القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين بك وبما أنزل إليك من عند ربك : بِفَضْلِ اللّهِ أيها الناس الذي تفضل به عليكم ، وهو الإسلام ، فبينه لكم ودعاكم إليه ، وَبِرَحَمتِهِ التي رحمكم بها ، فأنزلها إليكم ، فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه ، وبَصّركم بها معالم دينكم وذلك القرآن . فَبِذلكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ يقول : فإن الإسلام الذي دعاهم إليه والقرآن الذي أنزله عليهم ، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وأموالها وكنوزها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الحجاج ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدريّ ، في قوله : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَرَحْمَتِهِ فَبِذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا قال : بفضل الله القرآن وبرحمته أن جعلكم من أهله .
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل ، عن منصور ، عن هلال بن يساف : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا قال : بالإسلام الذي هداكم ، وبالقرآن الذي علمكم .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ قال : بالإسلام والقرآن : فَبِذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعون من الذهب والفضة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، في قوله : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ قال : فضل الله : الإسلام ، ورحمته : القرآن .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، في قوله : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحَمتِهِ قال : الإسلام والقرآن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم وقبيصة ، قالا : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن هلال ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا أما فضله : فالإسلام ، وأما رحمته : فالقرآن .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحَمتِهِ قال : فضله : الإسلام ، ورحمته : القرآن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحَمتِهِ قال : القرآن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَبِرَحْمَتِهِ قال : القرآن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : هَوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ قال : الأموال وغيرها .
حدثنا عليّ بن داود ، قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحَمتِهِ يقول : فضله : الإسلام ، ورحمته : القرآن .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن هلال : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا قال : بكتاب الله وبالإسلام . هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعونَ .
وقال آخرون : بل الفضل : القرآن ، والرحمة : الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعونَ قال : بفضل الله : القرآن ، وبرحمته : حين جعلهم من أهل القرآن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، قال : فضل الله : القرآن ، ورحمته : الإسلام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قوله : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحَمتِهِ قال : بفضل الله : القرآن ، وبرحمته ، الإسلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحَمتِهِ فَبِذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا قال : كان أبي يقول : فضله : القرآن ، ورحمته : الإسلام .
واختلفت القراء في قراءة قوله : فَبِذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا . فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : فَلْيَفْرَحُوا بالياء ، هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ بالياء أيضا على التأويل الذي تأوّلناه من أنه خبر عن أهل الشرك بالله . يقول : فبالإسلام والقرآن الذي دعاهم إليه فليفرح هؤلاء المشركون ، لا بالمال الذي يجمعون ، فإن الإسلام والقرآن خير من المال الذي يجمعون . وكذلك :
حُدثت عن عبد الوهاب بن عطاء ، عن هارون ، عن أبي التياح : فَبِذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعونَ يعني الكفار .
ورُوي عن أبيّ بن كعب في ذلك ما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أسلم المنقري ، عن عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي ، عن أبيه ، عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ : «فَبِذَلكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعونَ » بالتاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم عن الأجلح ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي ، عن أبيه ، عن أبيّ بن كعب مثل ذلك .
وكذلك كان الحسن البصري يقول غير أنه فيما ذكر عنه كان يقرأ قوله : هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ بالياء الأوّل على وجه الخطاب ، والثاني على وجه الخبر عن غائب . وكان أبو جعفر القارىء فيما ذكر عنه يقرأ ذلك نحو قراءة أبيّ بالتاء جميعا .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار من قراءة الحرفين جميعا بالياء : فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعونَ لمعنيين : أحدهما : إجماع الحجة من القرّاء عليه ، والثاني : صحته في العربية . وذلك أن العرب لا تكاد تأمر المخاطب باللام والتاء ، وإنما تأمره فتقول : افعل ولا تفعل .
وبعد : فإني لا أعلم أحدا من أهل العربية إلا وهو يستردىء أمر المخاطب باللام ، ويرى أنها لغة مرغوب عنها غير الفراء ، فإنه كان يزعم أن اللام في ذي التاء الذي خلق له واجهتَ به أم لم تواجِهْ ، إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجه لكثرة الأمر خاصة في كلامهم ، كما حذفوا التاء من الفعل . قال : وأنت تعلم أن الجازم والناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوله الياء والتاء والنون والألف ، فلما حذفت التاء ذهبت اللام وأحدثت الألف في قولك : اضرب وافرح ، لأن الفاء ساكنة ، فلم يستقم أن يستأنف بحرف ساكن ، فأدخلوا ألفا خفيفة يقع بها الابتداء ، كما قال : ادّاركوا واثّاقَلْتُمْ . وهذا الذي اعتلّ به الفراء عليه لا له وذلك أن العرب إن كانت قد حذفت اللام في المواجه وتركتها ، فليس لغيرها إذا نطق بكلامها أن يدخل فيها ما ليس منه ما دام متكلما بلغتها ، فإن فعل ذلك كان خارجا عن لغتها ، وكلام الله الذي أنزله على محمد بلسانها ، فليس لأحد أن يتلوه إلا بالأفصح من كلامها ، وإن كان معروفا بعض ذلك من لغة بعضها ، فكيف بما ليس بمعروف من لغة حيّ ولا قبيلة منها ؟ وإنما هو دعوى لا ثبَت بها ولا حجة .
