المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا} (21)

21- وكيف يسوغ لكم أن تستردوا ما أعطيتم من مهر وقد امتزج بعضكم ببعض وأخذن منكم عقداً قوياً موثقاً أحل الله به العشرة الزوجية .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا} (21)

ثم كرر - سبحانه - توبيخه لمن يحاول أخذ شئ من صداق زوجته التى خاطلته فى حياته مدة طويلة فقال : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } .

وأصل أفضى - كما يقول الفخر الرازى - من الفضاء الذى هو السعة يقال : فضا يفضو فضوا وفضاء إذا اتسع . ويقال : افضى فلان إلى فلان أى : وصل إليه وأصله أنه صار فى فرجته وفضائه .

المراد بالإِفضاء هنا : الوصول والمخالطة : لأن الوصول إلى الشئ قطع للفضاء الذى يبين المتواصلين .

والاستفهام فى قوله { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } للتعجب من حال من يأخذ شيئا مما أعطاه لزوجته بعد إنكار ذات الأخذ .

والمراد بالميثاق الغليظ فى قوله { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } هو ما أخذه الله للنساء على الرجال من حسن المعاشرة أو المفارقة بإحسان كما فى قوله - تعالى - : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وليس أخذ شئ مما أعطاه الرجال للنساء من التسريح بإحسان ، بل يكون من التسريح الذى صاحبه الظلم والإِساءة .

والمراد بالميثاق الغليظ الذى أخذ : كلمة النكاح المعقود على الصداق ، والتى بها تستحل فروج النساء ، ففى صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال فى خطبة حجة الوداع : " استوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " .

والمعنى : بأى وجه من الوجوه تستحلون يا معشر الرجال ان تأخذوا شيئا من الصداق الذى أعطيتموه لنسائكم عند مفارقتهن ؛ والحال أنكم قد اختلط بعضكم ببعض ، وصار كل واحد منكم لباسا لصاحبه ، وأخذن منكم عهدا وثيقا مؤكدا تأكيد ؛ لا يحل لكم أن تنقضوه أو تخالفوه ! ! ؟

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد منع الرجال من أخذ شئ من الصداق الذى أعطوه لنسائهم لسببين :

أحدهما : الإفضاء وخلوص كل زوج لنفس صاحبه حتى صارا كأنهما نفس واحدة .

وثانيهما : الميثاق الغليظ الذى أخذ على الرجال بأن يعاملوا النساء معاملة كريمة .

والضمير فى قوله { وَأَخَذْنَ } للنساء .

والآخذ فى الحقيقة إنما هو الله - تعالى - إلا أنه سبحانه - نسبه إليهن للمبالغة فى المحافظة على حقوقهن ، حتى جعلن كأنهن الآخذات له .

قال بعضهم : وهذا الإِسناد مجاز عقلى ، لأن الآخذ للعهد هو الله . أى : وقد أخذ الله عليكم العهد لأجلهن وبسبيهن . فهو مجاز عقلى من الإِسناد إلى السبب .

ووصف - سبحانه - الميثاق بالغلظة لقوته وشدته . فقد قالوا : صحبة عشرين يوما قرابة . فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج ؟ !

هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة ما يأتى :

1- تكريم الإِسلام للمرأة ، فقد كانت فى الجاهلية مهضومة الحق ، يعتدى عليها بأنواع من الاعتداء ، فرفعها الله - تعالى - بما شرعه من تعاليم إسلامية من تلك الهوة التى كانت فيها ، وقرر لها حقوقها ، ونهى عن الاعتداء عليها .

ومن مظاهر ذلك أنه حرم أن تكون موروثة كما يورث المال . وكذلك حرم عضلها وأخذ شئ من صداقها إلا إذا أتت بفاحشة مبينة . وأمر الرجال بأن يعاشروا النساء بالمعروف ، وأن يصبروا على أخطائهن رحمة بهن .

2- جواز الإِصداق بالمال الكثير : لأن الله - تعالى - قال : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } . والقنطار : المال الكثير الذى هو أقصى ما يتصور من مهور .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } دليل على جواز المغالاة فى المهور ، لأن الله - تعالى - لا يمثل إلا بمباح .

وخطب عمر - رضى الله عنه - فقال : ألا لا تغالوا فى صدقات النساء ، فإنها لو كانت مكرمة فى الدنيا أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا من بناته فوق اثنتى عشرة أوقية . فقامت إليه امرأة فقال : يا عمر . يعطينا الله وتحرمنا ! ! أليس الله تعالى - يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } ؟ فقال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر . .

وفى رواية أنه أطرق ثم قال : امرأة أصابت ورجل أخطأ وترك الإِنكار .

ثم قال القرطبى : وقال قوم : لا تعطى الآية جواز المغالاة فى المهور ، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة : كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذى لا يؤتيه أحد . .

ولقد " قال النبى صلى الله عليه وسلم لإِبن أبى حدرد - وقد جاءه يستعين فى مهره فسأله عنه فقال : مائتين ، فغضب صلى الله عليه وسلم : وقال : " كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة " " أى من ذلك المكان الذى به حجارة نخرة سود - فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة فى المهور .

