اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (58)

قوله : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ } : في تعلٌُّ هذا الجارِّ أوجهٌ :

أحدها : أنَّ " بِفَضْلِ " و " بِرَحْمتهِ " متعلقٌ بمحذوفٍ ، تقديره : بفضل الله وبرحمته ليفرحُوا ، فبذلك فليَفْرَحُوا ، فحذف الفعل الأول ؛ لدلالة الثاني عليه ، فهما جملتان .

ويدلُّ على ذلك قول الزمخشري : " أصلُ الكلام : بفَضْلِ الله وبرحمته ، فليفرحوا ، فبذلك فليفرحوا ، والتَّكرير للتَّأكيد ، والتَّقرير ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحدُ الفعلين ؛ لدلالةِ المذكور عليه ، والفاءُ داخلةٌ لمعنى الشَّرطِ ، كأنَّه قيل : إن فرحُوا بشيءٍ ، فليَخُصُّوهُمَا بالفرح ، فإنَّه لا مفروح به أحق منهما " .

الثاني : أنَّ الجارَّ الأول متعلِّقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ والمعنى ، لا نفس الفعل الملفوظ به ، والتقديرُ : بفضل الله وبرحمته ، فليعتنُوا ، فبذلك فليَفْرَحُوا ، قاله الزمخشري .

الثالث : أن يتعلَّق الجارُّ الأوَّل ب " جَاءَتكُم " قال الزمخشري : " ويجوز أن يراد : قد جاءتكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمتهِ ، فبذلك فليفرحوا ، أي : فَبِمجِيئهما فليَفْرَحُوا " .

قال أبو حيَّان{[18492]} : " أمَّا إضمار " فليَعْتنُوا " فلا دليل عليه " . قال شهاب الدِّين{[18493]} : " الدَّلالةُ عليه من السِّياق واضحةٌ ، وليس شرطُ الدَّلالةِ أن تكون لفظيَّة " .

وقال أبو حيَّان{[18494]} : وأمَّا تعلُّقُه بقوله : " قَدْ جَاءتُكم " فينبغي أن يُقدَّرَ محذوفاً بعد " قُلْ " ، ولا يكونهُ متعلِّقاً ب " جَاءَتْكُم " الأولى ؛ للفَصْل بينهما ب " قُلْ " ، وهذا إيراد واضحٌ ، ويجُوزُ أن يكون " بِفَضْلِ اللهِ " صفةً ل " مَوْعِظَة " أي : موعظةٌ مصاحبةٌ ، أو ملتبسةٌ بفضل اللهِ .

الرابع : قال الحوفيُّ : " الباءُ متعلِّقةٌ بما دلَّ عليه المعنى ، أي : قد جاءتكم الموعظة بفضل الله " .

الخامس : أنَّ الفاء الأولى زائدةٌ ، وأنَّ قوله : " بذلك " بدلٌ ممَّا قبله ، وهو " بِفَضْلِ الله وبرحمتهِ " وأُشير بذلك إلى اثنين ؛ كقوله : { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] .

وقوله : [ الرمل ]

إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مدًى *** وكِلاَ ذلكَ وجْهٌ وقَبَلْ{[18495]}

وفي هاتين الفاءين أوجهٌ :

أحدها : أنَّ الأولى زائدةٌ ، وقد تقدَّم في الوجه الخامس .

الثاني : أنَّ الفاء الثانية مكررةٌ للتَّوكيد ، فعلى هذا لا تكونُ الأولى زائدةً ، ويكون أصل التَّركيب : فبذلك ليفرحوا ، وعلى القول الأول قبلهُ يكون أصلُ التَّركيب : بذلك فليَفْرَحُوا .

الثالث : قال أبو البقاء : الفاءُ الأولى مرتبطةٌ بما قبلها ، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : فليَعْجَبُوا بذلك فليَفْرَحُوا ؛ كقولهم : زيداً فاضربه ، أي : تعمَّد زيداً فاضربه والجمهورُ على " فَلْيَفْرَحُوا " بياء الغيبة .

وقرأ عثمان{[18496]} بن عفان ، وأبيُّ ، وأنس ، والحسن ، وأبو رجاء ، وابن هرمز ، وابن سيرين : بتاء الخطاب ، وهي قراءةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الزمخشري : " وهو الأصلُ والقياسُ " .

قال أبو حيَّان : " إنَّها لغةٌ قليلة " .