{ قل بفضل الله وبرحمته } بإنزال القرآن ، والباء متعلقة بفعل يفسره قوله : { فبذلك فليفرحوا } فإن اسم الإشارة بمنزلة الضمير تقديره بفضل الله وبرحمته فليعتنوا أو فليفرحوا فبذلك فليفرحوا ، وفائدة ذلك التكرير التأكيد والبيان بعد الإجمال وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح أو بفعل دل عليه { قد جاءتكم } ، وذلك إشارة إلى مصدره أي فبمجيئها فليفرحوا والفاء بمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فيهما فليفرحوا أو للربط بما قبلها ، والدلالة على أن مجيء الكتاب الجامع بين هذه الصفات موجب للفرح وتكريرها للتأكيد كقوله :
وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعن يعقوب " فلتفرحوا " بالتاء على الأصل المرفوض ، وقد روي مرفوعا ويؤيده أنه قرئ " فافرحوا " . { هو خير مما يجمعون } من حطام الدنيا فإنها إلى الزوال قريب وهو ضمير ذلك . وقرأ ابن عامر تجمعون بالتاء على معنى فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعونه أيها المخاطبون .
وقوله سبحانه { قل بفضل الله وبرحمته } ، الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله : { وهدى ورحمة } قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف{[6139]} وقتادة والحسن وابن عباس «الفضل » : الإسلام ، و «الرحمة » : القرآن ، وقال أبو سعيد الخدري : «الفضل » : القرآن ، و «الرحمة » أن جعلهم من أهله ، وقال زيد بن أسلم والضحاك «الفضل » : القرآن ، و «الرحمة » : الإسلام ، وقالت فرقة : «الفضل » : محمد صلى الله عليه وسلم ، و «الرحمة » : القرآن .
قال القاضي أبو محمد : ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي صلى الله عليه سلم ، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه ، أن «الفضل » هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى إتباع الشرع ، و «الرحمة » : هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به ، ومعنى الآية : قل يا محمد لجميع الناس : { بفضل الله وبرحمته } فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما جمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم فلتفرحوا ، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه ، ومحصلون لفضل الله منتظرون الرحمة ، والكافرون يقال لهم : { بفضل الله وبرحمته } فلتفرحوا ، على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك ، وقرأ أبي بن كعب وابن القعقاع وابن عامر والحسن على ما زعم هارون ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم «فلتفرحوا » ، و «تجمعون » بالتاء فيهما على المخاطبة ، وهي قراءة جماعة من السلف كبيرة ، وعن أكثرهم خلاف ، وقرأ السبعة سوى ابن عامر{[6140]} وأهل المدينة والأعرج ومجاهد وابن أبي إسحاق وقتادة وطلحة والأعمش : بالياء فيهما على ذكر الغائب ، ورويت عن الحسن بالتاء من فوق فيهما ، وقرأ أبو التياح وأبو جعفر وقتادة : بخلاف عنهم وابن عامر بالياء في الأولى وبالتاء في الآخرة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وجماعة من السلف ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالياء في الأولى وفي الآخرة ، ورويت عن أبي التياح ، وإذا تأملت وجوه ذلك بانت على مهيع الفصيح من كلام العرب ولذلك كثر الخلاف من كل قارىء ، وفي مصحف أبي بن كعب ، «فبذلك فافرحوا » وأما من قرأ «فلتفرحوا » فأدخل اللام في أمر المخاطب فذلك على لغة قليلة ، حكى ذلك أبو علي في الحجة ، وقال أبو حاتم وغيره : الأصل في كل أمر إدخال اللام إذا كان النهي بحرف فكذلك الأمر ، وإذا كان أمراً لغائب بلام{[6141]} ، قال أبو الفتح : إلا أن العرب رفضت إدخال اللام في أمر المخاطب لكثرة ترداده{[6142]} ، وقرأ أبو الفتوح والحسن : بكسر اللام من «فلِتفرحوا » ، فإن قيل : كيف أمر الله بالفرح في هذه الآية ؟ وقد ورد ذمه في قوله { لفرح فخور }{[6143]} ، وفي قوله { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين }{[6144]} قيل إن الفرح إذا ورد مقيداً في خير فليس بمذموم وكذلك هو في هذه الآية ، وإذا ورد مقيداً في شر أو مطلقاً لحقه ذم إذ ليس من أفعال الآخرة بل ينبغي أن يغلب على الإنسان حزنه على ذنبه وخوفه لربه ، وقوله : { مما يجمعون } يريد من مال الدنيا وحطامها الفاني المؤذي في الآخرة .
