القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هََذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقرّوا بوحدانيته : ما المشركون إلا نجس .
واختلف أهل التأويل في معنى النجَس وما السبب الذي من أجله سماهم بذلك ، فقال بعضهم : سماهم بذلك لأنهم يُجْنِبون فلا يغتسلون ، فقال : هم نجس ، ولا يقربوا المسجد الحرام ، لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، في قوله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ : لا أعلم قتادة إلا قال : النجَس : الجنابة .
وبه عن معمر ، قال : وبلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة ، وأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده ، فقال حذيفة : يا رسول الله إني جُنُب فقال : «إنّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُس » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ : أي أجناب .
وقال آخرون : معنى ذلك : ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب . وهذ قول رُوي عن ابن عباس من وجه غير حميد ، فكرهنا ذكره .
وقوله : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا يقول للمؤمنين : فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرَم . وإنما عني بذلك منعهم من دخول الحرَم ، لأنهم إذا دخلوا الحرَم فقد قربوا المسجد الحرام .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر وابن المثنى ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الحرَم كله قبلة ومسجد ، قال : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ لم يعن المسجد وحده ، إنما عنى مكة والحرَم . قال ذلك غير مرة .
وذُكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما :
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : ثني الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عمرو : أن عمر بن عبد العزيز كتب : أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع في نهيه قول الله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال : لا تصافحوهم ، فمن صافحهم فليتوضأ .
وأما قوله : بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا فإنه يعني : بعد العام الذي نادى فيه عليّ رحمة الله عليه ببراءة ، وذلك عامَ حجّ بالناس أبو بكر ، وهي سنة تسع من الهجرة . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر ، ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحجّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حِجة الوداع لم يحجّ قبلها ولا بعدها .
وقوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً يقول للمؤمنين : وإن خفتم فاقة وفقرا ، بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام . فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ يقال منه : عال يَعِيل عَيْلَةً وعُيُولاً ، ومنه قول الشاعر :
وَما يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غناهُ *** وَما يَدْرِي الغَنيّ مَتَى يَعِيلُ
وقد حُكي عن بعضهم أن من العرب من يقول في الفاقة : عال يَعُول بالواو . وذكر عن عمر بن فائد أنه كان تأوّل قوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً بمعنى : وإذ خفتم ، ويقول : كان القوم قد خافوا ، وذلك نحو قول القائل لأبيه : إن كنت أبي فأكرمني ، بمعنى : إذ كنت أبي . وإنما قيل ذلك لهم ، لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم انقطاع تجاراتهم ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك ، وأمّنهم الله من العَيْلة وعوّضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم ما هو خير لهم منه ، وهو الجزية ، فقال لهم : قاتلُوا الّذِينَ لا يُؤْمنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ . . . إلى : صَاغِرُونَ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، قال : من أين تأكلون وقد نُفي المشركون وانقطعت عنكم العِير ؟ فقال الله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ فأمرهم بقتال أهل الكتاب ، وأغناهم من فضله .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : كان المشركون يجيئون إلى البيت ، ويجيئون معهم بالطعام ويَتّجرون فيه فلما نهُوُا أن يأتوا البيت قال المسلمون : من أين لنا طعام ؟ فأنزل الله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ فأنزل عليهم المطر ، وكثر خيرهم حين ذهب عنهم المشركون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن عليّ بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . الآية ، ثم ذكر نحو حديث هناد ، عن أبي الأحوص ،
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن واقد ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما نزلت : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : من يأتينا بطعامنا ، ومن يأتينا بالمتاع ؟ فنزلت : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن واقد مولى زيد بن خلدة ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان المشركون يقدمون عليهم بالتجارة ، فنزلت هذه الآية : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . إلى قوله : عَيلَةً قال : الفقر . فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية العوفيّ ، قال : قال المسلمون : قد كنا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم ، فنزلت : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . إلى قوله : مِنْ فَضْلِهِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، أحسبه قال : أنبأنا أبو جعفر ، عن عطية ، قال : لما قيل : ولا يحجّ بعد العام مشرك قالوا : قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم . قال : فنزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني : بما فاتهم من بياعاتهم .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن يمان ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال : بالجزية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان وأبو معاوية ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك ، قال : أخرج المشركون من مكة ، فشقّ ذلك على المسلمين ، وقالوا : كنا نصيب منهم التجارة والمِيرة . فأنزل الله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ كان ناس من المسلمين يتألفون العير فلما نزلت براءة بقتال المشركين حيثما ثُقِفوا ، وأن يقعدوا لهم كل مرصد ، قذف الشيطان في قلوب المؤمنين . فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العِير ؟ فعلم الله من ذلك ما علم ، فقال : أطيعوني ، وامضوا لأمري ، وأطيعوا رسولي ، فإني سوف أغنيكم من فضلي فتوكل لهم الله بذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . إلى قوله : فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ قال : قال المؤمنون : كنا نصيب من متاجر المشركين . فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله عوضا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام . فهذه الآية من أوّل براءة في القراءة ، ومن آخرها في التأويل : قاتِلُوا الّذِينَ لا يؤمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . إلى قوله : عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، شقّ ذلك على المسلمين ، وكانوا يأتون ببياعات ينتفع بذلك المسلمون ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فأغناهم بهذا الخراج الجزية الجارية عليهم ، يأخذونها شهرا شهرا ، عاما عاما . فليس لأحد من المشركين أن يقرَب المسجد الحرام بعد عامهم بحال إلا صاحب الجزية ، أو عبد رجل من المسلمين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة .
قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : إلا صاحب جزية ، أو عبدا لرجل من المسلمين .
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في هذه الآية : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الجزية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال : أغناهم الله بالجزية الجارية شهرا فشهرا وعاما فعاما .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن الحجاج ، عن أبي الزبير ، عن جابر : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشرك ولا ذميّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً وذلك أن الناس قالوا : لُتْقَطَعنّ عنا الأسواق ولَتهلِكنّ التجارة وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المرافق فنزل : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ من وجه غير ذلك إنْ شاءَ . . . إلى قوله : وَهُمْ صَاغِرُونَ ، ففي هذا عوض مما تخوّفتم من قطع تلك الأسواق . فعوّضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية .
وأما قوله : إنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فإن معناه : إن الله عليم بما حدثْتكم به أنفسكم أيها المؤمنون من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام ، وغير ذلك من مصالح عباده ، حكيم في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه .