " التصريف " له : زعم القاسم بن معن أنه صوابٌ ، وكان ثقةً بصيراً " .
ومِمَّن طعن عليها أبو إسحاقَ قال : " هذه القراءةُ عند جميعِ النحويين رديئةٌ مَرْذُوْلَةٌ ولا وجهَ لها إلا وجهٌ ضعيفٌ " . وقال أبو جعفر : " صار هذا إدغاماً ، ولا يجوز أن يُحْمل كتابُ اللهِ تعالى على الشذوذ " . وقال الزمخشري : " هي ضعيفةٌ ، واستشهدوا لها ببيتٍ مجهول :
قال لها : هل لكِ ياتا فِيَّ *** قالت له : ما أنت بالمَرْضِيِّ
وكأنه قدَّر ياء الإِضافة ساكنةً ، وقبلها ياءٌ ساكنة ، فحرَّكها بالكسر لِما عليه أصلُ التقاءِ الساكنين ، ولكنه غيرُ صحيحٍ ؛ لأنَّ ياءَ الإِضافةِ لا تكونُ إلا مفتوحةً حيث قَبْلها ألفٌ نحو : " عصايَ " فما بالُها وقبلَها ياءٌ ؟ فإن قلتَ : جَرَتِ الياءُ الأولى مَجْرى الحرفِ الصحيح لأجل الإِدغامِ فكأنها ياءٌ وقعَتْ [ ساكنةً " بعد حرفٍ صحيحٍ ساكنٍ فَحُرِّكَتْ بالكسرِ على الأصل . قلت : هذا قياسٌ حسنٌ ، ولكن الاستعمالَ المستفيضَ الذي هو بمنزلةِ الخبرِ المتواترِ تتضاءلُ إليه القياساتُ " .
قال الشيخ : " أمَّا قولُه " واستشهدوا لها ببيتٍ مجهولٍ ، فقد ذكر غيرُهُ أنه للأغلبِ العجليّ ، وهي لغةٌ باقيةٌ في أفواهِ كثيرٍ من الناس إلى اليوم يقولون : " ما فِيَّ أفعلُ " بكسر الياء " . قلت : الذي ذكر صاحبَ هذا الرجزِ هو الشيخُ أبو شامةَ ، قال : " ورأيتُه أنا في أول ديوانِه ، وأولُ هذا الرجز :
أقبل في ثَوْبٍ مَعافِرِيِّ *** عند اختلاط الليلِ والعَشيِّ
ثم قال الشيخ : " وأمَّا التوجيهُ الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عنه الزجَّاج . وأمَّا قولُه في غضونِ كلامِه " حيث قبلها ألفٌ " فلا أعلم " حيث " تضاف إلى الجملةِ المصدرةِ بالظرف نحو : " قعد زيد حيث أمام عمروٍ بكر " فيحتاج هذا التركيب إلى سماعٍ " قلت : إطلاقُ النحاةِ قولَهم : إنها تضافُ إلى الجملِ كافٍ في هذا ، ولا يُحتاج [ إلى ] تَتَبُّع كلِّ فردٍ فردٍ ، مع إطلاقِهم القوانينَ الكلية .
ثم قال : وأمَّا قولُه " ياء الإِضافةِ إلا آخره " قد رُوي سكونُ الياءِ بعد الألف ، وقد قرأ بذلك القراءُ نحو " محياْيْ " . قلت : مجيءُ السكون في هذه الياءِ لا يُفيده ههنا ، وإنما كان يفيده لو جاء بها مكسورةً بعد الألف فإنه مَحَلُّ البحثِ . وأنشد النحاة بين الذبياني بالكسرِ والفتحِ ، وهو قوله :
عليَّ لِعمروٍ نِعْمةٌ بعد نعمةٍ *** لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقارِبِ
وقال الفراء في كتاب " المعاني " له : " وقد خَفَضَ الياء مِنْ " بمُصْرِخِيِّ " الأعمشُ ويحيى بنُ وثاب جميعاً ، حدَّثني بذلك القاسمُ بن مَعْن عن الأعمش ، ولعلها مِنْ وَهْم القرَّاء ، فإنه قَلَّ مَنْ سَلِمَ منهم مِنَ الوَهْمِ ، ولعله ظنَّ أن الباءَ في " بمُضْرِخِيَّ " خافضةٌ للفظِ كلِّه ، والياءُ للمتكلم خارجةٌ من ذلك " .
