{ رّسُلاً مّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } . .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : إنّا أوْحَيْنا إلَيْكَ كمَا أوْحَيْنا إلى نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِنْ بَعْدِه ومن ذكر من الرسل رُسُلاً فنصب به الرسل على القطع من أسماء الأنبياء الذين ذكر أسماءهم . مُبَشّرِينَ يقول : أرسلتهم رسلاً إلى خلقي وعبادي مبشرين بثوابي من أطاعني واتبع أمري وصدّق رسلي ، وَمُنْذِرِينَ عقابي من عصاني وخالف أمري وكذّب رسلي . لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ على اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ يقول : أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين ، لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من دوني ، أو ضلّ عن سبيلي بأن يقول إن أردت عقابه : لَوْلاَ أرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنتَبّعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أنْ نَذِلّ وَنَخْزَى ، فقطع حجة كل مبطل ألحد في توحيده وخالف أمره بجميع معاني الحجج القاطعة عذره ، إعذارا منه بذلك إليهم ، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ على اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ فيقولوا : ما أرسلت إلينا رسلاً .
وكانَ اللّهُ عَزِيرا حَكِيما يقول : ولم يزل الله ذا عزّة في انتقامه ممن انتقم من خلقه على كفره به ومعصيته إياه بعد تثبيته حجته عليه برسله وأدلته ، حكيما في تدبيره فيهم ما دبره .
{ رسلا مبشرين ومنذرين } نصب على المدح أو بإضمار أرسلنا ، أو على الحال ويكون رسلا موطئا لما بعده كقولك مررت بزيد رجلا صالحا . { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } فيقولوا لولا أرسلت إليها رسولا فينبهنا ويعلمنا ما لم نكن نعلم ، وفيه تنبيه على أن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الناس ضرورة لقصور الكل عن إدراك جزيئات المصالح والأكثر عن إدراك كلياتها ، واللام متعلقة بأرسلنا أو بقوله { مبشرين ومنذرين } ، و{ حجة } اسم كان وخبره { للناس } أو { على الله } والآخر حال ، ولا يجوز تعلقه بحجة لأنه مصدر وبعد ظرف لها أو صفة . { وكان الله عزيزا } لا يغلب فيما يريد { حكيما } فيما دبر من أمر النبوة وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز .
{ رسلاً } بدل من الأول قبل . و { مبشرين ومنذرين } حالان أي يبشرون بالجنة من آمن وأطاع ، وينذرون بالنار من كفر وعصى ، وأراد الله تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول : لو بعث إليَّ الرسول لآمنت ، والله تعالى عزيز لا يغالبه شيء ولا حجة لأحد عليه ، وهو مع ذلك حكيم تصدر أفعاله عن حكمة ، فكذلك قطع الحجة بالرسل حكمة منه تعالى{[4384]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{رسلا مبشرين} بالجنة، {ومنذرين} من النار {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، فيقولوا يوم القيامة: لم يأتنا لك رسول. {وكان الله عزيزا حكيما}، حكم إرسال الأنبياء إلى الناس.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"مُبَشّرِينَ": أرسلتهم رسلاً إلى خلقي وعبادي مبشرين بثوابي من أطاعني واتبع أمري وصدّق رسلي، "وَمُنْذِرِينَ "عقابي من عصاني وخالف أمري وكذّب رسلي. "لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ على اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ": أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من دوني، أو ضلّ عن سبيلي بأن يقول إن أردت عقابه: "لَوْلاَ أرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنتَبّعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أنْ نَذِلّ وَنَخْزَى"، فقطع حجة كل مبطل ألحد في توحيده وخالف أمره بجميع معاني الحجج القاطعة عذره، إعذارا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه.
