{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره للعرب : لَقَدْ جاءَكُمْ أيها القوم رَسُولٌ الله إليكم مِنْ أنْفُسِكُمْ تعرفونه لا من غيركم ، فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم . عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنتّمْ : أي عزيز عليه عنتكم ، وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والأذى . حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ يقول : حريص على هدى ضلاّلكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحقّ . بالمُؤْمِنِينَ رَءُؤفٌ : أي رفيق رَحِيمٌ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، في قوله : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال : لم يصبه شيء من شرك في ولادته .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، في قوله : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية . قال : وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي خَرَجْتُ مِنْ نِكاحٍ ولَمْ أخْرُجْ مِنْ سِفاحٍ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال : جعله الله من أنفسهم ، ولا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوّة والكرامة .
وأما قوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما ضللتم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير عن السديّ ، عن ابن عباس ، في قوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال : ما ضللتم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : عزيز عليه عنت مؤمنكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ عزيز عليه عنت مؤمنهم .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول ابن عباس وذلك أن الله عمّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنت قومه ، ولم يخصص أهل الإيمان به ، فكان صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله به عزيزا عليه عنت جميعهم .
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزا عليه عنت جميعهم وهو يقتل كفارهم ويسبي ذراريهم ويسلبهم أموالهم ؟ قيل : إن إسلامهم لو كانوا أسلموا كان أحبّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه حتى يستحقوا ذلك من الله ، وإنما وصفه الله جلّ ثناؤه بأنه عزيز عليه عنتهم ، لأنه كان عزيزا عليه أن يأتوا ما يعنتهم وذلك أن يضلوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي .
وأما «ما » التي في قوله : ما عَنِتّمْ فإنه رفع بقوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ لأن معنى الكلام : ما ذكرت عزيز عليه عنتكم .
وأما قوله : حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ فإن معناه : ما قد بينت ، وهو قول أهل التأويل ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ حريص على ضالهم أن يهديه الله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ قال : حريص على من لم يسلم أن يسلم .
وقوله تعالى : { لقد جاءكم } مخاطبة للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك ، إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الأيام ، وقال الزجّاج : هي مخاطبة لجميع العالم ، والمعنى لقد جاءكم رسول من البشر والأول أصوب ، وقوله { من أنفسكم } يقتضي مدحاً لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها{[5985]} ، وينظر إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : «إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم »{[5986]} ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «إني من نكاح ولست من سفاح »{[5987]} معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من من نكاح ولم يكن فيه زنى ، وقرأ عبد الله بن قسيط المكي «من أنفَسكم » بفتح الفاء من النفاسة ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها ، ذكر أبو عمرو أن ابن عباس رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { ما عنتم } معناه عنتكم ف { ما } مصدرية وهي ابتداء ، و { عزيز } خبر مقدم ، ويجوز أن يكون { ما عنتم } فاعلاً ب { عزيز } و { عزيز } صفة للرسول ، وهذا أصوب من الأول{[5988]} والعنت المشقة وهي هنا لفظة عامة أي ما شق عليكم من كفر وضلال بحسب الحق ومن قتل أو أسار وامتحان بسبب الحق واعتقادكم أيضاً معه ، وقال قتادة : المعنى عنت مؤمنيكم .
قال القاضي أبو محمد : وتعميم عنت الجميع أوجه ، وقوله : { حريص عليكم } يريد على إيمانكم وهداكم ، وقوله : { رؤوف } معناه مبالغ في الشفقة ، قال أبو عبيدة : الرأفة أرق الرحمة ، وقرأ «رؤف » دون مد الأعمش وأهل الكوفة وأبو عمرو{[5989]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.