وقوله - سبحانه - { قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ . . } رد من الله - تعالى - على نوح فيما طلبه منه .
أى : قال الله - تعالى - مجيبا لنوح - عليه السلام - فيما أسأله إياه : يا نوح إن ابنك هذا { لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } لأن مدار الأهلية مبنى على القرابة الدينية ، وقد انقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر .
أو ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم ، بل هو ممن سبق عليه القول بسبب كفره .
فالمراد نفى أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، وليس المراد نفى أن يكون من صلبه ، لأن ظاهر الآية يدل على أنه ابنه من صلبه ، ومن قال بغير ذلك فقوله ساقط ولا يلتفت إليه ، لخلوه عن الدليل .
قال ابن كثير : وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب فى تفسير هذا إلا أنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن زنية .
وقال ابن عباس وغير واحد من السلف : ما زنت امرأة نبى قط ، ثم قال : وقوله { لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أى : الذين وعدتك بنجاتهم .
وقول ابن عباس فى هذا هو الحق الذى لا محيد عنه ؛ فإن الله - تعالى - أغير من أن يمكن امرأة نبى من الفاحشة .
وجملة { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } تعليل لنفى الأهلية .
وقد قرأ الجمهور ( عمل ) بفتح الميم وتنوين اللام - على أنه مصدر مبالغة فى ذمة حتى لكأنه هو نفس العمل غير الصالح وأصل الكلام إنه ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف للمبالغة بجعله عين عمله الفاسد لمداومته عليه .
وقرأ الكسائي ويعقوب { عمل } بوزن فرح بصيغة الفعل الماضى - أى : إنه عمل غير صالح وهو الكفر والعصيان ، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه .
قال صاحب الكشاف وقوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } تعليل لانتفاء كونه من أهله وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وأن نسيبك فى دينك ومعتقدك من الأباعد فى المنصب وإن كان حبشيا وكنت قرشيا لصيفك وخصيصك ، ومن لم يكن على دينك وإن كان أمس أقاربك رحما فهو أبعد بعيد منك .
وقال الفخر الرازى : هذه الآية يدل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب ، فإن فى هذه الصورة كانت قرابة النسب حاصلة من أقوى الوجوه ، ولكن لما انتفت قرابة الدين ، لا جرم نفاه الله - تعالى - بأبلغ الألفاظ وهو : قوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } .
والفاء فى قوله : { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ . . } للتفريع .
أى : ما دمت قد وقفت على حقيقة الحال ، فلا تلتمس منى ملتمسا لا تعلم على وجه اليقين ، أصواب هو أم غير صواب ، بل عليك أن تثبت من صحة ما تطلبه ، قبل أن تقدم على طلبه .
وجملة { إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } تأكيد لما قبلها ، ونهى له عن مثل هذا السؤال فى المستقبل ، بعد أن أعلمه بحقيقة حال ابنه .
أى : إن أنهاك يا نوح عن أن تكون من القوم الجاهلين ، الذين يسألون عن أشياء لا يتحققون وجه الصواب فيها .
وقوله تعالى : { قال يا نوح } الآية ، المعنى قال الله تعالى : يا نوح ، وقالت فرقة : المراد أنه ليس بولد لك ، وزعمت أنه كان لغية{[6373]} ، وأن امرأته الكافرة خانته فيه ، هذا قول الحسن وابن سيرين وعبيد بن عمير : وقال بزي إنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش من أجل ابن نوح{[6374]} ، وحلف الحسن أنه ليس بابنه ، وحلف عكرمة والضحاك أنه ابنه .
قال القاضي أبو محمد : عول الحسن على قوله تعالى : { إنه ليس من أهلك } ، وعول الضحاك وعكرمة على قوله تعالى : { ونادى نوح ابنه } [ هود : 42 ] .