"وكانَ اللّهُ عَزِيرا حَكِيما": ولم يزل الله ذا عزّة في انتقامه ممن انتقم من خلقه على كفره به ومعصيته إياه بعد تثبيته حجته عليه برسله وأدلته، حكيما في تدبيره فيهم ما دبره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ويحتمل قوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} حقيقة الحجة: فأما ما يكون في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها السمع لا العقل، فلا تكون الحجة. وأما الدين فإن سبيل لزومه العقل، فلا يكون لهم في ذلك على الله حجة، إذ في خلقة كل أحد من الدلائل ما لو تأمل وتفكر فيها لدلت له على إلهيته وعلى وحدانيته وربوبيته، لكن بعث الرسل لقطع الاحتجاج لهم عنه، وإن لم يكن لهم الحجة. وإن كان على حقيقة الحجة، فهو في العبادة والشرائع، فبعث الرسل على قطع الحج لهم، والله أعلم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} سمّى الله تعالى النبيين بهذين الاسمين، فقال: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة: 213] ثم سمّى المرسلين خاصة بهذا الاسم، فقال (مبشرين ومنذرين) ثم سمّى نبينا خاصة بهذين الإسمين، فقال: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الفتح: 8-9] {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ} فيقول: ما أرسلت إلينا رسولاً فنتبع وما أنزلت علينا كتاباً. وقال في آية أخرى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل، وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرف أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ قلت: الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد مع تبليغ ما حملوه من تفضيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميماً لإلزام الحجة، لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولاً فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له.
اعلم أن هذا الكلام أيضا جواب عن شبهة اليهود، وتقريره أن المقصود من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يبشروا الخلق على اشتغالهم بعبودية الله، وأن ينذروهم على الإعراض عن العبودية، فهذا هو المقصود الأصلي من البعثة، فإذا حصل هذا المقصود فقد كمل الغرض وتم المطلوب، وهذا المقصود الأصلي حاصل بإنزال الكتاب المشتمل على بيان هذا المطلوب، ومن المعلوم أنه لا يختلف حال هذا المطلوب بأن يكون ذلك الكتاب مكتوبا في الألواح أو لم يكن، وبأن يكون نازلا دفعة واحدة أو منجما مفرقا، بل لو قيل: إن إنزال الكتاب منجما مفرقا أقرب إلى المصلحة لكان أولى لأن الكتاب إذا نزل دفعة واحدة كثرت التكاليف وتوجهت بأسرها على المكلفين فيثقل عليهم قبولها، ولهذا السبب أصر قوم موسى عليه السلام على التمرد ولم يقبلوا تلك التكاليف، أما إذا نزل الكتاب منجما مفرقا لم يكن كذلك، بل ينزل التكاليف شيئا فشيئا وجزءا فجزءا، فحينئذ يحصل الانقياد والطاعة من القوم وحاصل هذا الجواب أن المقصود من بعثة الرسل وإنزال الكتب هو الإعذار والإنذار، وهذا المقصود حاصل سواء نزل الكتاب دفعة واحدة أو لم يكن كذلك، فكان اقتراح اليهود في أنزال الكتاب دفعة واحدة اقتراحا فاسدا. وهذا أيضا جواب عن تلك الشبهة في غاية الحسن، ثم ختم الآية بقوله {وكان الله عزيزا حكيما} يعني هذا الذي يطلبونه من الرسول أمر هين في القدرة، ولكنكم طلبتموه على سبيل اللجاج وهو تعالى عزيز، وعزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه فكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع لعلمه تعالى بأنه لو فعل ذلك لبقوا مصرين على لجاجهم، وذلك لأنه تعالى أعطى موسى عليه السلام هذا التشريف ومع ذلك فقومه بقوا معه على المكابرة والإصرار واللجاج، والله أعلم.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
وفيه تنبيه على أن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الناس ضرورة لقصور الكل عن إدراك جزيئات المصالح والأكثر عن إدراك كلياتها،... {وكان الله عزيزا} لا يغلب فيما يريد {حكيما} فيما دبر من أمر النبوة وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وقوله: لئلا هو كالتعليل لحالتي: التبشير والإنذار...
