57- ومن فضلنا عليكم أننا جعلنا السحاب لكم كالظلّة ليصونكم من الحر الشديد ، وأنزلنا عليكم المنَّ ، وهو مادة حلوة لزجة كالعسل تسقط على الشجر من طلوع الشمس ، كما أنزلنا عليكم السلوى وهو الطائر المعروف بالسمان ، فهو يأتيكم بأسرابه بكرة وعشيا لتأكلوا وتتمتعوا ، وقلنا لكم : كلوا من طيبات رزقنا . فكفرتم بالنعمة ، ولم يكن ذلك بضائرنا ، ولكنكم تظلمون أنفسكم لأن ضرر العصيان واقع عليكم{[2]} .
ثامناً : نعمة تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم :
ثم عطف - سبحانه - على نعمة بعثهم من بعد موتهم نعمة أخرى بل نعمتين ، وهما تظليلهم بالغمام ومنحهم المن والسلوى ، فقال تعالى :
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
الغمام : جمع غمامة ، وهي السحابة ، وخصه بعض علماء اللغة بالسحاب الأبيض .
والمن : اسم جنس لا واحد من لفظه ، وهو - على أرجح الأقوال - مادة صمغية تسقط على الشجر تشبه حلاوته حلاوة الغسل .
والسلوى : اسم جنس جمعي ، واحدته سلواة ، وهر طائر بري لذيذ اللحم ، سهل الصيد يسمى بالسماني ، كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء ، فيمسكونه قبضاً بدون تعب .
وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم ، كان في مدة تيههم بين مصر والشام المشار إليه بقوله - تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } قال السدي : " لما دخل بنو إسرائيل التيه ، قالوا لموسى - عليه السلام - كيف لنا بما ها هنا ، أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجرة النجبيل ، والسلوى وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه فقالوا هذا الطعام فأين الشراب ؟ فأمر الله - تعالى - موسى أن يضرب بعصاه الحجر فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الشراب فأين الظل ؟ فظلل الله عليهما الغمام . قالوا : هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتمزق لهم توب ، فذلك قوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى . . . }
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا يا بني إسرائيل من بين نعمي عليكم نعمة إظلالكم بالغمام وأنتم في التيه ليقيكم حر الشمس ، وحرارة الجو ، ولولا منحى إياكم الطعام اللذيذ المشتهي بدون تعب منكم في تحصيله لهلكتم ، وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الذي رزقكم هذه النعم ، ولكنكم كفرتم بها ، فظلمتم أنفسكم دون أن ينالنا من ذلك شيء ، لأن الخلق جميعاً لن يبلغوا ضرى فيضروني ولن يبلغوا نفعي فينفعوني .
فالآية الكريمة قد أشارت إلى جحودهم النعمة بقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
وقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوف على محذوف ، أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر .
ويرى البعض أنه لا حاجة إلى التقدير ، وأن جملة { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوفة على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل .
والتعبير عن ظلمهم لأنفسهم بكلمة { كانوا } والفعل المضارع { يَظْلِمُونَ } يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان يتكرر منهم ، لأنك لا تقول في ذم إنسان كان يسيء إلى الناس إلا إذا كانت الإِساءة تصدر منه المرة تلو الأخرى .
قال الإِمام ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ما ملخصه : ( هذا من الذي استغنى بدلالة ظاهره على ما ترك منه ، وذلك أن معنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به ، وعصوا ربهم ، ثم رسولنا إليهم ، وما ظلمونا فاكتفى بما ظهر عما ترك ، وقوله { وَمَا ظَلَمُونَا } أي : ما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا ، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها فإن الله - تعالى - لا تضره معصية عاص ، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم ، ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل ، بل نفسَه يظلم الظالم وحظَّها يبخس العاصي ، وإياها ينفع المطيع ، وحظها يصيب العادل ) .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ذكرت بني إسرائيل بنعمة من أعظم النعم وهي تظليلهم بالغمام بإنزال المن والسلوى عليهم ، ولكن بني إسرائيل لم يشكروا الله على نعمه ، ولذا أرسل الله عليهم رجزاً من السماء بسبب ظلمهم وفسقهم .
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 57 )
ومعنى { ظللنا } جعلناه ظللاً ، و { الغمام } السحاب لأنه يغم وجه السماء أي يستره .
