5- ولقد أرسلنا موسى مؤيداً بمعجزاتنا ، وقلنا له : أخرج قومك بني إسرائيل من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم ، وذكّرهم بالوقائع والنقم التي أوقعها الله بالأمم قبلهم . إن في ذلك التذكير دلائل عظيمة على وحدانية الله ، تدعو إلى الإيمان وإلى كل ما يتحقق به كمال الصبر على البلاء ، والشكر على النعماء ، وهذه صفة المؤمن .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَذَكّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا وحججنا من قبلك يا محمد ، كما أرسلناك إلى قومك بمثلها من الأدلة والحجج . كما : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح «ح » وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن الأشيب ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد «ح » وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَلَقَدْ أرْسَلْنا مُوسَى بآياتِنا قال : بالبينات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلَقَدْ أرْسَلْنا مُوسَى بآياتِنا قال : التسع الاَيات : الطوفان وما معه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، : أرْسَلْنا مُوسَى بآياتِنا قال : التسع البينات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله : أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ كما أنزلنا إليك يا محمد هذا الكتاب ، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذْنِ رَبّهِمْ ، ويعني بقوله : أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ : أي ادعهم من الضلالة إلى الهُدى ، ومن الكفر إلى الإيمان . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَلَقَدْ أرْسَلْنا مُوسَى بآياتِنا أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ يقول : من الضلالة إلى الهُدى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، مثله .
وقوله : وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ يقول عزّ وجلّ : وعظهم بما سلف من نعمي عليهم في الأيام التي خلت ، فاجتزىء بذكر الأيام من ذكر النعم التي عناها ، لأنها أيام كانت معلومة عندهم ، أنعم الله عليهم فيها نعما جليلة ، أنقذهم فيها من آل فرعون بعد ما كانوا فيما كانوا من العذاب المهين ، وغرق عدوّهم فرعون وقومه ، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وكان بعض أهل العربية يقول : معناه : خوّفهم بما نزل بعاد وثمود وأشباههم من العذاب ، وبالعفو عن الاَخرين . قال : وهو في المعنى كقولك : خذهم بالشدّة واللين . وقال آخرون منهم : قد وجدنا لتسمية النعم بالأيام شاهدا في كلامهم ، ثم استشهد لذلك بقول عمرو بن كلثوم :
وأيّامٍ لَنا غُرَ طِوَالٍ *** عَصَيْنا المَلْكَ فِيها أنْ نَدِينا
وقال : فقد يكون إنما جعلها غرّا طوالاً لإنعامهم على الناس فيها . وقال : فهذا شاهد لمن قال : وَذَكّرْهمْ بأيّامِ اللّهِ بنعم الله . ثم قال : وقد يكون تسميتها غرّا ، لعلوّهم على الملك وامتناعهم منه ، فأيامهم غرّ لهم وطوال على أعدائهم .
قال أبو جعفر : وليس للذي قال هذا القول ، من أن في هذا البيت دليلاً على أن الأيام معناها النعم وجهٌ ، لأن عمرو بن كلثوم إنما وصف ما وصف من الأيام بأنها غرّ ، لعزّ عشيرته فيها ، وامتناعهم على الملك من الإذعان له بالطاعة ، وذلك كقول الناس : ما كان لفلان قطّ يوم أبيض ، يعنون بذلك : أنه لم يكن له يوم مذكور بخير . وأما وصفه إياها بالطول ، فإنها لا توصف بالطول إلا في حال شدّة ، كما قال النابغة :
كِلِيني لِهَمَ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ *** ولَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَوَاكِبِ
فإنما وصفها عمرو بالطول لشدّة مكروهها على أعداء قومه ، ولا وجه لذلك غير ما قلت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن ليث ، عن مجاهد : وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال : بأنعم الله .
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد . قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن عبيد المكّتب عن مجاهد : وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال : بنعم الله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبيد المكتب ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبثر ، عن حصين ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى «ح » وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بأيّامِ اللّهِ قال : بنعم الله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال : بالنعم التي أنعم بها عليهم : أنجاهم من آل فرعون ، وفلق لهم البحر ، وظلّل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا حبيب بن حسان ، عن سعيد بن جبير : وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال : بنعم الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ يقول : ذكرهم بنعم الله عليهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَذَكّرْهُمْ بأيامِ الله قال : بنعم الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال : أيامه التي انتقم فيها من أهل معاصيه من الأمم خوْفهم بها ، وحذّرهم إياها ، وذكّرهم أن يصيبهم ما أصاب الذين من قبلهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحِمّاني ، قال : حدثنا محمد بن أبان ، عن أبي إسحاق ، عن سعد بن جبير ، عن ابن عباس . عن أُبَيّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال : «نِعَم اللّه » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عبيد الله أو غيره ، عن مجاهد : وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ قال : بنعم الله . إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ يقول : إن في الأيام التي سلفت بنعمي عليهم ، يعني على قوم موسى لاَيات ، يعني : لعبرا ومواعظَ لكل صبّار شكور : يقول : لكلّ ذي صبر على طاعة الله وشكر له على ما أنعم عليه من نعمه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قول الله عزّ وجلّ : إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ قال : نعْم العبد ، عبد إذا ابتلى صبر وإذا أُعطى شكر .