وقرأ الحسن ومن تأول تأويله : { إنه عمل غير صالح } على هذا المعنى ، وهي قراءة السبعة سوى الكسائي : وقراءة جمهور الناس ، وقال من خالف الحسن بن أبي الحسن : المعنى : ليس من أهلك الذين عمهم الوعد لأنه ليس على دينك وإن كان ابنك بالولاء{[6375]} . فمن قرأ من هذه الفرقة { إنه عمل غير صالح } جعله وصفاً له بالمصدر على جهة المبالغة ، فوصفه بذلك كما قالت الخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها : [ البسيط ]
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت*** فإنما هي إقبال وإدبار{[6376]}
أي ذات إقبال وإدبار . وقرأ بعض هذه الفرقة «إنه عمل غير صالح » وهي قراءة الكسائي ، وروت هذه القراءة أم سلمة وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكره أبو حاتم ، وضعف الطبري هذه القراءة وطعن في الحديث بأنه من طريق شهر بن حوشب ، وهي قراءة علي وابن عباس وعائشة وأنس بن مالك ، ورجحها أبو حاتم وقرأ بعضها : «إنه عمل عملاً غير صالح » . وقالت فرقة : الضمير في قوله : «إنه عمل غير صالح » على قراءة جمهور السبعة على سؤال الذي يتضمنه الكلام وقد فسره آخر الآية ؛ ويقوي هذا التأويل أن في مصحف ابن مسعود «إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم » . وقالت فرقة : الضمير عائد على ركوب ولد نوح معهم الذي يتضمنه سؤال نوح ، المعنى : أن ركوب الكافر مع المؤمنين عمل غير صالح ، وقال أبو علي : ويحتمل أن يكون التقدير أن كونك مع الكافرين وتركك الركوب معنا عمل غير صالح .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل لا يتجه من جهة المعنى ، وكل هذه الفرق قال : إن القول بأن الولد كان لغية وولد فراش خطأ محض وقالوا : إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ما زنت امرأة نبي قط » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الحديث ليس بالمعروف ، وإنما هو من كلام ابن عباس رضي الله عنه ويعضده شرف النبوة . وقالوا في قوله عز وجل : { فخانتاهما }{[6377]} إن الواحدة كانت تقول للناس : هو مجنون ؛ والأخرى كانت تنبه على الأضياف ، وأما غير هذا فلا{[6378]} ، وهذه منازع ابن عباس وحججه ؛ وهو قوله وقول الجمهور من الناس{[6379]} .
وقرأ ابن أبي مليكة : «فلا تسلْني » بتخفيف النون وإثبات الياء وسكون اللام دون همز . وقرأت فرقة بتخفيف النون وإسقاط الياء وبالهمز «فلا تسألن » ، وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسر النون وشدها والهمز وإثبات الياء «فلا تسألنِّي » ، وقرأ نافع ذلك دون ياء «فلا تسألن » وقرأ ابن كثير وابن عامر «فلا تسألنَّ » بفتح النون المشددة ، وهي قراءة ابن عباس ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «فلا تسلْن » خفيفة النون ساكنة اللام ، وكان أبو عمرو يثبت الياء في الوصل ، وحذفها عاصم وحمزة في الوصل والوقف . ومعنى قوله : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد فإذ رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك واجب بحق عند الله .
قال القاضي أبو محمد : ولكن نوحاً عليه السلام حملته شفقة النبوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير ، وعلى هذا القدر وقع عتابه ، ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } ، وقد قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { فلا تكونن }{[6380]} ، وذلك هنا بحسب الأمر الذي عوتب فيه وعظمته ، فإنه لضيق صدره بتكاليف النبوة ، وإلا فمتقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل البشر وأولاهم بلين المخاطبة ؛ ولكن هذا بحسب الأمرين لا بحسب النبيين . وقال قوم : إنما وقر نوح لسنة . وقال قوم : إنما حمل اللفظ على محمد صلى الله عليه وسلم كما يحمل الإنسان على المختص به الحبيب إليه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، ويحتمل قوله : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } ، أي لا تطلب مني أمراً لا تعلم المصلحة فيه علم يقين ، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي ، وقال : إن { به } يجوز أن يتعلق بلفظة { علم } كما قال الشاعر : [ الرجز ] .
كان جزائي بالعصا أن أجلدا{[6381]}
ويجوز أن يكون { به } بمنزلة فيه ، فتتعلق الباء بالمستقر .