يتفرع على كون القرآن هدى ورحمة للمؤمنين تنبيههم إلى أن ذلك فضل من الله عليهم ورحمة بهم يحق لهم أن يفرحوا بهما ، وأن يقدروا قدر نعمتهما ، وأن يعلموا أنها نعمة تفوق نعمة المال التي حُرم منها أكثر المؤمنين ومُنحها أكثر المشركين ، فكانت الجملة حقيقة بأن تفتتح بفاء التفريع .
وجيء بالأمر بالقول معترضاً بين الجملة المفرعة والجملة المفرع عليها تنويهاً بالجملة المفرعة ، بحيث يؤمر الرسول أمراً خاصاً بأن يقولها وإن كان جميع ما ينزل عليه من القرآن مأموراً بأن يقوله .
وتقدير نظم الكلام : قل لهم فليفرحوا بفضل الله وبرحمته بِذلك ليفرحوا .
فالفاء في قوله : { فليفرحوا } فاء التفريع ، و { بفضل الله وبرحمته } مجرور متعلق بفعل { فليفرحوا } قُدم على متعلَّقه للاهتمام به للمسلمين ولإفادة القصر ، أي بفضل الله وبرحمته دون ما سواه مما دل عليه قوله : { هو خير مما يجمعون } ، فهو قصر قلب تعريضي بالرد على المشركين الذين ابتهجوا بعَرض المال فقالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً .
والإشارة في قوله : { فبذلك } للمذكور ، وهو مجموع الفضل والرحمة ، واختير للتعبير عنه اسم الإشارة لما فيه من الدلالة على التنويه والتعظيم مع زيادة التمييز والاختصار . ولما قصد توكيد الجملة كلها بما فيها من صيغة القصر قرن اسم الإشارة بالفاء تأكيداً لفاء التفريع التي في { فليفرحوا } لأنه لما قدم على متعلَّقه قرن بالفاء لإظهار التفريع في ابتداء الجملة ، وقد حذف فعل ( ليفرحوا ) فصار مفيداً مفاد جملتين متماثلتين مع إيجاز بديع . وتقدير معنى الكلام : قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته لا سواهما فليفرحوا بذلك لا سواه .
ولك أن تجعل الكلام استئنافاً ناشئاً مما تقدم من النعمة على المؤمنين بالقرآن . ولما قدم المجرور وهو { بفضل الله وبرحمته } حصل بتقديمه معنى الشرط فقرنت الجملة بعده بالفاء التي تربط الجواب لقصد إفادة معنى الشرط . وهذا كثير في الاستعمال كقوله تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم « ففيهما فجاهد » ، وقوله : « كما تكونوا يوَلَّ عليكم » بجزم ( تكونوا ) وجزم ( يول ) . فالفاء في قوله : { فبذلك } رابطة للجواب ، والفاء في قوله : { فليفرحوا } مؤكدة للربط .
ولم يختلف المفسرون في أن القرآن مراد من فضل الله ورحمته . وقد روي حديث عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : فضل الله القرآن . ورحمته أن جعلكم من أهله ( يعني أن هداكم إلى اتباعه ) . ومثله عن أبي سعيد الخدْري والبراءِ موقوفاً ، وهو الذي يقتضيه اللفظ فإن الفضل هو هداية الله التي في القرآن ، والرحمة هي التوفيق إلى اتباع الشريعة التي هي الرحمة في الدنيا والآخرة .
وجملة : { هو خير مما يجمعون } مبيّنة للمقصود من القصر المستفاد من تقديم المجرورين .
وأفرد الضمير بتأويل المذكور كما أفرد اسم الإشارة . والضمير عائد إلى اسم الإشارة ، أي ذلك خير مما يجمعون .
و { ما يجمعون } مراد به الأموال والمكاسب لأن فعل الجمع غلب في جمع المال . قال تعالى : { الذي جمع مالاً وعدده } [ الهمزة : 2 ] . ومن المعتاد أن جامع المال يفرح بجمعه .