والذى نراه أن الآية الكريمة وإن كانت تفيد جواز الإِصداق بالمال الجزيل ، إلا ان الأفضل عدم المغالاة فى ذلك ، مع مراعاة أحوال الناس من حيث الغنى والفقر وغيرهما .

ولقد ورد ما يفيد الندب إلى التيسير فى المهور . فقد أخرج أبو داود والحاكم من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير الصداق أيسره " .

3- أن الرجل إذا أراد فراق امرأته . فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا ما دام الفراق بسببه ومن جانبه : كما أنه لا ينبغى له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاه إياها إذا كان الفراق بسببها ومن جانبها .

4- اتفق العلماء على أن المهر يستقر بالوطء . واختلفوا فى استقراره بالخلوة المجردة . قال القرطبى والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا . وبه قال أبو حنيفة وأصحابه . قالوا : إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة . دخل بها أو يدخل بها . لما رواه الدارقطنى عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق " وقال مالك : إذا طال مكثه معها السنة ونحوها . واتفقا على ألا مسيس . وطلبت المهر كله كان لها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا} (21)

ثم وعظ تعالى عباده مذكراً لهم بالمودة التي بين الزوجين الموجبة لحياطة مال المرأة ، إذ قد أخذ منها العوض عما أعطيته ، { وكيف } في موضع نصب على الحال و { أفضى } معناه : باشر وجاوز أقصى المجاوزة ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

بِلىً وَثَأىً أفْضَى إلى كُلّ كتْبَةٍ . . . بَدا سَيْرُهَا مِنْ ظَاهِرٍ بَعْدَ بَاطِنِ{[3919]}

وفي المثل :_ الناس فوضى فضاً_أي مختلطون يباشر أمر بعضهم بعضاً{[3920]} وتقول أفضَتْ الحال إلى كذا أي صارت إليه ، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم : الإفضاء في هذه الآية الجماع ، قال ابن عباس : ولكن الله كريم يكني ، واختلف الناس في المراد بالميثاق الغليظ ، فقال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم : وهو قوله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] وقال مجاهد وابن زيد : الميثاق الغليظ عقدة النكاح ، وقول الرجل : نكحت وملكت النكاح ونحوه ، فهذه التي بها تستحل الفروج ، وقال عكرمة والربيع : الميثاق الغليظ يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( استوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلام الله ){[3921]} ، وقال قوم : الميثاق الغليظ الولد ، ومن شاذ الأقوال في هذه الآية ، أن بكر بن عبد الله المزني قال : لا يجوز أن يؤخذ من المختلعة قليل ولا كثير ، وإن كانت هي المريدة للطلاقة ، ومنها أن ابن زيد قال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله }{[3922]} قال القاضي أبو محمد : وليس في شيء من هذه الآيات ناسخ ولا منسوخ ، وكلها ينبني بعضها مع بعض .


[3919]:- اختلفت النسخ الأصلية في رواية هذا البيت، ولم يستشهد به القرطبي ولا أبو حيان. بلى: من قولنا: بل الثوب رثّ. ثأًى: من قولنا ثأى الخرز ثأيا فتقه- فالثأي هو: الفساد والقلق. أفضى: انتهى إلى. كَتْبةٍ: من قولنا: كتب السقاء ونحوه: خرزه بسيرين، أي خاطه. وكأنه يصف القرابة أو نحوها بأن البلى والفساد انتهى إلى كل خيط في سيرها.
[3920]:- عبارة القرطبي: أي مختلطون لا أمير عليهم. وهذا ما ذكره اللسان. ولعل الصواب: (يباشر بعضهم أمر بعض).
[3921]:- ورد هذا الحديث في خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. وأخرجه ابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد (فتح القدير 1/ 443).
[3922]:- من الآية (229) من سورة البقرة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا} (21)

قوله : وكيف تأخذونه استفهام تعجيبي بعد الإنكار ، أي ليس من المروءة أن تطمعوا في أخذ عوض عن الفراق بعد معاشرة امتزاج وعهد متين . والإفضاء الوصول ، مشتقّ من الفضاء ، لأنّ في الوصول قطع الفضاء بين المتواصلين والميثاق الغليظ عقدة النكاح على نيّة إخلاص النيّة ودوام الألفة ، والمعنى أنّكم كنتم على حال مودة وموالاة ، فهي في المعنى كالميثاق على حسن المعاملة .

والغليظ صفة مُشَبَّهة من غَلُظ بضمّ اللام إذا صلب ، والغلظة في الحقيقة صَلابة الذوات ، ثم استعيرت إلى صعوبة المعاني وشدّتها في أنواعها ، قال تعالى : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } [ التوبة : 123 ] . وقد ظهر أنّ مناط التحريم هو كون أخذ المال عند طلب استبدال الزوجة بأخرى ، فليس هذا الحكم منسوخاً بآية البقرة خلافاً لجابر بن زيد إذ لا إبطال لمدلول هذه الآية .