يعنى أنَّ القياسَ أن يُؤمَرَ المخاطب بصيغةِ " افعل " ، وبهذا الأصل قرأ أبيُّ{[18497]} : " فَافْرَحُوا " وهي في مصحفه كذلك ، وهذه قاعدةٌ كُلِّيَّةٌ : وهي أنَّ الأمر باللاَّم يكثر في الغائب ، والمخاطب المبنيِّ للمفعول ، مثال الأول : " لِيقم زيدٌ " وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور ، ومثال الثاني : لِتُعْنَ بحاجتي ، ولتضرب يا زيد ، فإن كان مبنياً للفاعل ، كان قليلاً ؛ كقراءة عثمان ، ومن معه ، وفي الحديث : " لتأخُذُوا مصافَّكُم " بل الكثير في هذا النَّوْع الأمرُ بصيغة " افْعَلْ " نحو : قُمْ يا زيد ، وقوموا ، وكذلك يضعف الأمر باللاَّم للمتكلم وحدهُ ، أو معه غيره ، فالأول نحو : " لأقُمْ " تأمر نفسك بالقيام ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - " قُومُوا فلأصَلَّ لكُم " ومثال الثاني : لِنَقُمْ ، أي : نحن ، وكذلك النَّهْي ؛ ومنه قول الشَّاعر : [ الكامل ]

إذَا ما خَرَجْنَا مِنْ " دِمشْقَ " فلا نَعُدْ *** لهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجُرَاضِمُ{[18498]}

ونقل ابنُ عطيَّة ، عن ابن عامر : أنَّه قرأ{[18499]} : " فَلتَفْرَحُوا " خطاباً ، وهذه ليست مشهورة عنه . وقرأ الحسن{[18500]} ، وأبو التياح : " فَليَفْرَحُوا " بكسر اللام ، وهو الأصل .

قوله : { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } " هو " عائدٌ على الفضل والرَّحْمَةِ ، وإن كانا شيئين ؛ لأنَّهُمَا بمعنى شيء واحد ، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد ؛ ولذلك أشير إليهما بإشارة واحدةٍ .

وقرأ ابن{[18501]} عامر : " تَجْمَعُون " بتاء الخطاب ، وهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون من باب الالتفات ، فيكون في المعنى كقراءة الجماعة ، فإنَّ الضَّمير يُراد من يُرادُ بالضَّمير في قوله : " فَلْيَفْرَحُوا " .

والثاني : أنَّه خطاب لقوله : { يا أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ } وهذه القراءةُ تناسبُ قراءة الخطاب في قوله " فَلْيَفْرَحُوا " كما نقلها ابنُ عطيَّة عنه أيضاً .

فصل

قال مجاهد وقتادةُ : فضل الله : الإيمان ، ورحمته : القرآن{[18502]} . وقال أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رضي الله عنه - : فضل الله : القرآن ، ورحمته أن جعلنا من أهله{[18503]} .

وقال ابن عمر : فضلُ الله : الإسلام ، ورحمته : تزيينهُ في القلب{[18504]} ، وقال خالدُ بن معدان : فضلُ الله : الإسلام ، ورحمته : السُّنَن{[18505]} .

وقيل : فضل الله : الإيمان ، ورحمته : الجنَّة ، { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أي : لِيَفْرَحِ المؤمنون أن جعلهم من أهله ، { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي : خير ممَّا يجمعه الكُفَّار من الأموالِ ؛ لأنَّ الآخرة خيرٌ وأبْقَى ، وما كان عند الله ، فهو أولى بالطَّلب .


[18492]:ينظر: البحر المحيط 5/169-170.
[18493]:ينظر: الدر المصون 4/44.
[18494]:ينظر: البحر المحيط 5/170.
[18495]:تقدم.
[18496]:ينظر: حجة القراءات لأبي زرعة ص (333)، إعراب القراءات 1/269، إتحاف فضلاء البشر 2/116.
[18497]:ينظر: الكشاف 2/353، المحرر الوجيز 3/126، البحر المحيط 5/170، الدر المصون 4/45.
[18498]:تقدم.
[18499]:ينظر: الكشاف 2/353، المحرر الوجيز 3/126، البحر المحيط 5/170، والدر المصون 4/45.
[18500]:ينظر: السابق.
[18501]:ينظر: السبعة ص (327-328)، الحجة 4/280، حجة القراءات لأبي زرعة ص (333)، إعراب القراءات 1/269، إتحاف فضلاء البشر 2/116.
[18502]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/569) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/554) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي. وذكره أيضا عن مجاهد (3/554) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.
[18503]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/568) عن أبي سعيد الخدري وابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/554) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي. وله شاهد عن أنس ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/554) وعزاه إلى أبي الشيخ وابن مردويه. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/358) عن أبي سعيد الخدري.
[18504]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/358).
[18505]:انظر المصدر السابق.