وضمير { يجمعون } عائد إلى { الناس } في قوله : { يأيها الناس قد جاءتكم موعظة } [ يونس : 57 ] بقرينة السياق وليس عائداً إلى ما عاد إليه ضمير { يفرحوا } فإن القرائن تصرف الضمائر المتشابهة إلى مصارفها ، كقول عباس بن مرداس :
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا مَا جمَّعوا
ضمير ( أحرزوا ) عائد إلى المشركين الذين عاد إليهم الضمير في قوله : ( جمعهم ) . وضمير ( جمَّعوا ) عائد إلى المسلمين ، أي لولا نحن لغنم المشركون ما جمَعه المسلمون من الغنائم ، ومنه قوله تعالى : { وعمروها أكثر مما عمروه } في سورة [ الروم : 9 ] .
وعلى هذا الوجه يظهر معنى القصر أتمّ الظهور ، وهو أيضاً المناسب لحالة المسلمين وحالة المشركين يومئذٍ ، فإن المسلمين كانوا في ضعف لأن أكثرهم من ضعاف القوم أو لأن أقاربهم من المشركين تسلطوا على أموالهم ومنعوهم حقوقهم إلجاء لهم إلى العود إلى الكفر . وقد وصف الله المشركين بالثروة في آيات كثيرة كقوله : { وذرني والمكذبين أولي النَّعْمة } [ المزمل : 11 ] وقال : { أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } [ القلم : 14 ، 15 ] وقال : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 ، 197 ] ، فلعل المشركين كانوا يحتقرون المسلمين كما حكي عن قوم نوح قولهم : { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } [ هود : 27 ] . وقد قال الله للنبيء صلى الله عليه وسلم { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } إلى قوله : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } [ الأنعام : 52 ، 53 ] حين قال له المشركون : لو طردت هؤلاء العبيد من مجلسك لجلسنا إليك ، فكمدهم الله بأن المسلمين خيرٌ منهم لأنهم كملت عقولهم بالعقائد الصحيحة والآداب الجليلة . وهذا الوجه هو المناسب للإتيان بالمضارع في قوله : { يجمعون } المقتضي تجدد الجمع وتكرره ، وذلك يقتضي عنايتهم بجمع الأموال ولم يكن المسلمون بتلك الحالة .
والمعنى أن ذلك خير مما يجمعه المشركون مع اتصافهم بالشرك لأنهم وإن حصلوا ما به بعض الراحة في الدنيا فهم شرار النفوس خساس المدارك .
وقرأ الجمهور { يجمعون } بياء الغيبة فالضمير عائد على معلوم من الكلام ، أي مما يجمع المشركون من الأموال . وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب { مما تجمعون } بتاء الخطاب فيكون خطاباً للمشركين الذين شملهم الخطاب في أول الآية بقوله : { يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم } [ يونس : 57 ] ، فإنه بعد أن عمم الخطاب خص المؤمنين بالذكر وبالجدارة بالفرح ، فبقي الخطاب لمن عدا المسلمين وهم المشركون إذ ليس ثم غير هذين الفريقين من الناس هنالك . ولا يناسب جعل الخطاب للمسلمين إذ ليس ذلك من شأنهم كما تقدم آنفاً ، ولأنه لا يظهر منه معنى التفضيل إلا بالاعتبار لأن المسلمين قد نالوا الفضل والرحمة فإذا نالوا معهما المال لم ينقص ذلك من كمالهم بالفضل والرحمة .
وقد أجملت الآية وجه تفضيل هذا الفضل والرحمة على ما يجمعونه لقصد إعمال النظر في وجوه تفضيله ، فإنها كثيرة ، منها واضح وخفي . وينبىء بوجه تفضيله في الجملة إضافتُه الفضل والرحمة إلى الله وإسناد فعل { يجمعون } إلى ضمير { الناس } [ يونس : 57 ] . وهذا الفضل أخروي ودنيوي . أما الأخروي فظاهر ، وأما الدنيوي فلأن كمال النفس وصحة الاعتقاد وتطلع النفس إلى الكمالات وإقبالها على الأعمال الصالحة تكسب الراحة في الدنيا وعيشة هنيئة . قال تعالى : { يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مَرضية } [ الفجر : 27 ، 28 ] فجعل رضاها حالاً لها وقت رجوعها إلى ربها . قال فخر الدين : « والمقصود من الآية الإشارة إلى أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية ، فيجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية لأن اللذات الجسمانية ليست غير دفع الآلام عند جمع من الحكماء والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به . وعلى تقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية فإنها لا تكون خالصة البتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره وهي لا تكون باقية ، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من خوف فواتها أكثر وأشد » .
ثم إن عدم دوامها يقتضي قصر مدة التمتع بها بخلاف اللذات الروحانية .