وقال مجاهد : «هو أبرد من السحاب وأرق وأصفى ، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : يأتي أمره وسلطانه وقضاؤه . وقيل { الغمام } ما ابيض من السحاب .
و { المن } صمغة حلوه ، هذا قول فرقة ، وقيل : هو عسل ، وقيل : شراب حلو ، وقيل : الذي ينزل اليوم على الشجر( {[632]} ) ، وقيل : { المن } خبز الرقاق مثل النقي( {[633]} ) : وقيل : هو الترنجبين( {[634]} ) وقيل الزنجبيل ، وفي بعض هذه الأقوال بعد . وقيل : { المن } مصدر يعني به جميع ما من الله به مجملاً .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب مسلم : الكمأة مما من الله به على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين .
فقيل : أراد عليه السلام أن الكمأة نفسها مما أنزل نوعها على بني إسرائيل .
وقيل : أراد أنه لا تعب في الكمأة ولا جذاذ ولا حصاد ، فهي منه دون تكلف من جنس من بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف( {[635]} ) .
وروي أن { المن } كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج( {[636]} ) فيأخذ منه الرجل ما يكفيه ليومه ، فإن ادخر فسد عليه( {[637]} ) إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم ، لأن يوم السبت يوم عبادة ، و { المن } هنا اسم جمع لا واحد له من لفظه ، { والسلوى } طير بإجماع( {[638]} ) من المفسرين ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم .
قيل : هو السماني بعينه . وقيل : طائر يميل إلى الحمرة مثل السمانى ، وقيل : طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجنوب .
قال الأخفش : «السلوى جمعه وواحده بلفظ واحد » . قال الخليل : { السلوى } جمع واحدته سلواة .
قال الكسائي : { السلوى } واحدة جمعها سلاوى ، { والسلوى } اسم مقصور لا يظهر فيه الإعراب ، لأن آخره ألف ، والألف حرف هوائي أشبه الحركة فاستحالت حركته ولو حرك لرجع حرفاً آخر ، وقد غلط الهذلي فقال : [ الطويل ]
وقاسمها بالله عهداً لأنتمُ . . . ألذُّ من السلوى إذا ما نشورُها( {[639]} )
وقوله تعالى : { كلوا } الآية ، معناه وقلنا كلوا ، فحذف اختصاراً لدلالة الظاهر عليه ، والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ .
وقوله تعالى : { وما ظلمونا } يقدر قبله : فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر ، والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرة لنا ولكن وضعوه في موضع مضرة لهم حيث لا يجب .
وقال بعض المفسرين : { ما ظلمونا } ما نقصونا ، والمعنى يرجع إلى ما لخصناه ،
عطف { وظللنا } على { بعثناكم } [ البقرة : 56 ] . وتعقيب ذكر الوحشة بذكر جائزة شأن الرحيم في تربية عبده ، والظاهر أن تظليل الغمام ونزول المن والسلوى كان قبل سؤالهم رؤية الله جهرة لأن التوراة ذكرت نزول المن والسلوى حين دخولهم في برية سين بين إيليم وسينا في اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني من خروجهم من مصر حين اشتاقوا أكل الخبز واللحم لأنهم في رحلتهم ما كانوا يطبخون بل الظاهر أنهم كانوا يقتاتون من ألبان مواشيهم التي أخرجوها معهم ومما تنبته الأرض . وأما تظليلهم بالغمام فالظاهر أنه وقع بعد أن سألوا رؤية الله لأن تظليل الغمام وقع بعد أن نصب لهم موسى خيمة الاجتماع محل القرابين ومحل مناجاة موسى وقبلة الداعين من بني إسرائيل في برية سينا فلما تمت الخيمة سنة اثنتين من خروجهم من مصر غطت سحابة خيمة الشهادة ومتى ارتفعت السحابة عن الخيمة فذلك إذن لبني إسرائيل بالرحيل فإذا حلت السحابة حلوا إلخ ، كذا تقول كتبهم{[127]} .
فلما سأل بنو إسرائيل الخبز واللحم كان المن ينزل عليهم في الصباح والسلوى تسقط عليهم في المساء بمقدار ما يكفي جميعهم ليومه أو ليلته إلا يوم الجمعة فينزل عليهم منهما ضعف الكمية لأن في السبت انقطاع النزول .