قال : " ومما نرى أنهم وَهِمُوا فيه قوله : { نُوَلِّهْ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهْ جَهَنَّمَ } بالجزم في الهاء " . ثم ذكر غيرَ ذلك .
وقال أبو عبيد : " أمَّا الخفضُ فإنَّا نراه غلطاً ، لأنهم ظنُّوا أن الباءَ تُكْسِرُ كلَّ ما بعدها ، وقد كان في القرَّاء مَنْ يجعله لحناً ، ولا أحبُّ أن أبلغَ به هذا كلِّه ، ولكنَّ وجهَ القراءةِ عندنا غيرُها " .
قال الأخفش : " ما سَمِعْتُ بهذا مِنْ أحد من العرب ولا من أحدٍ من النحويين " . قال النحاس : " فصار هذا إجماعاً " .
قلت : ولا إجماعَ . فقد تقدَّم ما حكاه الناسُ من أنها لغةٌ ثانيةٌ لبعضِ العربِ . وقد انتدب لنُصرةِ هذه القراءة أبو عليٍّ الفارسيّ ، قال في " حُجَّته " . " وجهُ ذلك أن الياءَ ليسَتْ تخلُو مِنْ أَنْ تكونَ في موضعِ نصبٍ أو جرّ ، فالياءُ في النصبِ والجرِّ كالهاء فيهما ، وكالكاف في " أكرمتُك " و " هذا لك " ، فكما أنَّ الهاءَ قد لحقَتْها الزيادةُ في هذا : لهُوْ ، وضَرَبَهُوْ ، / ولحقَ الكاف أيضاً الزيادةُ في قولِ مَنْ قال " أَعْطَيْتُكاه " و " أَعْطَيْتُكِيْه " فيما حكاه سيبويه ، وهما أختا الياء ، ولحقت التاءَ الزيادةُ في قول الشاعر :
رَمَيْتِيْهِ فَأَصْمَيْتِ *** وما أَخْطَأْتِ [ في ] الرَّمْيَهْ
كذلك ألحقوا الياءَ الزيادةَ مِن المدِّ فقالوا : " فِيَّ " ، ثم حُذِفَتْ الياءُ الزائدةُ على الياءِ كما حُذِفَتِ الزيادةُ مِن الهاء في قولِ مَنْ قال :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . لَهْ أَرِقانِ
قلت : مرادُ أبي عليٍّ بالتنظير بالبيت في قولِه : " لَهْ أَرِقان " حَذْفُ الصلةِ ، واتفق أن في البيت أيضاً حَذْفَ الحركةِ ، ولو مَثَّل بنحو " عليهِ " و " فيهِ " لكن أولى .
ثم قال الفارسيُّ : " كما حُذِفَتْ الزيادةُ من الكاف فقيل : أعطيتكَهُ وأَعْطَيْتُكِهِ ، كذلك حُذِفت الياءُ اللاحقةُ للياء كما حُذِفَتْ من أُخْتَيْها ، وأُقِرَّتْ الكسرةُ التي كانت تلي الياء المحذوفةَ فبقيت الياءُ على ما كانت عليه من الكسرِ " . قال : " فإذا كانت الكسرةُ في الياء على هذه اللغةِ - وإن كان غيرُها أَفْشى منها ، وعَضَدَه مِن القياسِ ما ذكرناه لم يَجُزْ لقائلٍ أن يقول : إن القراءةَ بذلك لحنٌ لاستقامةِ ذلك في السماعِ والقياسِ ، وما كان كذلك لا يكون لحناً " .
