قوله : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ } : في تعلٌُّ هذا الجارِّ أوجهٌ :
أحدها : أنَّ " بِفَضْلِ " و " بِرَحْمتهِ " متعلقٌ بمحذوفٍ ، تقديره : بفضل الله وبرحمته ليفرحُوا ، فبذلك فليَفْرَحُوا ، فحذف الفعل الأول ؛ لدلالة الثاني عليه ، فهما جملتان .
ويدلُّ على ذلك قول الزمخشري : " أصلُ الكلام : بفَضْلِ الله وبرحمته ، فليفرحوا ، فبذلك فليفرحوا ، والتَّكرير للتَّأكيد ، والتَّقرير ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحدُ الفعلين ؛ لدلالةِ المذكور عليه ، والفاءُ داخلةٌ لمعنى الشَّرطِ ، كأنَّه قيل : إن فرحُوا بشيءٍ ، فليَخُصُّوهُمَا بالفرح ، فإنَّه لا مفروح به أحق منهما " .
الثاني : أنَّ الجارَّ الأول متعلِّقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ والمعنى ، لا نفس الفعل الملفوظ به ، والتقديرُ : بفضل الله وبرحمته ، فليعتنُوا ، فبذلك فليَفْرَحُوا ، قاله الزمخشري .
الثالث : أن يتعلَّق الجارُّ الأوَّل ب " جَاءَتكُم " قال الزمخشري : " ويجوز أن يراد : قد جاءتكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمتهِ ، فبذلك فليفرحوا ، أي : فَبِمجِيئهما فليَفْرَحُوا " .
قال أبو حيَّان{[18492]} : " أمَّا إضمار " فليَعْتنُوا " فلا دليل عليه " . قال شهاب الدِّين{[18493]} : " الدَّلالةُ عليه من السِّياق واضحةٌ ، وليس شرطُ الدَّلالةِ أن تكون لفظيَّة " .
وقال أبو حيَّان{[18494]} : وأمَّا تعلُّقُه بقوله : " قَدْ جَاءتُكم " فينبغي أن يُقدَّرَ محذوفاً بعد " قُلْ " ، ولا يكونهُ متعلِّقاً ب " جَاءَتْكُم " الأولى ؛ للفَصْل بينهما ب " قُلْ " ، وهذا إيراد واضحٌ ، ويجُوزُ أن يكون " بِفَضْلِ اللهِ " صفةً ل " مَوْعِظَة " أي : موعظةٌ مصاحبةٌ ، أو ملتبسةٌ بفضل اللهِ .
الرابع : قال الحوفيُّ : " الباءُ متعلِّقةٌ بما دلَّ عليه المعنى ، أي : قد جاءتكم الموعظة بفضل الله " .
الخامس : أنَّ الفاء الأولى زائدةٌ ، وأنَّ قوله : " بذلك " بدلٌ ممَّا قبله ، وهو " بِفَضْلِ الله وبرحمتهِ " وأُشير بذلك إلى اثنين ؛ كقوله : { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] .
إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مدًى *** وكِلاَ ذلكَ وجْهٌ وقَبَلْ{[18495]}
أحدها : أنَّ الأولى زائدةٌ ، وقد تقدَّم في الوجه الخامس .
الثاني : أنَّ الفاء الثانية مكررةٌ للتَّوكيد ، فعلى هذا لا تكونُ الأولى زائدةً ، ويكون أصل التَّركيب : فبذلك ليفرحوا ، وعلى القول الأول قبلهُ يكون أصلُ التَّركيب : بذلك فليَفْرَحُوا .
الثالث : قال أبو البقاء : الفاءُ الأولى مرتبطةٌ بما قبلها ، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : فليَعْجَبُوا بذلك فليَفْرَحُوا ؛ كقولهم : زيداً فاضربه ، أي : تعمَّد زيداً فاضربه والجمهورُ على " فَلْيَفْرَحُوا " بياء الغيبة .