فلو لم يبشر الرسل بالجنة لمن امتثل التكاليف الشرعية، ولم ينذروا بالنار من لم يمتثل، وكانت تقع المخالفة المترتب عليها العقاب بما لا شعور للمكلف بها من حيث أن الله لا يبعث إليه من يعلمه بأنّ تلك معصية، لكانت له الحجة إذ عوقب على شيء لم يتقدم إليه في التحذير من فعله، وأنه يترتب عليه العقاب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أما الآية التي نحن بصدد تفسيرها فهي مطلقة والمتبادر منها أن من حكمة إرسال الرسل قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل عندما يحاسبهم الله تعالى في الآخرة ويقضي بعذابهم، ومفهومه ومفهوم سائر الآيات أنه لولا إرسال الرسل لكان للناس أن يحتجوا في الآخرة على عذابها وعلى عذاب الدنيا الذي كان أصابهم بظلمهم. واستدل بها كثير من العلماء على امتناع مؤاخذة الله الناس وتعذيبهم على ترك الهداية التي لا تعرف إلا من الرسل عليهم السلام. ويستدلون بآية الإسراء على نجاة أهل الفترة، وكل من لم تبلغه الدعوة...
من أخذ القرآن بجملته وفقه أحكامه وحكمه يعلم أن الدين وضع إلهي لا يستقبل العقل البشري بالوصول إليه بنفسه بل يعرف بالوحي، وأنه مع هذا موفق لسنن الفطرة في تزكية النفس، وإعدادها للحياة الأبدية في عالم القدس، فهو من حيث هو وضع إلهي، يترتب على العمل به والترك جزاء وضعي يحدده الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذا الجزاء خاص بمن بلغته دعوته على وجهها. ومن حيث إنه موافق لسنن الفطرة يترتب على الاهتداء به تزكية النفس وعلى الإعراض عنه تدسيتها، وتأثير العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة والآداب العالية التي إليها تأثير فطري ذاتي، فكل من اهتدى بها زكت نفسه بقدر اهتدائه بها وإن لم يعلم أن رسولا جاء بها. وكذلك تأثير العقائد الباطلة والأعمال القبيحة والأخلاق الفاسدة التي ينهى عنها، فكل من تلوثت بها نفسه فسدت وسفلت، والأصل في هذا وذلك الإخلاص في الإيثار ما يعتقد الإنسان أنه الحق والخير على ضده. فكما دلت الآيات على أن الله تعالى لا يؤاخذ الناس بمخالفة ما جاءت به الرسل إلا إذا بلغتهم دعوتهم، وقامت عليهم حجتهم، لأن هذا النوع من المؤاخذة وضعي لا يتحقق إلا بتحقيق الوضع الذي يترتب هو عليه. وكذلك تدل آيات أخرى على الحساب والجزاء العام بالقسط على حسب تأثير الأعمال في النفوس، فمن دسى نفسه وأبسلها، لا يمكن أن يكون عند الله كمن زكى نفسه وأسلمها. ولا يمكن أن يقول عاقل إن نفوس من لم تبلغهم الدعوة الصحيحة تكون سواء مهما اختلفت عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، فإن هذا مخالف لحكم العقل وإدراك الحس، إذ لم توجد ولا توجد أمة إلا وفيها الصالحون والأبرار والفجار، والذين يؤثرون ما يرونه من الهدى على داعية الشهوة والهوى، والعكس. فهل يكون الفريقان عند الحكم العدل سواء؟ {قل لا يستوي الخبيث والطيب} [المائدة:104] {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون} [هود:24]؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة؛ ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ، ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام. وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق؛ وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح، ومنهج النظر الصحيح؛ وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة. وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض -بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله؛ وبعد أن يفهم المقصود بها: أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص- ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها -بعد إدراك مدلولها، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له- ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان.. فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها.. إن هذه الرسالة تخاطب العقل.. بمعنى أنها توقظه، وتوجهه، وتقيم له منهج النظر الصحيح.. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها، وبقبولها أو رفضها. ومتى ثبت النص كان هو الحكم؛ وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفا له أو غريبا عليه.. إن دور العقل -في هذا الصدد- هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص. وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح. وعند هذا الحد ينتهي دوره.. إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل. فهذا النص من عند الله، والعقل ليس إلها يحكم بالصحة أو البطلان، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله...
