الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (22)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقال الشيطان}، يعني إبليس، {لما قضي الأمر}، يعني حين قضي العذاب... فقال: يا أهل النار: {إن الله وعدكم} على ألسنة الرسل، {وعد الحق}، يعني وعد الصدق أن هذا اليوم كائن، {ووعدتكم} أنه ليس بكائن، {فأخلفتكم} الوعد، {وما كان لي عليكم من سلطان}، يعني من ملك في الشرك، فأكرهكم على متابعتي، يعني على ديني إلا في الدعاء. فذلك قوله عز وجل: {إلا أن دعوتكم}، يعني إلا أن زينت لكم، {فاستجبتم لي} بالطاعة وتركتم طاعة ربكم، {فلا تلوموني} باتباعكم إياي، {ولوموا أنفسكم} بترككم أمر ربكم، {ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي}، يقول: ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمغيثي، {إني كفرت}، يقول: تبرأت اليوم {بما أشركتمون} مع الله في الطاعة، {من قبل} في الدنيا، {إن الظالمين}، يعني إن المشركين، {لهم عذاب أليم}، يعني وجيع...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وقال إبليس لما قُضِي الأمر، يعني لما أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار واستقرّ بكلّ فريق منهم قَرارهم: إن الله وعدكم أيها الأتباع النار، ووعدتكم النّصْرة فأخلفتكم وعدي، ووفى الله لكم بوعده.

"وَما كانَ لي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ" يقول: وما كان لي عليكم فيما وعدتكم من النصرة من حجة تثبت لي عليكم بصدق قولي "إلاّ أنْ دَعَوْتُكُمْ" وهذا الاستثناء المنقطع عن الأوّل كما تقول: ما ضربته إلا أنه أحمق، ومعناه: ولكن دعوتكم فاسْتَجَبْتُمْ لي يقول: إلا أن دعوتكم إلى طاعتي ومعصية الله، فاستجبتم لدعائي. "فَلا تَلُومُونِي" على إجابتكم إياي "وَلُومُوا أنْفُسَكُمْ" عليها.

"ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ" يقول: ما أنا بمغيثكم "وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ" ولا أنتم بمغيثيّ من عذاب الله فمنجّي منه.

"إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ" يقول: إني جحدت أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني فيه من عبادتكم من قبلُ في الدنيا.

"إنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ" يقول: إنّ الكافرين بالله لهم عذاب أليم من الله مُوجع...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{لما قضي الأمر} أي لما فرغ من الحساب ومن أمرهم...

أو أن يكون لأهل الكفر لجاجات ومنازعات في ما بينهم يوم القيامة كقوله: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربِّنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] وكقوله: {فيحلفون له كما يحلفون لكم} الآية [المجادلة: 18] يكذبون في الآخرة، ويكون لهم لجاجة على ما كان منهم في الدنيا، ويحتجون، ويقولون: إن إبليس هو كان غلبنا، وقهرنا، لأنه كان يرانا، ونحن لم نكن نراه؛ فالمغلوب المقهور غير مأخوذ بما كان منه في حكمك. تحتجُّون بمثل هذه الخرافات واللجاجات، ويقولون: هو الذي أضلنا، فيقوم عند ذلك إبليس خطيبا بينهم، فيقول: {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان} حتى أقهركم، وأغلبكم، إلا الدعاء {فاستجبتم لي} طائعين غير مقهورين...

{فلا تلوموني ولوموا أنفسكم}... مراده أن ارجعوا إلى لائمة أنفسكم، واشتغلوا بها، فإن ذلك كان منكم، لم يكن مني إلا الدعاء...

{ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيَّ} قيل: ما أنا بناصركم، وما أنتم بناصري...

وقيل: ما أنا بمانعكم، وما أنتم بمانعي...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

قال الجبائي: وفي الآية دلالة على أن الشيطان لا يقدر على الإضرار بالإنسان أكثر من إغوائه ودعائه إلى المعاصي، فأما بغير ذلك فلا يقدر عليه، لأنه أخبر بذلك، ويجب أن يكون صادقا، لأن الآخرة لا يقع فيها من أحد قبيح لكونهم ملجئين إلى تركه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مّن سلطان} من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني، وليس الدعاء من جنس السلطان...

{فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} حيث اغتررتم بي وأطعتموني إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم، وهذا دليل على أنّ الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه، وليس من الله إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين... ومعنى كفره بإشراكهم إياه: تبرؤه منه واستنكاره له...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و {الوعد} في هذه الآية على بابه في الخير، أي إن الله وعدهم النعيم إن آمنوا، ووعدهم إبليس الظفر والأمر إن كذبوا، ومعلوم اقتران وعد الله بوعيده، واتفق أن لم يتبعوا طلب وعد الله فوقعوا في وعيده، وجاء من ذلك كأن إبليس أخلفهم... ومعنى قوله: {فاستجبتم لي} أي رأيتم ما دعوتكم إليه ببصيرتكم واعتقدتموه الرأي وأتى نظركم عليه...

{فلا تلوموني} يريد بزعمه إذ لا ذنب لي {ولوموا أنفسكم} في سوء نظركم وقلة تثبتكم فإنكم إنما أتيتم اتباعي عن بصيرة منكم وتكسب...

{بما أشركتمون} أي مع الله تعالى في الطاعة لي التي ينبغي أن يفرد الله بها...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما ذكر المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع من كفرة الإنس، أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه من الإنس فقال تعالى: {وقال الشيطان لما قضي الأمر}...

في الآية إضمار من وجهين:

الأول: أن التقدير إن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد، لأنهم كانوا يشاهدونها وليس وراء العيان بيان ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى.

الثاني: أن في قوله: {ووعدتكم فأخلفتكم} الوعد يقتضي مفعولا ثانيا وحذف ههنا للعلم به، والتقدير: ووعدتكم أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب...

{إن الظالمين لهم عذاب أليم} فالأظهر أنه كلام الله عز وجل وأن كلام إبليس تم قبل هذا الكلام...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

... {إن الظالمين لهم عذاب أليم} تتمة كلامه أو ابتداء كلام من الله تعالى وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين وإيقاظ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يخبر تعالى عما خطب به إبليس [لعنه الله] أتباعه، بعدما قضى الله بين عباده، فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات، فقام فيهم إبليس -لعنه الله- حينئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم وغَبنا إلى غبْنهم، وحسرة إلى حسرتهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} أي: على ألسنة رسله، ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة، وكان وعدًا حقا، وخبرا صدقا، وأما أنا فوعدتكم وأخلفتكم، كما قال الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [النساء: 120]. ثم قال: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي: ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه من دليل ولا حجة على صدق ما وعدتكم به، {إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} بمجرد ذلك، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه، {فَلا تَلُومُونِي} اليوم، {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} فإن الذنب لكم، لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل، {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي: بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي: بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان الشيطان أعظم المستكبرين، خص بالإفراد بالجواب فقيل: {وقال} أول المتبوعين في الضلال {الشيطان} الذي هو رأس المضلين المستكبرين المقضي ببعده واحتراقه {لما قضي الأمر} بتعين قوم للجنة وقوم للنار، جواباً لقول الأتباع مذعناً حيث لا ينفع الإذعان، ومؤمناً حيث فات نفع الإيمان: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {وعدكم وعد الحق} بأن أرسل إليكم رسلاً وأنزل معهم براهين وكتباً أخبركم فيها بأنه ربكم الواحد القهار، ودعاكم إليه بعد أن أخابتكم الشياطين، وبشر من أجاب، وحذر من أبى، بما هو قادر عليه أتم القدرة، فكل ما قاله طابقه الواقع -كما ترون- فصدقكم فيه ووفى لكم {ووعدتكم} أنا بما زينت لكم به المعاصي من الوساوس وعد الباطل {فأخلفتكم} فلم أقل شيئاً إلا كان زيغاً، فاتبعتموني مع كوني عدوكم، وتركتم ربكم وهو ربكم ووليكم... ولما بين غروره، بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال: {وما كان} لي إليكم في ذلك من ذنب لأنه ما كان {لي عليكم} وأبلغ في النفي فقال: {من سلطان} أي تسلط كبير أو صغير بشيء من الأشياء {إلا أن} أي بأن {دعوتكم} بالوسوسة التي كانت سبباً لتقوية دواعيكم إلى الشر {فاستجبتم} أي أوجدتم الإجابة إيجاد من هو طالب لها، راغب فيها {لي} محكمين الشهوات، معرضين عن مناهيج العقول ودعاء النصحاء، ولو حكمتم عقولكم لتبعتم الهداة لما في سبيلهم من النور الداعي إليها وما في سبل غيرهم من الظلام السادّ لها، والمهالك الزاجرة عنها دنيا وأخرى... {فلا} أي فاذ قد تقرر هذا تسبب عنه أني أقول لكم: لا {تلوموني ولوموا أنفسكم} لأنكم مؤاخذون بكسبكم، لأنه كانت لكم قدرة واختيار فاخترتم الشر على الخير، وعلم منه قطعاً أن كلاًّ منا مشغول عن صاحبه بما جزي به، فعلم أني {ما أنا بمصرخكم}...

السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :

... وإنما حكى الله تعالى ما سيقوله في ذلك الوقت؛ ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} أي وعداً من حقه أن يُنجَز فأنجزه، أو وعداً أنجزه وهو الوعدُ بالبعث والجزاء {وَوَعَدتُّكُمْ} أي وعْدَ الباطلِ وهو أن لا بعثَ ولا جزاء، ولئن كان فالأصنامُ شفعاؤُكم ولم يصرِّح ببطلانه لما دل عليه قولُه: {فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي موعدي على حذف المفعولِ الثاني أي نقضتُه، جَعل خُلفَ وعده كالإخلاف منه كأنه كان قادراً على إنجازه وأنى له ذلك... {وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ}... ليس مرادُه التنصّلَ عن توجه اللائمةِ إليه بالمرة بل بيانُ أنهم أحقُّ بها منه... {وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِي} مما أنا فيه، وإنما تعرّض لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمالِ مبالغةً في بيان عدم إصراخِه إياهم وإيذاناً بأنه أيضاً مبتلىً بما ابتُلوا به ومحتاجٌ إلى الإصراخ فكيف من إصراخِ الغير، ولذلك آثرَ الجملةَ الاسميةَ فكأن ما مضى كان جواباً منه عن توبيخهم وتقريعِهم، وهذا جوابٌ عن استغاثتهم واستعانِتهم به في استدفاع ما دهِمهم من العذاب وقرئ بكسر الياء...

{إني كَفَرْتُ} اليوم {بِمَا أشْرَكتمون مِن قَبْلُ}... يعني أن إشراكَكم لي بالله سبحانه هو الذي يَطمِعكم في نُصرتي لكم بأن كان لكم عليّ حقٌّ حيث جعلتموني معبوداً وكنت أوَد ذلك وأرغب فيه، فاليوم كفرتُ بذلك ولم أحمَدُه ولم أقبله منكم بل تبرأتُ منه ومنكم فلم يبقَ بيني وبينكم علاقةٌ...

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

{فَلاَ تَلُومُونِي} بما وقعتم فيه بسبب وعدي لكم بالباطل وإخلافي لهذا الموعد {وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ} باستجابتكم لي بمجرّد الدعوة التي لا سلطان عليها ولا حجة، فإن من قبل المواعيد الباطلة والدعاوي الزائغة عن طريق الحق فعلى نفسه جنى، ولمارنه قطع، ولا سيما ودعوتي هذه الباطلة، وموعدي الفاسد وقعا معارضين لوعد الله لكم وعد الحق، ودعوته لكم إلى الدار السلام، مع قيام الحجة التي لا تخفى على عاقل، ولا تلتبس إلاّ على مخذول، وقريب من هذا من يقتدي بآراء الرجال المخالفة لما في كتاب الله سبحانه، ولما في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ويؤثرها على ما فيهما، فإنه قد استجاب للباطل الذي لم تقم عليه حجة، ولا دلّ عليه برهان، وترك الحجة والبرهان خلف ظهره، كما يفعله كثير من المقتدين بالرجال المتنكبين طريق الحق بسوء اختيارهم... ولقد قام لهم الشيطان في هذا اليوم مقاماً يقصم ظهورهم ويقطع قلوبهم، فأوضح لهم أولاً أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله سبحانه وأنه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد ولم يف لهم بشيء منها، ثم أوضح لهم ثانياً بأنهم قبلوا قوله بما لا يوجب القبول، ولا ينفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لا بدّ للعاقل منها في قبول قول غيره، ثم أوضح ثالثاً بأنه لم يكن منه إلاّ مجرّد الدعوة العاطلة عن البرهان، الخالية عن أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء، ثم نعى عليهم رابعاً ما وقعوا فيه، ودفع لومهم له وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم؛ لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت، الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل، ثم أوضح لهم خامساً بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة، ولا يستطيع لهم نفعاً، ولا يدفع عنهم ضرّاً، بل هو مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص عن هذه المحنة، ثم صرح لهم سادساً بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له، فتضاعفت عليهم الحسرات وتوالت عليهم المصائب، وإذا كان جملة {إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من تتمة كلامه كما ذهب إليه البعض فهو نوع سابع من كلامه الذي خاطبهم به، فأثبت لهم الظلم، ثم ذكر ما هو جزاؤهم عليه من العذاب الأليم...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