قال القاضي أبو محمد : واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي ، والمعنى في الآية واحد ، وروي أن هذا الابن إنما كان ربيبه وهذا ضعيف ؛ وحكى الطبري عن ابن زيد أن معنى قوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } في أن تعتقد أني لا أفي لك بوعد وعدتك به .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بشع ، وليس في الألفاظ ما يقتضي أن نوحاً اعتقد هذا وعياذاً بالله{[6382]} ، وغاية ما وقع لنوح عليه السلام أن رأى ترك ابنه معارضاً للوعد فذكر به ، ودعا بحسب الشفقة ليكشف له الوجه الذي استوجب به ابنه الترك في الغرقى .
معنى قوله تعالى : { إنّه ليس من أهلك } نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، فليس ذلك إبطالاً لقول نوح عليه السّلام : { إن ابني من أهلي } ولكنّه إعلام بأنّ قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة ، وهذا المعنى شائع في الاستعمال .
قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن :
إذا حاولت في أسد فجوراً *** فإني لست منك ولست منّي
وقال تعالى : { ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قومٌ يفرقون } [ التوبة : 56 ] .
وتأكيد الخبر لتحقيقه لِغرابته .
وجملة { إنّه عَمل غير صالح } تعليل لمضمون جملة { إنه ليس من أهلك } ف ( إنّ ) فيه لمجرد الاهتمام .
و{ عَمَلٌ } في قراءة الجمهور بفتح الميم وتنوين اللام مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع { غيرُ } على أنه صفة ( عمل ) . وقرأه الكسائي ، ويعقوب { عَمِلَ } بكسر الميم بصيغة الماضي وبنصب { غيرَ } على المفعولية لفعل ( عمل ) . ومعنى العمل غير الصالح الكفر ، وأطلق على الكفر ( عمل ) لأنه عمل القلب ، ولأنّه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان .
وتفرع على ذلك نهيه أن يَسأل ما ليس له به علم نهيَ عتاب ، لأنّه لما قيل له { إنّه ليس من أهلك } بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح ، سقط ما مهد به لإجابة سؤاله ، فكان حقيقاً بأن لا يسأله وأن يتدبّر ما أرَاد أن يسأله من الله .
وقرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر « فلا تسألنّي » بتشديد النون وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا . وأثبتَ ياء المتكلم من عدا ابنَ كثير من هؤلاء . أما ابن كثير فقرأ « فلا تسألنّ » بنون مشددة مفتوحة . وقرأه أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف « فلا تسألْنِ » بسكون اللام وكسر النون مخففة على أنّه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى إلى ياء المتكلم .
وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل ، وأثبتها في الوصل ورش عن نافع وأبو عمرو .
ثم إن كان نوح عليه السّلام لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم ، نهيَ تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤْلاً لا يعلم إجابته . وهذا كقوله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [ سبأ : 23 ] وقوله : { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } [ النبإ : 38 ] ، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل ، كما دل عليه قوله : { وإنّ وعدكَ الحقُ } ، وكان سؤاله المغفرة لابنه طلباً تخصيصَه من العموم . وكان نهيه نهيَ لَوم وعتاب حيث لم يتبيّن من ربه جواز ذلك .
وكان قوله : { ما ليس لك به علم } محتملاً لظاهره ، ومحتملاً لأن يكون كناية عن العلم بضده ، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع .
ثم إن كان قول نوح عليه السّلام { إنّ ابني من أهلي } إلى آخره تعريضاً بالمسؤول كان النّهي في قوله : { فلا تسألنّي ما ليس لك به علم } نهياً عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله ؛ وإن كان قول نوح عليه السّلام مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى : { فلا تسألنّي } نهياً عن الإفضاء بالسؤال الذي مَهّد له بكلامه . والمقصود من النهي تنزيهه عن تَعريض سؤاله للردّ .
وعلى كل الوجوه فقوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلية } موعظة على ترك التثبّت قبل الإقدام .
والجهل فيه ضد العلم ، وهو المناسب لمقابلته بقوله : { ما ليس لك به علم } .