وقرأ عثمان{[18496]} بن عفان ، وأبيُّ ، وأنس ، والحسن ، وأبو رجاء ، وابن هرمز ، وابن سيرين : بتاء الخطاب ، وهي قراءةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الزمخشري : " وهو الأصلُ والقياسُ " .
قال أبو حيَّان : " إنَّها لغةٌ قليلة " .
يعنى أنَّ القياسَ أن يُؤمَرَ المخاطب بصيغةِ " افعل " ، وبهذا الأصل قرأ أبيُّ{[18497]} : " فَافْرَحُوا " وهي في مصحفه كذلك ، وهذه قاعدةٌ كُلِّيَّةٌ : وهي أنَّ الأمر باللاَّم يكثر في الغائب ، والمخاطب المبنيِّ للمفعول ، مثال الأول : " لِيقم زيدٌ " وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور ، ومثال الثاني : لِتُعْنَ بحاجتي ، ولتضرب يا زيد ، فإن كان مبنياً للفاعل ، كان قليلاً ؛ كقراءة عثمان ، ومن معه ، وفي الحديث : " لتأخُذُوا مصافَّكُم " بل الكثير في هذا النَّوْع الأمرُ بصيغة " افْعَلْ " نحو : قُمْ يا زيد ، وقوموا ، وكذلك يضعف الأمر باللاَّم للمتكلم وحدهُ ، أو معه غيره ، فالأول نحو : " لأقُمْ " تأمر نفسك بالقيام ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - " قُومُوا فلأصَلَّ لكُم " ومثال الثاني : لِنَقُمْ ، أي : نحن ، وكذلك النَّهْي ؛ ومنه قول الشَّاعر : [ الكامل ]
إذَا ما خَرَجْنَا مِنْ " دِمشْقَ " فلا نَعُدْ *** لهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجُرَاضِمُ{[18498]}
ونقل ابنُ عطيَّة ، عن ابن عامر : أنَّه قرأ{[18499]} : " فَلتَفْرَحُوا " خطاباً ، وهذه ليست مشهورة عنه . وقرأ الحسن{[18500]} ، وأبو التياح : " فَليَفْرَحُوا " بكسر اللام ، وهو الأصل .
قوله : { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } " هو " عائدٌ على الفضل والرَّحْمَةِ ، وإن كانا شيئين ؛ لأنَّهُمَا بمعنى شيء واحد ، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد ؛ ولذلك أشير إليهما بإشارة واحدةٍ .
وقرأ ابن{[18501]} عامر : " تَجْمَعُون " بتاء الخطاب ، وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون من باب الالتفات ، فيكون في المعنى كقراءة الجماعة ، فإنَّ الضَّمير يُراد من يُرادُ بالضَّمير في قوله : " فَلْيَفْرَحُوا " .
والثاني : أنَّه خطاب لقوله : { يا أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ } وهذه القراءةُ تناسبُ قراءة الخطاب في قوله " فَلْيَفْرَحُوا " كما نقلها ابنُ عطيَّة عنه أيضاً .
قال مجاهد وقتادةُ : فضل الله : الإيمان ، ورحمته : القرآن{[18502]} . وقال أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رضي الله عنه - : فضل الله : القرآن ، ورحمته أن جعلنا من أهله{[18503]} .
وقال ابن عمر : فضلُ الله : الإسلام ، ورحمته : تزيينهُ في القلب{[18504]} ، وقال خالدُ بن معدان : فضلُ الله : الإسلام ، ورحمته : السُّنَن{[18505]} .
وقيل : فضل الله : الإيمان ، ورحمته : الجنَّة ، { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أي : لِيَفْرَحِ المؤمنون أن جعلهم من أهله ، { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي : خير ممَّا يجمعه الكُفَّار من الأموالِ ؛ لأنَّ الآخرة خيرٌ وأبْقَى ، وما كان عند الله ، فهو أولى بالطَّلب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.