قلت : وهذا التوجيهُ هو توضيحٌ للتوجيه الثاني الذي قدَّمْتُ ذِكْرَه . وأما التوجيهُ الأولُ فأوضحه الفراءُ أيضاً ، قال الزجاج : " أجاز الفراء على وجهٍ ضعيفٍ الكسرَ لأنَّ أصلَ التقاءِ الساكنين الكسرُ " .
قال الفراء : " ألا ترى أنهم يقولون : مُذُ اليومِ ، ومُذِ اليوم ، والرفعُ في الذال هو الوجهُ ، لأنه أصلُ حركةِ " منذ " ، والخفضُ جائزٌ ، فكذلك الياءُ من " مُصْرِخيَّ " خُفِضَتْ ولها أصلٌ في النصب " .
قلت : تشبيهُ الفراءِ المسألةَ ب " مذ اليوم " فيه نظر ؛ لأنَّ الحرفَ الأولَ صحيحٌ ، ولم يتوالَ قبله كَسْرٌ بخلافِ ما نحن فيه ، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ بقوله فيما قدَّمْتُه عنه : " فكأنها وقعَتْ بعد حرفٍ صحيح " . وقد اضطرب النقلُ عن الفراء في هذه المسألةِ كما رأيْتَ " مِنْ نَقْلِ بعضِهم عنه التخطئةَ مرةً ، والتصويبَ أخرى ، ولعل الأمرَ كذلك ، فإنَّ العلماءَ يُسأَلُونَ فيُجيبون بما يَحْضُرهم حالَ السؤالِ وهي محتلفةٌ .
التوجيهُ الثالث : أنَّ الكسرَ للإِتباع لِما بعدها ، وهو كسرُ الهمزِ من " إنِّي " كقراءةِ " الحمدِ لله " ، وقولهم " بِعِير وشِعِير وشِهيد ، بكسر أوائِلها إتباعاً لما بعدها ، وهو ضعيفٌ جداً .
التوجيه الرابع : أنَّ المسوِّغ لهذا الكسرِ في الياء وإن كان مستثقلاً أنَّها لَمَّا أُدْغِمَتْ فيها التي قبلها قَوِيَتْ بالإِدغام ، فأشبهتِ الحروفَ الصِّحاحَ فاحتملتِ الكسرَ ؛ لأنه إنما يُسْتَثْقَلُ فيها إذا خَفَّتْ وانكسر ما قبلها ، ألا ترى أن حركاتِ الإِعرابِ تجري على المشدِّدِ وما ذاك إلاَّ لإِلحاقِه بالحروفِ الصِّحاح .
والمُصْرِخُ : المُغِيْث يُقال : اسْتَصْرَخْتُه فَأَصْرَخَني ، أي : أعانني ، وكأنَّ همزتَه للسَّلْب ، أي : أزال صُراخي . والصَّارخ هو المستغيثُ . قال الشاعر :
ولا تَجْزَعوا إني لكمْ غيرُ مُصْرِخٍ *** وليس لكم عندي غَناءٌ ولا نَصْرُ
ويُقال : صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخاً وصُراخاً وصَرْخَة . قال :
كنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ *** كان الصُّراخُ له قَرْعَ الظَّنابيبِ
يريد : كان بدل الإِصراخ ، فحذف المضافَ ، أقام مصدرَ الثلاثي مُقام مصدرِ الرباعي نحو : { وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والصَّريْخُ : القومُ المُسْتَصْرِخُونَ قال :
قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ *** ما بين مُلْجِمِ مُهْرِهِ أو سافِِعِ
والصَّريخُ أيضاً : المُغِيثون فهو من الأضداد ، وهو محتملٌ أَنْ يكون وَصْفاً على فَعِيْل كالخَليط ، وأن يكونَ مصدراً في الأصل . وقال : { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } [ يس : 43 ] فهذا يُحتمل أن يكونَ مصدراً ، وأن يكونَ فعيلاً بمعنى المُفْعِل ، أي : فلا مُصْرِخَ لهم ، أي : ناصر ، وتَصَرَّخ : تكلَّف الصُّراخ .