من لطف الله بعباده، أن حذرهم من طاعة الشيطان وأخبر بمداخله التي يدخل منها على الإنسان ومقاصده فيه، وأنه يقصد أن يدخله النيران، وهنا بين لنا أنه إذا دخل النار وحزبه أنه يتبرأ منهم هذه البراءة، ويكفر بشركهم {ولا ينبئك مثل خبير} واعلم أن الله ذكر في هذه الآية أنه ليس له سلطان، وقال في آية أخرى {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} فالسلطان الذي نفاه عنه هو سلطان الحجة والدليل، فليس له حجة أصلا على ما يدعو إليه، وإنما نهاية ذلك أن يقيم لهم من الشبه والتزيينات ما به يتجرؤون على المعاصي. وأما السلطان الذي أثبته فهو التسلط بالإغراء على المعاصي لأوليائه يُؤزّهم إلى المعاصي أزّا، وهم الذين سلطوه على أنفسهم بموالاته والالتحاق بحزبه، ولهذا ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لقد قضي الأمر، وانتهى الجدل، وسكت الحوار.. وهنا نرى على المسرح عجبا ونرى الشيطان.. هاتف الغواية، وحادي الغواة.. نراه الساعة يلبس مسوح الكهان، أو مسوح الشيطان! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء، بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب: (وقال الشيطان -لما قضي الأمر- إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم. وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي. فلا تلوموني ولوموا أنفسكم. ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي. إني كفرت بما أشركتمون من قبل. إن الظالمين لهم عذاب أليم.) الله! الله! أما إن الشيطان حقا لشيطان! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار.. إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور، وأغرى بالعصيان، وزين الكفر، وصدهم عن استماع الدعوة.. هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة، حيث لا يملكون أن يردوها عليه -وقد قضي الأمر- هو الذي يقول الآن، وبعد فوات الأوان: (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم)! ثم يخزهم وخزة أخرى بتعييرهم بالاستجابة له، وليس له عليهم من سلطان، سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم، ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم، فاستجابوا لدعوته الباطلة وتركوا دعوة الحق من الله: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي)! ثم يؤنبهم، ويدعوهم لتأنيب أنفسهم. يؤنبهم على أن أطاعوه!: (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)! ثم يخلي بهم، وينفض يده منهم، وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم، ووسوس لهم أن لا غالب لهم؛ فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا، كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ: (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي).. وما بيننا من صلة ولا ولاء! ثم يبرأ من إشراكهم به ويكفر بهذا الإشراك: (إني كفرت بما أشركتمون من قبل)! ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه: (إن الظالمين لهم عذاب أليم)! فيا للشيطان! ويا لهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه، ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوه!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أفضت مجادلة الضعفاء وسادتهم في تغريرهم بالضلالة إلى نطق مصدر الضلالة وهو الشيطان؛ إما لأنهم بعد أن اعتذر إليهم كبراؤهم بالحرمان من الهدى علموا أن سبب إضلالهم هو الشيطان لأن نفي الاهتداء يرادفه الضلال، وإما لأن المستكبرين انتقلوا من الاعتذار للضعفاء إلى ملامة الشيطان الموسوس لهم ما أوجب ضلالهم، وكل ذلك بعلم يقع في نفوسهم كالوجدان. على أن قوله: {فلا تلوموني} يظهر منه أنه توجه إليه ملام صريح، ويحتمل أنه توقّعه فدفعه قبل وقوعه وأنه يتوجه إليه بطريقة التعريض، فجملة {وقال الشيطان} عطف على جملة {فقال الضعفاء. والمقصود من وصف هذا الموقف إثارة بغض الشيطان في نفوس أهل الكفر ليأخذوا حذرهم بدفاع وسواسه لأن هذا الخطاب الذي يخاطبهم به الشيطان مليء بإضماره الشر لا لهم فيما وعدهم في الدنيا مما شأنه أن يستفز غضبهم من كيده لهم وسخريته بهم، فيورثهم ذلك كراهية له وسوء ظنهم بما يتوقعون إتيانه إليهم من قِبَله. وذلك أصل عظيم في الموعظة والتربية...

ومعنى قضى {الأمر} تُمّم الشأن، أي إذن الله وحكمه. ومعنى إتمامه: ظهوره، وهو أمره تعالى بتمييز أهل الضلالة وأهل الهداية... وذلك بتوجيه كل فريق إلى مقره الذي استحقه بعمله، فيتصدى الشيطان للتخفيف عن الملام عن نفسه بتشريك الذين أضلهم معه في تبعة ضلالهم، وقد أنطقه الله بذلك لإعلان الحق، وشهادة عليهم بأن لهم كسباً في اختيار الانصياع إلى دعوة الضلال دون دعوة الحق... وأخبر الله بها الناس استقصاء في الإبلاغ ليحيط الناس علماً بكل ما سيحل بهم، وإيقاظاً لهم ليتأملوا الحقائق الخفية فتصبح بينة واضحة. فقول الشيطان {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} إبطال لإفراده باللوم أو لابتداء توجيه الملام إليه في حين أنهم أجدر باللوم أو بابتداء توجيهه. وأما وقع كلام الشيطان من نفوس الذين خاطبهم فهو موقع الحسرة من نفوسهم زيادة في عذاب النفس...

وشمل وعد الحق جميع ما وعدهم الله بالقرآن على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. وشمل الخُلْف جميعَ ما كان يعدهم الشيطان على لسان أوليائه وما يعدهم إلا غرورا...

وجملة {إنى كفرت بما أشركتمون من قبل} استئنافُ تَنَصُّل آخر من تبعات عبادتهم إياه قصد منه دفع زيادة العذاب عنه بإظهار الخضوع لله تعالى. وأراد بقوله: {كفرتُ} شدة التبري من إشراكهم إياه في العبادة فإن أراد من مضي {كفرت} مضي الأزمنة كلها، أي كنت غير راضٍ بإشراككم إياي فهو كذب منه أظهر به التذلل؛ وإن كان مراده من المضي إنشاء عدم الرضى بإشراكهم إياه فهو ندامة بمنزلة التوبة حيث لا يقبل متاب...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وعد الله حق، لأنه وعد ممن يملك، أما وعد الشيطان فقد اختلف، لأنه وعد بما لا يملك، لذلك هو وعد كاذب، لأن الحق سبحانه هو الأمر الثابت الذي لا يتغير...

{وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتُم لي 22} (إبراهيم). والسلطان –كما نعلم- إما سلطان قهر أو سلطان إقناع. وسلطان القهر يعني أن يملك أحد من القوة ما يقهر به غيره على أن يفعل ما يكره، بينما يكون كارها للفعل. أما سلطان الحجة فهو أن يملك منطقا يجعلك تعمل وفق ما يطلبه منك وتحب ما تفعل، وهكذا يعترف الشيطان للبشر يوم الحشر الأعظم، ويقول: أريد أن أناقشكم؛ هل كان لي سلطان قهريّ أقهركم به؟ هل كان لي سلطان إقناع أقنعكم به على إتباع طريقي؟ لم يكن لي في دنياكم هذه ولا تلك، فلا تتهموني ولا تجعلوني (شماعة) تعلّقون علي أخطاءكم، فقد غويت من قبلكم وخالفت أمر ربي، ولم يكن لي عليكم سلطان سوى أن دعوتكم فاستحببتم لي...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

لعل من الطريف في هذا الحوار أن الشيطان يتدخل كطرفٍ ثالث، ليبرِّئ نفسه من مسؤولية ضلال كلا الطرفين، التابعين والمتبوعين، مؤكداً الفكرة الدينية التي تقرر حرية الإرادة التي فطر الله الإنسان عليها، فليست هناك قوّةٌ قاهرةٌ ٌتشلّها بدون اختيار صاحبها، حيث يورد القرآن الكريم: {وَقَالَ الشَّيْطاَنُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} وحسمت المواقف، وانطلقت إرادة الله التي تقود الكافرين والعاصين إلى النار، وتقود المؤمنين إلى الجنة، ولم يبق هناك مجال للدفاع أو للاعتذار، فقد جاء إبليس ليتخفف من بعض ثقل المسؤولية التي يحملها الناس له في عملية الإغواء والإضلال، ليجعلها على عاتق الناس الضالين: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}، بالجنة للطائعين المؤمنين، وبالنار للعاصين المتمردين {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}، في ما منّيتكم به ودفعتكم إليه، مما لم يتحقق، لأن الأمر كان مجرّد خدعةٍ وتضليل، من أجل تحقيق ما أريده من إضلالكم، وقد عرّفكم الله طبيعة الدور الذي أقوم به في حياتكم، وهو دور الإغراء والخديعة والتزيين وتصوير الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق، وتشويه الصورة الجميلة، وتجميل الصورة المشوّهة، بما أملكه من وسائل وأدوات. وهذا هو كل شيء في دوري معكم، ولا أملك معه أيّة قوّةٍ إضافية تمكنني من الضغط على إرادتكم بطريقةٍ قاهرةٍ {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}، بما تتضمنه أساليب الدعوة وأجواؤها من عناصر الإغراء والإغواء {فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} لأنني أتحرك في وسائلي وأهدافي من خلال الخط الواضح الذي أعلنت السير فيه أمام الله، منذ طلبت منه الانتظار إلى يوم القيامة. ولكن ماذا عن دوركم أنتم، لماذا لم تلتفتوا إلى أساليبي ووسائلي وغاياتي التي عرّفكم الله إياها، وقد أرسل إليكم الرسل ليحذروكم مني، وخلق لكم العقل الذي يستطيع أن يحاكم كل الدعوات التي أثيرها في حياتكم، وكل التهاويل والأحاسيس التي أعمل في سبيل الضغط على مشاعركم من خلالها؟ فليتحمّل كل واحد منا مسؤولية نفسه، {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} فإذا استغثتم بي من العذاب، فلن أستطيع أن أدافع عنكم {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} فلا تملكون لي شيئاً إذا استصرختكم واستغثت بكم، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ}، فأنا لا أقر ولا أعترف بجعلكم إياي شريكاً لله في العبادة، {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وهكذا أغلق الملف الذي يمثل هذه الحالة التي تتحرك فيها الضغوط النفسية أو الجسدية لتلغي إرادة فريقٍ من الناس، تحت تأثير العوامل الداخلية والخارجية، ليواجه الجميع مسؤوليته، من موقع حرية الإرادة التي تستطيع أن تعبّر عن نفسها بألف طريقةٍ وطريقةٍ، كما لو لم يكن هناك ضغط، لا من المستكبرين، ولا من الشيطان نفسه الذي يحمّله الناس كلهم مسؤولية إضلالهم ويلعنونه لذلك. فليس هناك سلطة في الإضلال حتى للشيطان، بل كل دوره هو أن يوسوس ويثير ويدعو الإنسان إلى الاستجابة له، بعيداً عن دعوة الله، وتلك هي مهمته الأساسية، ويبقى، بعد ذلك، للإنسان دوره في التفكير والمقارنة بين دعوة الله ودعوة الشيطان، فإذا سار مع دعوة الله، كان ذلك باختياره، وإذا انطلق في طريق الشيطان، فبإرادته سارت خطواته، فلماذا يلقون اللوم على الشيطان، ولا يلقون اللوم على أنفسهم، في الوقت الذي لم يكن منه إلا إثارة مكامن الشهوة، وتزيينها للنفس، بينما كان منهم التصميم والإرادة والعمل؟! وهكذا تأخذ الفكرة مجالها الطبيعي في الكلمة الأخيرة للشيطان، التي يقرر فيها حمل الإنسان لمسؤولية إرادته، في مقابل حمل الشيطان لمسؤولية وسوسته وإضلاله، دون أن يستطيع أحدهما تخليص الآخر. ويبرز في خاتمة المطاف العنصر المثير الذي يجعل الشيطان يكفر بإشراكهم إياه بالله، ليبقى الإنسان المنحرف المتمرّد على الله، وحده، دون ناصر أو معين...