فإذا قرر الله -سبحانه- حقيقة في أمر الكون، أو أمر الإنسان، أو أمر الخلائق الأخرى. أو إذا قرر أمرا في الفرائض، أو في النواهي.. فهذا الذي قرره الله واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه. متى أدرك المدلول المراد منه..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} تعليل لقوله: {مبشرين ومنذرين} ولا يصحّ جعله تعليلاً لقوله: {إنا أوحينا إليك} لأنّ ذلك مسوق لبيان صحّة الرسالة مع الخُلُوّ عن هبوط كتاب من السماء ردّاً على قولهم: {حتّى تُنزّل علينا كتاباً نقرؤه} [الإسراء: 93]. فموقع قوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} موقع الإدماج تعليماً للأمّة بحكمة من الحكم في بعثته الرسل.
والحجّة ما يدُلّ على صدق المدّعي وحقّيّة المعتذر، فهي تقتضي عدم المؤاخذة بالذنب أو التقصير. والمراد هنا العذر البيّن الذي يوجب التنصّل من الغضب والعقاب. فإرسال الرسل لقطع عذر البشر إذا سئلوا عن جرائم أعمالهم، واستحقّوا غضب الله وعقابه. فعلم من هذا أنّ للنّاس قبل إرسال الرسل حجّة إلى الله أن يقولوا: {لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتّبع آياتك ونكون من المؤمنين} [القصص: 47].
وأشعرت الآية أنّ من أعمال النّاس ما هو بحيث يُغضب الله ويعاقب عليه، وهي الأفعال التي تدلّ العقول السليمة على قبْحها لإفضائها إلى الفساد والأضرار البيّنة. ووجه الإشعار أنّ الحجّة إنَّما تُقابِل محاولةَ عمل مّا، فلمّا بعث الله الرسل لقطع الحجّة علمنا أنّ الله حين بعث الرسل كان بصدد أنْ يؤاخذ المبعوث إليهم، فاقتضت رحمته أن يقطع حجّتهم ببعثة الرسل وإرشادهم وإنذارهم، ولذلك جعل قطع الحجّة علّة غائيّة للتبشير والإنذار: إذ التبشير والإنذار إنَّما يبيّنان عواقب الأعمال، ولذلك لم يعلّل بعثه الرسل بالتنبيه إلى ما يرضي الله وما يسخطه.
فهذه الآية ملجئة جميعَ الفرق إلى القول بأنّ بعثة الرسل تتوقّف عليها المؤاخذة بالذنوب، وظاهرها أنّ سائر أنواع المؤاخذة تتوقّف عليها، سواء في ذلك الذنوب الراجعة إلى الاعتقاد، والراجعة إلى العمل، وفي وجوب معرفة الله. فإرسال الرسل عندنا من تَمَام العدل من الله لأنّه لو لم يرسلهم لكانت المؤاخذة بالعذاب مجرّد الإطلاق الذي تقتضيه الخالقية إذْ لا يسأل عمّا يفعل، وكانت عدلاً بالمعنى الأعمّ.