قوله : { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ } يجوزُ في " ما " وجهان : أحدُهما : أَنْ تكونَ بمعنى الذي . ثم في المراد بهذا الموصولِ وجهان ، أحدُهما : أنه الأصنامُ ، تقديرُه : بالصنمِ الذي أطعتموني كما أَطَعْتُمُوه ، كذا قال أبو البقاء ، والعائدُ محذوفٌ ، فقدَّره أبو البقاء : بما أشركتموني به ، ثم حُذِفَ ، يعني بعد حذف الجارِّ ووصولِ/ الفعلِ إليه ، ولا حاجةَ إلى تقديرِه مجروراً بالباء ؛ لأنَّ هذا الفعلَ متعدٍّ لواحدٍ نحو : شَرَكْتُ زيداً ، فلمَّا دَخَلَتْ همزةُ النقل أَكْسَبته ثانياً هو العائد ، تقول : أَشْرَكْتُ زيداً عمراً ، جعلتُه شريكاً له .
الثاني : أنه الباري تعالى ، أي : بما أشركتموني ، أي : بالله تعالى ، والكلامُ في العائدِ كما تقدَّم ، إلا أنَّ فيه إيقاعَ " ما " على مَنْ يَعْلَمُ ، والمشهورُ فيها أنها لغير العاقل .
قال الزمخشريُّ : " ونحو : " ما " هذه " ما " في قولهم " سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ " ، ومعنى إشراكهم الشيطانَ بالله تعالى طاعتُهم له فيما كان يُزَيِّنُه لهم مِنْ عبادةِ الأوثانِ " . قال الشيخ : " ومن مَنَع ذلك جَعَل " سبحان " عَلَماً للتسبيح كما جعل " بَرَّة " عَلَماً للمَبَرَّة ، و " ما " مصدرية ظرفية " ، أي : فيكون على حذفِ مضافٍ ، أي : سبحانَ صاحبِ تسخيرِكنَّ ؛ لأنَّ التسبيحَ لا يليقُ إلاَّ بالله .
الثاني من الوجهين الأولين : أنها مصدريةٌ ، أي : بإشراككم إياي .
قوله : { مِن قَبْلُ } متعلِّقٌ ب " كَفَرْتُ " على القولِ الأول ، أي : كفرتُ مِنْ قبلُ ، حين أَبَيْتُ السجودَ لآدمَ بالذي أشركتمونيه وهو اللهُ تعالى ، و ب " أشركْتُ " على الثاني ، أي : كفرتُ اليومَ بإشراكِكم إيَّاي مِنْ قبلِ هذا اليوم ، أي في الدنيا ، كقوله : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] هذا قولُ الزمخشريِّ . وأمَّا أبو البقاء فإنه جَوَّز تعلُّقَه بكفرْتُ وبأشركتموني ، من غير ترتيبِ على كون " ما " مصدريةً أو موصولية فقال : " ومِنْ قبلُ : متعلِّقٌ بأشركتموني ، أي : كفرْتُ الآن أَشْرَكتموني مِنْ قبل . وقيل : وهي متعلِّقةٌ ب " كفرتُ " أي : كَفَرْتُ مِنْ قبلِ إشراكِكم فلا أنفعُكم شيئاً " .
وقرأ أبو عمروٍ وبإثباتِ الياء في " أشركتموني " وصْلاً وحَذْفِها وقفاً ، وحَذَفها الباقون وصلاً ووقفاً .
وهنا تمَّ كلامُ الشيطان . وقوله : { إِنَّ الظَّالِمِينَ } مِنْ كلامِ الله تعالى ، ويجوز أن يكونَ مِنْ كلامِ الشيطان . و " عذاب " يجوز رَفْعُه بالجارِّ قبلَه على أنه الخبر ، وعلى الابتداءِ وخبرُه الجارُّ .