المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (22)

المراد هنا ب { الشيطان } إبليس الأفذم نفسه ، وروي في حديث عن النبي عليه السلام - من طريق عقبة بن عامر - أنه قال : «يقوم يوم القيامة خطيبان : أحدهما إبليس يقوم في الكفرة بهذه الألفاظ ، والآخر عيسى ابن مريم يقوم بقوله : { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به }{[7048]} [ المائدة : 117 [ ، وقال بعض العلماء : يقوم إِبليس خطيب السوء ، الصادق بهذه الآية .

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذه الرواية يكون معنى قوله : { قضي الأمر } أي حصل أهل النار في النار ، وأهل الجنة في الجنة ، وهو تأويل الطبري .

قال القاضي أبو محمد : و { قضي } قد يعبر عنها في الأمور عن فعل كقوله تعالى : { وقضي الأمر واستوت على الجودي }{[7049]} [ هود : 44 ] وقد يعبر بها عن عزم على أن يفعل ، كقوله : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان }{[7050]} [ يوسف : 41 ] .

و { الوعد } في هذه الآية على بابه في الخير ، أي إن الله وعدهم النعيم إن آمنوا ، ووعدهم إبليس الظفر والأمر إن كذبوا ، ومعلوم اقتران وعد الله بوعيده ، واتفق أن لم يتبعوا طلب وعد الله فوقعوا في وعيده ، وجاء من ذلك كأن إبليس أخلفهم . وال { سلطان } الحجة البينة ، وقوله : { إلا أن دعوتكم } استثناء منقطع{[7051]} ، و { أن } في موضع نصب ، ويصح أن تكون في موضع رفع على معنى : إلا أن النائب عن السلطان ، إن دعوتكم فيكون هذا في المعنى كقول الشاعر : [ الوافر ]

تحية بينهم ضرب وجيع{[7052]} . . . ومعنى قوله : { فاستجبتم لي } أي رأيتم ما دعوتكم إليه ببصيرتكم واعتقدتموه الرأي وأتى نظركم عليه .

قال القاضي أبو محمد : وذكر بعض الناس أن هذا المكان يبطل منه التقليد ، وفي هذه المقالة ضعف على احتمالها ، والتقليد وإن كان باطلاً ففساده من غير هذا الموضع .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد ب » السلطان «في هذه الآية الغلبة والقدرة والملك ، أي ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة مني ، بل عرضت عليكم شيئاً ، فأتى رأيكم عليه .

وقوله : { فلا تلوموني } يريد بزعمه إذ لا ذنب لي { ولوموا أنفسكم } في سوء نظركم وقلة تثبتكم فإنكم إنما أتيتم اتباعي عن بصيرة منكم وتكسب . و » المصرخ «المغيث ، والصارخ : المستغيث . ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع . . . كان الصراخ له قطع الظنابيب{[7053]}

فيقال : صرخ الرجل ، وأصرخ غيره ، وأما الصريخ فهو مصدر بمنزلة البريح{[7054]} ، ويوصف به ، كما يقال : رجل عدل ونحوه .

وقرأ حمزة والأعمش وابن وثاب » بمصرخي «بكسر الياء تشبيهاً لياء الإضمار بهاء الإضمار في قوله : مصرخيه ، ورد الزجاج هذه القراءة ، وقال ردية مرذولة{[7055]} ، وقال فيها القاسم بن معن : إنها صواب ، ووجهها أبو علي وحكى أبو حاتم : أن أبا عمرو حسنها ، وأنكر أبو حاتم على أبي عمرو{[7056]} .

وقوله : { بما أشركتمون } أي مع الله تعالى في الطاعة لي التي ينبغي أن يفرد الله بها ، ف «ما » مصدرية ، وكأنه يقول : إني الآن كافر بإشراككم أيأي مع الله قبل هذا الوقت .

قال القاضي أبو محمد : فهذا تبر منه ، وقد قال الله تعالى : { ويوم القيامة يكفرون بشرككم }{[7057]} [ فاطر : 14 ] ويحتمل أن يكون اللفظ إقراراً على نفسه بكفره الأقدم ، فتكون «ما » بمعنى الذي ، يريد الله تعالى ، أي خطيئتي قبل خطيئتكم ، فلا إصراخ عندي{[7058]} ، وباقي الآية بين .


