{ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم }
{ الحمد } هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها .
{ رب العالمين } أي : مالكهم ، إذ الرب مصدر " ربه يربه " إذا تعاهده بالتربية حتى يبلغ به شيئًا فشيئا درجة الكمال . وهو اسم من أسماء الله - تعالى - ولا يطلق على غيره إلا مقيدًا فيقال : رب الدار ، ورب الضيعة أى : صاحبها ومالكها .
والعالمين : جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله - تعالى- . قال القرطبي : " وهو مأخوذ من العلم والعلامة ؛ لأنه يدل على موجده " . وقيل : المراد بالعالمين أولوا العلم من الإِنس والجن والملائكة .
وقد افتتحت سورة الفاتحة بهذه الجملة الكريمة { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } لأنه سبحانه أول كل شئ وآخر كل شئ ، ولكي يعلمنا - سبحانه - أن نبدأ كتبنا وخطبنا بالحمد والثناء عليه ، حتى نبدأ ونحن في صلة بالله تكشف عن النفوس أغشيتها ، وتجلو عن القلوب أصداءها . والمعنى - كما قال ابن جرير - " الشكر خالصًا لله - جل ثناؤه - دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه مما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد . ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذاهم به من نعيم العيش ، عن غير استحقاق لهم عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم . لربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرًا .
فالآية الكريمة قد قررت بصراحة ووضوح ثبوت الثناء المطلق الذي لا يحد لله - تعالى - وأنه ليس لأحد أن ينازعه إياه - سبحانه - هو رب العالمين .
وجملة { الحمد للَّهِ } مفيدة لقصر الحمد عليه - سبحانه - نحو قولهم : " الكرم في العرب " . كما أن أل في الحمد " للاستغراق . أي : أن جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين .
وإنما كان الحمد مقصورًا في الحقيقة على الله ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شئ ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو في الحقيقة حمد لله ، لأنه - سبحانه - هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم علي .
ولم تفتتح السورة بصيغة الأمر بأن يقال : احمدوا الله ، وإنما افتتحت بصيغة الخبر { الحمد للَّهِ } ، لأن الأمر يقتضى التكليف : والتكليف قد تنفر منه النفوس أحيانًا ، فأراد - سبحانه – وهو يبادئهم بشرعة جديدة وتكاليف لم يعهد وها ، أن يؤنس نفوسهم ، ويؤلف قلوبهم ، فساق لهم الخطاب بصيغة الخبر ، ترفقا بهم ، حتى يديموا الإِصغاء لما سيلقيه عليهم من تكاليف .
وقد تكلم بعض المفسرين عن الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله - تعالى - { الحمد للَّهِ } ، دون قوله - تعالى - : المدح لله ، أو : الشكر لله . فقال : اعلم أن المدح أعم من الحمد ، والحمد أعم من الشكر . أما بيان أن المدح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل وغير العاقل ، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله ، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله .
أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإِنعام والإِحسان ، فثبت أن المدح أعم من الحمد . وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر ، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإِنعام . سواء أكان ذلك الإِنعام واصلا إليك أم إلى غيرك . وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك ، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد ، وأن الحمد أعم من الشكر . إذا عرفت هذا فنقول : إنما لم يقل : المدح لله ، لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره . وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار . فكان قوله : " الحمد لله " تصريحًا بأن المؤثر فى وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة . . . وإنما لم يقل : الشكر لله ، لأننا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك ، وهذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة ، فحينئذ يكون المطلوب الأصلي له وصول النعمة إليه . وهذه درجة حقيرة . فأما إذا قال " الحمد لله " ، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه - سبحانه - أوصل النعمة إليه ، فيكون الإِخلاص أكمل ، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم ، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت . وقد أجرى - سبحانه - على لفظ الجلالة نعت الربوبية للعالمين ، ليكون كالاستدلال على استحقاقه - تعالى - للحمد وحده ، وفى ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم ، إذ الأمر بغير توجيه فيه إيماء إلى إهمال عقولهم ، أما إذا كان موجهًا ومعللا فإنه يكون فيه إشعار لهم برعاية ناحية العقل فيهم ، وفى تلك الرعاية تشريف وتكريم لهم . فكأنه - سبحانه - يقول لهم : اجعلوا حمدكم وثناءكم لي وحدي . لأني أنا رب العالمين . وأنا الذي تعهدتكم برعايتي وتربيتي منذ تكوينكم من الطين حتى استويتم عقلاء مفكرين .