والمن مادة صمغية جوية ينزل على شجر البادية شبه الدقيق المبلول ، فيه حلاوة إلى الحموضة ولونه إلى الصفرة ويكثر بوادي تركستان وقد ينزل بقلة غيرها ولم يكن يعرف قبل في برية سينا . وقد وصفته التوراة{[128]} بأنه دقيق مثل القشور يسقط ندى كالجليد على الأرض وهو مثل بزر الكزبرة أبيض وطعمه كرقاق بعسل وسمته بنو إسرائيل منا ، وقد أمروا أن لا يبقوا منه للصباح لأنه يتولد فيه دود وأن يلتقطوه قبل أن تحمى الشمس لأنها تذيبه فكانوا إذا التقطوه طحنوه بالرحا أو دقوه بالهاون وطبخوه في القدور وعملوه ملات وكان طعمه كطعم قطائف بزيت{[129]} وأنهم أكلوه أربعين سنة حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان يريد إلى حبرون .
وأما السلوى فهي اسم جنس جمعي واحدته سلواة وقيل : لا واحد له وقيل : واحده وجمعه سواء ، وهو طائر بري لذيذ اللحم سهل الصيد كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء فيمسكونه قبضاً ويسمى هذا الطائر أيضاً السمانى بضم السين وفتح الميم مخففة بعدها ألف فنون مقصور كحبارى ، وهو أيضاً اسم يقع للواحد والجمع ، وقيل : هو الجمع وأما الفرد فهو سماناة .
وقوله : كلوا من طيبات ما رزقناكم مقول قول محذوف لأن المخاطبين حين نزول القرآن لم يؤمروا بذلك فدل على أنه من بقية الخبر عن أسلافهم .
وقوله : { وما ظلمونا } قدره صاحب « الكشاف » معطوفاً على مقدر أي فظلموا وقرره شارحوه بأن ( ما ظلمونا ) نفي لظلم متعلق بمفعول معين وهو ضمير الجلالة وهذا النفي يفيد في المقام الخطابي أن هنالك ظلماً متعلقاً بغير هذا المنصوب إذ لو لم يكن الظلم واقعاً لنفى مطلقاً بأن يقال : وما ظلموا وليس المعنى عليه ، وأنه إنما قدر في « الكشاف » الفعل المحذوف مقترناً بالفاء لأن الفاء في عطف الجمل تفيد مع الترتيب والتعقيب معنى السببية غالباً ، فتكون الجملة المعطوفة متسببة عن الجملة المعطوف عليها فشبه وقوع ظلمهم حين كفروا النعمة عقب الإحسان بترتب المسبب على السبب في الحصول بلا ريثٍ وبدون مراقبة ذلك الإحسان حتى كأنهم يأتون بالظلم جزاء للنعمة ، ورمز إلى لفظ المشبه به برديفه وهو فاء السببية وقرينة ذلك ما يعلمه السامع من أن الظلم لا يصلح لأن يكون مسبباً عن الإنعام على حد قولك أحسنتُ إلى فلان فأساء إليَّ وقوله تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] أي تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون فالفاء مجاز لغير الترتب على أسلوب قولك : أنعمَتُ عليه فكفر . ولك أن تقول إن أصل معنى الفاء العاطفة الترتيب والتعقيب لا غير وهو المعنى الملازم لها في جميع مواقع استعمالها فإن الاطراد من علامات الحقيقة . وأما الترتب أي السببية فأمر عارض لها فهو من المجاز أو من مستتبعات التراكيب ألا ترى أنه يوجد تارة ويتخلف أخرى فإنه مفقود في عطف المفردات نحو جاء زيد فعمرو وفي كثير من عطف الجمل نحو قوله تعالى : { لقد كنتَ في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك } [ ق : 22 ] فلذلك كان معنى السببية حيثما استفيد محتاجاً إلى القرائن فإن لم تتطلب له علاقة قلت هو من مستتبعات تراكيب بقرينة المقام وإن تطلبت له علاقة وهي لا تعوزك قلت هو مجاز لأن أكثر الأمور الحاصلة عقب غيرها يكون موجب التعقيب فيها هو السببية ولو عرفا ولو ادعاء فليس خروج الفاء عن الترتب هو المجاز بل الأمر بالعكس .