[7048]:أخرج ابن المبارك في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، و الطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر بسند ضعيف عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين وقضى بينهم وفرغ من القضاء يقول المؤمنون قد قضى بيننا وفرغ من القضاء) وهو حديث طويل يأتي فيه أيضا قول الكافرين و جدالهم مع إبليس. أما النص الذي ذكره ابن عطية فقد أخرجه ابن جرير، وابن المنذر عن الشعبي رضي الله عنه. (الدر المنثور).
[7049]:من الآية (44) من سورة (هود).
[7050]:من الآية (41) من سورة (يوسف).
[7051]:لأن دعاءه إياهم ليس من جنس السلطان وهو الحجة البينة، وقيل: هو استثناء متصل، لأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر من الحامل، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه، و ذلك بإلقاء الوساوس إليه، فهذا نوع من التسلط.
[7052]:والضرب ليس من جنس التحية، وكأن الشيطان قال ذلك لهم مبالغة في نفيه للسطان عن نفسه، كأنه قال: إنما يكون لي عليكم سلطان إذا كان مجرد الدعاء من السلطان، وليس منه قطعا، هذا والشعر لعمرو بن معديكرب الزبيدي. والبيت بتمامه: وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
[7053]:البيت لسلامة بن جندل، وهو شاعر جاهلي مقل، من شعراء الطبقة الثانية، و هو فارس من فرسان تميم المعدودين، والبيت من قصيدة له يرثي فيها شبابه و ما كان فيه من فروسية، ويقول في مطلعها: أودى الشباب حميدا ذو التعاجيب أودى، وذلك شأو غير مطلوب والظنابيب: جمع ظنبوب وهو ظلم و هو عظم الساق، وقرع الظنوب هو أن يضرب الرجل ظنبوب البعير ليتنوخ له فيركبه، والمراد هنا سرعة الإجابة، لأنهم يستجيبون للمستغيث الصارخ بإناخة الجمال للركوب، فإذا تأخرت قرعوا ظنابيبها لتبرك بسرعة.
[7054]:يقال: قول بريح: مصوب به، قال الهذلي: فإن ابن ترنى إذا جئتكم يدافع عني قولا بريحا
[7055]:في بعض النسخ: هي ردية مردودة.
[7056]:وقع خلاف كبير بين العلماء في هذه القراءة، قال الفراء: "لعلها من وهم القراء طبقة يحيى، فإنه قل من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أن الباء في [بمصرخي] خافضة للحرف كله، والياء من المتكلم خارجة من ذلك"، وقال أبو عبيد: "نراهم غلطوا ظنوا أن الباء تكسر ما بعدها"، وقال الأخفش: "ما سمعت هذا من أحد من العرب ولا من النحويين"، وقال النحاس: "صار هذا إجماعا، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله على الشذوذ"، و حاول الزمخشري ـ مع اعترافه بضعفها ـ أن يستشهد لها ببيت مجهول (وقيل هو للأغلب العجلي): قال لها هل لك ياتافي قالت له ما أنت بالمرضي كأن الشاعر قدر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة، فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، قال الزمخشري: "ولكن هذا غير صحيح، لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قلبها ألف نحو عصاي، فما بالها وقبلها ياء؟"، وقال القاسم بن معن عن هذه القراءة: هي صواب، وسأل حسين الجعفي أبا عمرو بن العلاء وذكر تلحين أهل النحو، فقال: "هي جائزة"، قال أبو حيان الأندلسي: "ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم على أبي عمرو تحسينها، فأبو عمرو إمام لغة، وإمام نحو، وإمام قراءة، وعربي صريح، وقد أجازها وحسنها، وقد روا بيت النابغة: علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب بخفض الياء من "علي".
[7057]:من الآية (14) من سورة (فاطر). ومثلها قوله تعالى: {إنا براءه منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم}.
[7058]:يرد على هذا القول أن فيه إطلاق (ما) على الله تعالى، و (ما) الأصح فيها أنها لا تطلق على آحاد من يعلم ويعقل.