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2 )
{ الحمد } معناه الثناء الكامل ، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد ، وهو أعم من الشكر ، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر ، وشكره حمد ما ، والحمد المجرد( {[13]} ) هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئاً ، فالحامد من الناس قسمان : الشاكر والمثني بالصفات .
وذهب الطبري إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد ، وذلك غير مرضي . ( {[14]} )
وحكي عن بعض الناس أنه قال : «الشكر ثناء على الله بأفعاله وأنعامه ، والحمدُ ثناء بأوصافِه » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح معنى من أنهما بمعنى واحد . واستدل الطبري على أنهما بمعنى ، بصحة قولك الحمد لله شكراً . وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه . لأن قولك شكراً إنما خصصت به الحمد أنه على نعمة من النعم . وأجمع السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من «الحمدُ لله » .
وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج «الحمدَ لله » بفتح الدال وهذا على إضمار فعل .
وروي عن الحسن بن الحسن وزيد بن علي : «الحمدِ لله » ، بكسر الدال على إتباع الأول الثاني .
وروي عن ابن أبي عبلة( {[15]} ) : «الحمدُ لُله » ، بضم الدال واللام ، على اتباع الثاني الأول .
قال الطبري : { الحمد لله } ثناء أثنى به على نفسه ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه ، فكأنه قال : «قولوا الحمد لله » وعلى هذا يجيء «قولوا إياك » قال : وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه ، كما قال الشاعر :
وأعلَمُ أنني سأكونُ رمساً . . . إذا سار النواعِجُ لا يسيرُ
فقالَ السائلونَ لِمَنْ حفرْتُمْ . . . فقال القائلونَ لهمْ وزيرُ( {[16]} )
المعنى المحفور له وزير ، فحذف لدلالةِ ظاهرِ الكلامِ عليه ، وهذا كثير .
فقال بعضهم : «هو نصب على المدح » .
وقال بعضهم : «هو على النداء ، وعليه يجيء { إياك } » .
والرب في اللغة : المعبود ، والسيد المالك ، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها ، والملك ، - تأتي اللفظة لهذه المعاني- .
فمما جاء بمعنى المعبود قول الشاعر [ غاوي بن عبد العزى ] :
أربّ يبولُ الثعلبان برأسه . . . لقد هانَ من بالَتْ عليه الثَّعالبُ( {[17]} )
ومما جاء بمعنى السيد المالك قولهم : رب العبيد والمماليك .
ومما جاء بمعنى القائم بالأمور الرئيس فيها قول لبيد :
وأهلكن يوماً ربَّ كندة وابنَهُ . . . وربَّ معدٍّ بين خَبْتٍ وعَرْعَرٍ( {[18]} )
ومما جاء بمعنى الملك قوله النابغة :
تخبُّ إلى النعمان حتّى تنالَهُ . . . فدى لك من ربٍّ طريفي وتالدي( {[19]} )
ومن معنى الإصلاح قولهم : أديم مربوب ، أي مصلح ، قال الشاعر( {[20]} ) الفرزدق : [ البسيط ] .
كانوا كسالئةٍ حمقاء إذْ حقنتْ . . . سلاءَها في أديمٍ غيرِ مَرْبُوبِ
ومن معنى الملك قول صفوان بن أمية لأخيه يوم حنين : «لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن »( {[21]} ) .