فأمّا جمهورُ أهل السنّة، الذين تترجم عن أقوالهم طريقة الأشعري، فعمّموا وقالوا: لا يثبت شيء من الواجبات، ولا مؤاخذة على ترك أو فعل إلاّ ببعثة الرسل حتّى معرفة الله تعالى، واستدلّوا بهذه الآية وغيرها: مثل {وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15] وبالإجماع. وفي دعوى الإجماع نظر، وفي الاستدلال به على أصل من أصول الدين نظر آخر، وفي الاستدلال بالآيات، وهي ظواهر، على أصل من أصول الدين نظر ثالث، إلاّ أن يقال: إنَّها تكاثرت كثرة أبلغتها إلى مرتبة القطع، وهذا أيضاً مجال للنظر، وهم ملجَئُون إلى تأويل هذه الآية، لأنّهم قائلون بمؤاخذة أهل الفترة على إشراكهم بالله. والجواب أن يقال: إنّ الرسل في الآية كلٌّ إفْرادِي، صادق بالرسول الواحد، وهو يختلف باختلاف الدعوة. فأمّا الدعوة إلى جملة الإيمان والتوحيد فَقد تقرّرت بالرسل الأوّلين، الّذين تقرّر من دعواتهم عند البشر وجوبُ الإيمان والتوحيد، وأمّا الدعوة إلى تفصيل الآيات والصفات وإلى فروع الشرائع، فهي تتقرّر بمجيء الرسل الذين يختصّون بأمم معروفة...
ومناسبة التذييل بالوصفين في قوله: {عزيزاً حكيماً}: أمّا بوصف الحكيم فظاهرة، لأنّ هذه الأخبار كلّها دليلُ حكمته تعالى، وأمّا بوصف العزيز فلأنّ العزيز يناسب عزّتَه أن يكون غالباً من كلّ طريق فهو غالب من طريق المعبوديّة، لا يُسأل عما يفعل، وغالب من طريق المعقولِيّة إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلاّ بعد الأدلّة والبراهين والآيات. وتأخيرُ وصف الحكيم لأنّ إجراء عزّته على هذا التمام هو أيضاً من ضروب الحكمة الباهرة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في هذا النص الكريم بيان لعمل الرسل، والحكمة من بعثهم، وقد أرسل هؤلاء مبينين الحق داعين إليه، يبشرون الطائعين بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وينذرون العاصين بسوء العقبى، وإن واتاهم نفع في الدنيا فالعذاب الأليم يستقبلهم في الآخرة.
وكان بعث الرسل لكي يكون الذين يعصون على علم بما يستقبلهم والذين يطيعون على بينة بأوامر ربهم ويكون الذين يعذبون ليس لهم عذر من جهل، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}. أي لكي يسقط كل اعتذار للعصاة في عصيانهم بعد البيان الحكيم والإرشاد المبين فمن ضل فعن بينة، والله سبحانه برحمته وفضله ومنه يسمي ذلك حجة عليه. {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (23)} (الأنبياء)...
والحق أن الناس لا يهتدون في جملتهم إلى الشرائع الصحيحة، بل هم بعدها مراتب منهم من يهتدون بمجرد بيان الحق، ومنهم من لا يقنعون إلا بالبرهان الملزم ومنهم من لا يطيعون إلا بالتهديد ومنهم عصاة جائرون بائرون.
وقد ختم سبحانه الآية بقوله {وكان الله عزيزا حكيما} أي أنه القادر الغالب على كل شيء وهو الحكيم الذي يدبر الأمر بحكمته وعزته.
نعرف أن البشارة تكون بأمر سار يأتي من بعد والنذارة هي إخبار بأمر مسيء يأتي من بعد والعزيز سبحانه لا يغلب والحكيم سبحانه وضع كل شيء في موضعه، لماذا؟ لأن الرسل يبشرون وينذرون بأن هناك جنة ونارا وحسابا فإياكم أن تظنوا أن الذي كفر بقادر على أن يصنع شيئا لنفسه والله عزيز وغني عن خلقه جميعا. ونعلم أن الحق لا يجرم سلوكا إلا بنص، وقبل أن يعاقب فهو يضع القواعد التي لا يصح الخروج عنها وحين يقول الحق:"وكان الله عزيزا حكيما" فعزته وحكمته هي التي أتاحت لنا أن نعرف منهجه.