ومما يدل على أن حقيقة الفاء العاطفة هو الترتيب والتعقيب فقط أن بعض البيانيين جعلوا قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا } [ القصص : 8 ] اللامَ فيه مستعارة لمعنى فاء التعقيب أي فكان لهم عدوًّا فجعلوا الفاء حقيقة في التعقيب ولو كانت للترتيب لساوت اللام فلم تستقم الاستعارة فيكون الوجه الحامل للزمخشري على تقدير المحذوف مقترناً بالفاء هو أنه رأى عطف الظلم على { وظللنا عليكم الغمام } وما بعده بالواو ولا يحسن لعدم الجهة الجامعة بين الامتنان والذم والمناسبةُ شرط في قبول الوصل بالواو بخلاف العطف بالفاء ، فتعين إما تقدير ظلموا مستأنفاً بدون عطف وظاهر أنه ليس هنالك معنى على الاستئناف وإما ربط ظلموا بعاطف سوى الواو وليس يصلح هنا غير الفاء لأن المعطوف حصل عقب المعطوف عليه فكان ذلك التعاقب في الخارج مغنياً عن الجهة الجامعة ولذلك كانت الفاء لا تستدعي قوة مناسبة كمناسبة الواو ولكن مناسبة في الخيال فقط وقد وجدت هنا لأن كون المعطوف حصل في الخارج عقب المعطوف عليه مما يجعله حاضراً في خيال الذي يتكلم عن المعطوف عليه ، وأما قبح نحو قولك جاء زيد فصاح الديك فلقلة جدوى هذا الخبر ألا تراه يصير حسناً لو أردت بقولك فصاح الديك معنى التوقيت بالفجر فبهذا ظهر أنه لم يكن طريق لربط الظلم المقدر بالفعلين قبله إلا الفاء .
وفي ذلك الإخبار والربط والتصدي لبيانه مع غرابة هذا التعقيب تعريض بمذمتهم إذ قابلوا الإحسان بالكفران وفيه تعريض بغباوتهم إذ صدَفوا عن الشكر كأنهم ينكون بالمنعم وهم إنما يوقعون النكاية بأنفسهم ، هذا تفصيل ما يقال على تقدير صاحب « الكشاف » .
والذي يظهر لي أن لا حاجة إلى التقدير وأن جملة { وما ظلمونا } عطف على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل ومثار ذكر هذه الجملة هو ما تضمنته بعض الجمل التي سبقت من أن ظلماً قد حصل منهم من قوله : { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون } [ البقرة : 51 ] وقوله : { إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } [ البقرة : 55 ] وما تضمنه قوله : { فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون } [ البقرة : 56 ] الدال على أن ذلك عذاب جروه إلى أنفسهم فأتى بهذه الجملة كالفذلكة لما تضمنته الجمل السابقة نظير قوله : { وما يخادعون إلا أنفسهم } [ البقرة : 8 ] عقب قوله : { يخادعون الله والذين آمنوا } [ البقرة : 8 ] ونظير قوله : { وظلموا أنفسهم } [ سبأ : 19 ] بعد الكلام السابق وهو قوله : { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } [ سبأ : 18 ] الآية .
وغير الأسلوب في هذه الجملة إذ انتقل من خطاب بني إسرائيل إلى الحديث عنهم بضمير الغيبة لقصد الاتعاظ بحالهم وتعريضاً بأنهم متمادون على غيهم وليسوا مستفيقين من ضلالهم فهم بحيث لا يقرون بأنهم ظلموا أنفسهم . وهذا الظلم الذي قدر في نظم الآية هو ضجرهم من مداومة أكل المن والسلوى الذي سيأتي ذكره بقوله تعالى : { وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 62 ] الآية فكان قوله : { وما ظلمونا } تمهيداً له وتعجيلاً بتسجيل قلة شكرهم على نعم الله وعنايته بهم إذ كانت شكيمتهم لم تلينها الزواجر ولا المكارم .
وقوله : { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } قدم فيه المفعول للقصر وقد حصل القصر أولاً بمجرد الجمع بين النفي والإثبات ثم أكد بالتقديم لأن حالهم كحال من ينكي غيره كما قيل : يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه .