غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (22)

18

يروى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً في النار فيقول : { إن الله وعدكم وعد الحق } وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافرون قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول " ووعد الحق من إضافة الموصوف إلى صفته مثل " مسجد الجامع " ، أو تأويله وعد اليوم الحق ، أو الأمر الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال . وفي الآية إضماران : الأول وعدكم وعد الحق فوفى لكم بما وعدكم . الثاني ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم الوعد . ووجه الإضمار الأول دلالة الحال عليه لأنهم كانوا يشاهدون وليس وراء العيان بيان ، ولأن ذكر نقيضه وهو إخلاف الوعد من الشيطان يغني عنه ، ووجه الثاني أيضاً مثل ذلك . ثم ذكر طريق وسوسته اعتذاراً منهم فقال : { وما كان لي عليكم من سلطان } من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي { إلا أن دعوتكم } قال النحويون : هذا الاستثناء منقطع لأن الدعاء ليس من جنس السلطان فالمراد لكن دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوسة ، ويمكن أن يوجه الاستثناء بالاتصال لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة تكون بالقسر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه فهذا نوع من أنواع التسلط .

{ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } لأنكم ما سمعتم مني إلا الدعاء والتزيين وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبيائه فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إليّ . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ، وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين ، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال : " فلا تلوموني ولا أنفسكم " فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه ، وقول الشيطان وإن لم يصلح للحجة إلا عدم إنكار الله تعالى عليه حجة . هذا مع أن أول كلام اللعين مبني على الإنصاف والصدق فكذا ينبغي أن يكون آخره . قال المحققون : الشيطان الأصلي هو النفس وذلك أن الإنسان إذا أحس بشيء أو أدركه ترتب عليه شعوره بكونه ملائماً له ، أو بكونه منافراً له ويتبع هذا الشعور الميل الجازم إلى الفعل أو إلى الترك ، وكل هذه الأشياء من شأن النفس ولا مدخل للشيطان في شيء من هذه المقامات إلا بأن يذكره شيئاً من أن الإنسان كان غافلاً عن صورة امرأة فيلقى الشيطان حديثها في خاطره . وكيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه ؟ جوابه أن الشيطان إذا كان جسماً لطيفاً والله سبحانه ركبه تركيباً عجيباً لا يقبل التفرق والتمزق مع لطافته فلا يستبعد نفوذه في الأجرام الكثيفة كالنار تسري في الفحم وكالدهن في السمسم وإن كان جوهراً نورانياً مجبولاً على الشر ، والنفس الإنسانية أيضاً جوهر علوي مجرد فلا يبعد وصول أثر أحدهما إلى الآخر . وذهب بعض الحكماء إلى أن كل روح من الأرواح البشرية فإنه ينتسب إلى روح معين من الأرواح السماوية ، وأنها تتولى إرشاد الأرواح الإنسانية إلى مصالحها بالإلهامات الحسنة في حالتي النوم واليقظة . هذا إذا كانت خيرة ، وأما إذا كانت شريرة فإنها توسوسها بالخواطر والأعمال القبيحة ، والقدماء كانوا يسمون كلاً من تلك الأرواح بالطباع التام . وذكر بعض العلماء احتمالاً آخر وهو أن النفوس البشرية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها ، فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق ، فتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن وتعضدها على أحوالها وأفعالها ، فإذا كان هذا المعنى في أبواب الخير كان إلهاماً ، وإن كان في باب الشر كان وسوسة .

ثم حكى الله سبحانه عن الشيطان أنه قال : { ما أنا بمصرخكم } قال ابن عباس : يريد بمعينكم ولا منقذكم . قال ابن الأعرابي : الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث . صرخ فلان إذا استغاث . وقال واغوثاه ، وأصرخته أي أغثته . وعاب النحويون على حمزة أنه قرأ : { وما أنتم بمصرخيّ } لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف في نحو " عصاي " فما بالها وقبلها ياء . وحاصل ما عابوا عليه أنه لم يوجد له نظير في استعمال العرب ، لكنك تعلم أن القرآن حجة على غيره . قوله : { إني كفرت بما أشركتموني } إن كانت " ما " مصدرية فالمعنى إني كفرت أي أنا جاحد وما كان لي رضا بإشراككم لي في الدنيا مع الله في الطاعة وفي أن لي تدبيراً وتصرفاً في هذا العالم ، وإن كانت موصولة على ما قاله الفراء من أن " ما " في معنى " من " كقوله : " سبحان ما سخركن لنا " فالمراد إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالله الذي أشركتمونيه . ووجه نظم الكلام على هذا التفسير أن إبليس كأنه يقول : لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت بالله قبل أن كفرتم ، وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة ، وهذا التقرير يناسب أصول الأشاعرة .

أما قوله : { إن الظالمين لهم عذاب أليم } فالأظهر أنه كلام الله ، ويشمل إبليس ومن تابعه من الثقلين وليس ببعيد أن يكون من بقية كلام إبليس قطعاً لأطماع أولئك الكفار عن إغاثته .

/خ34