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } يعني اليد والعصا وسائر معجزاته . { أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور } بمعنى أي أخرج لأن في الإرسال معنى القول ، أو بأن أخرج فإن صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر فيصح أن توصل بها أن الناصبة . { وذكّرهم بأيّام الله } بوقائعه التي وقعت على الأمم الدارجة وأيام العرب حروبها . وقيل بنعمائه وبلائه . { إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور } يصبر على بلائه ويشكر على نعمائه ، فإنه إذا سمع بما أنزل على من قبل من البلاء وأفيض عليهم من النعماء أعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر ، وقيل المراد لكل مؤمن وإنما عبر عنه بذلك تنبيها على أن الصبر والشكر عنوان المؤمن .
وقوله : { ولقد أرسلنا موسى } الآية ، آيات الله هي العصا واليد وسائر التسع{[7004]} . وقوله : { أن أخرج } تقديره : بأن أخرج ، ويجوز أن تكون { أن } مفسرة لا موضع لها من الإعراب{[7005]} ، وأما { الظلمات } و { النور } فيحتمل أن يراد بها من الكفر إلى الإيمان . وهذا على ظاهر أمر بني إسرائيل في أنهم كانوا قبل بعث موسى أشياعاً متفرقين في الدين ، قوم مع القبط في عبادة فرعون ، وكلهم على غير شيء ، وهذا مذهب الطبري - وحكاه عن ابن عباس - وإن صح أنهم كانوا على دين إبراهيم وإسرائيل ونحو هذا ف { الظلمات } الذل والعبودية ،
و { النور } العزة والدين والظهور بأمر الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر هذه الآية وأكثر الآيات في رسالة موسى عليه السلام أنها إنما كانت إلى بني إسرائيل خاصة ، في معنى الشرع لهم وأمرهم ونهيهم بفروع الديانة ، وإلى فرعون وأشراف قومه في أن ينظروا ويعتبروا في آيات موسى فيقروا بالله ويؤمنوا به تعالى وبموسى ومعجزته ويتحققوا نبوته ويرسلوا معه بني إسرائيل .
قال القاضي أبو محمد : ولا يترتب هذا إلا بإيمان به ، وأما أن تكون رسالته إليهم لمعنى اتباعه والدخول في شرعه فليس هذا بظاهر القصة ولا كشف الغيب ذلك ، ألا ترى أن موسى خرج عنهم ببني إسرائيل ؟ فلو لم يتبع لمضى بأمته ، وألا ترة أنه لم يدع القبط بجملتهم وإنما كان يحاور أولي الأمر ؟ وأيضاً فليس دعاؤه لهم على حد دعاء نوح وهود وصالح أممهم في معنى كفرهم ومعاصيهم ، بل في الاهتداء والتزكي وإرسال بني إسرائيل .
ومما يؤيد هذا أنه لو كانت دعوته لفرعون والقبط على حدود دعوته لبني إسرائيل فلم كان يطلب بأمر الله أن يرسل معه بني إسرائيل ؟ بل كان يطلب أن يؤمن الجميع ويتشرعوا بشرعه ويستقر الأمر . وأيضاً فلو كان مبعوثاً إلى القبط لرده الله إليهم حين غرق فرعون وجنوده ، ولكن لم يكونوا أمة له فلم يرد إليهم .
قال القاضي أبو محمد : واحتج من ذهب إلى أن موسى بعث إلى جميعهم بقوله تعالى في غير آية { إلى فرعون وملئه }{[7006]} [ الأعراف : 103 ] ، و { إلى فرعون وقومه }{[7007]} [ النمل : 12 ] والله أعلم .
وقوله : { وذكرهم } الآية . أمر الله عز وجل موسى أن يعظ قومه بالتهديد بنقم الله التي أحلها بالأمم الكافرة قبلهم وبالتعديد لنعمه عليهم في المواطن المتقدمة ، وعلى غيرهم من أهل طاعته ليكون جريهم على منهاج الذين أنعم عليهم وهربهم من طريق الذين حلت بهم النقمات ، وعبر عن النعم والنقم ب «الأيام » إذ هي في أيام{[7008]} ، وفي هذه العبارة تعظيم هذه الكوائن المذكور بها ، ومن هذا المعنى قولهم : يوم عصيب ، ويوم عبوس ، ويوم بسام ، وإنما الحقيقة وصف ما وقع فيه من شدة أو سرور ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : { أيام الله } : نعمه : وعن فرقة أنها قالت : { أيام الله } : نقمه .
قال القاضي أبو محمد : ولفظة «الأيام » تعم المعنيين ، لأن التذكير يقع بالوجهين جميعاً .
وقوله : { لكل صبار شكور } إنما أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه ، فأخذ من صفات المؤمن صفتين تجمع أكثر الخصال وتعم أجمل الأفعال{[7009]} .