ومنه قول ابن عباس في شأن عبد الله بن الزبير ، وعبد الملك بن مروان : «وإن كان لا بد لأن يربني رجل من بني عمي أحبّ إليّ من أن يربني غيرهم »( {[22]} ) . ذكره البخاري في تفسير سورة براءة . ومن ذلك قول الشاعر علقمة بن عبدة : [ الطويل ] .
وكنت أمرءاً أفضت إليك ربابتي . . . ومن قبل ربتني فضعت ربوبُ( {[23]} )
وهذه الاستعمالات قد تتداخل ، فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو الله تعالى .
و { العالمين } جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ، يقال لجملته عالم ، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم ، وبحسب ذلك يجمع على العالمين ، ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر حسن جمعها( {[24]} ) ، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده ، كذا قال الزجاج .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الحمد لله} يعني: الشكر لله. {رب العالمين}، يعني: الجن والإنس، مثل قوله: {ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1]...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"الحَمْدُ لِلّهِ": الشكر خالصا لله جل ثناؤه دون سائر ما يُعْبَد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش من غير استحقاق منهم لذلك عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم. فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخرا...
إن لدخول الألف واللام في "الحمد "معنى لا يؤديه قول القائل «حمدا»، بإسقاط الألف واللام، وذلك أن دخولهما في "الحمد "منبئ على أن معناه: جميع المحامد والشكر الكامل لله، ولو أُسقطتا منه، لما دلّ إلا على أن حَمْدَ قائلِ ذلك لله، دون المحامد كلها، إذْ كان معنى قول القائل: «حمدا لله» أو «حمدٌ الله» أحمد الله حمدا...
«رَبّ»... الربّ في كلام العرب متصرف على معان: فالسيد المطاع فيها يدعى ربّا، فربنا جل ثناؤه، السيد الذي لا شِبْه له، ولا مثل في سؤدده. والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه. والمالك الذي له الخلق والأمر...
{العَالَمِينَ}: والعالمون جمع عالَم، والعالَم جمع لا واحد له من لفظه، كالأنامِ والرهط والجيش ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جماع لا واحد له من لفظه. والعالَم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالَم، وأهل كل قرن من كل صنف منها عالَم ذلك القرن وذلك الزمان؛ فالإنس عالم، وكل أهل زمان منهم عالَم ذلك الزمان. والجن عالَم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كل جنس منها عالم زمانه. ولذلك جُمِع فقيل «عالَمون»، وواحده جمع لكون عالَم كل زمان من ذلك عالَم ذلك الزمان. وهذا القول الذي قلناه قولُ ابن عباس وسعيد بن جبير، وهو معنى قول عامة المفسرين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"الحمد لله": احتمل أن يكون – جل ثناؤه- حمد نفسه ليعلم الخلق استحقاقه الحمد بذاته، فيحمدوه.
فإن قيل: كيف يجوز أن يحمد نفسه، ومثله في الخلق غير محمود؟ قيل له: لوجهين؛
أحدهما: أنه استحق الحمد بذاته لا بأحد، فيكون في ذلك تعريف الخلق لما يزلفهم لديه بما أثنى على نفسه ليثنوا عليه [به]، وغيره إنما يكون ذلك له به عز وجل، فعليه توجيه الحمد إليه لا إلى نفسه؛ إذ نفسه لا تستوجبه بها، بل بالله تعالى.
والثاني: أن الله تعالى حقيق لذلك؛ إذ لا عيب يمسه، ولا آفة تحل به فيدخل نقصان في ذلك، ولا هو مأمور بشيء. والعبد لا يخلو عن عيوب تمسه وآفات تحل به، ويمدح بالائتمار، ويذم بتركه. وفي ذلك يكمن النقصان، وحق لمثله الفزع إلى الله تعالى والتضرع إليه ليتغمده برحمته، ويتجاوز عن صنيعه. وعلى ذلك معنى التكبر؛ نحمد به ربنا، ولا نحمد غيره؛ إذ ليس للعبد معنى يستقيم به تكبره؛ إذ هم جميعا أكفاء من طريق المحنة والخِلقة، وما أدرك أحد من فضيلة أو رفعة فبالله أدركه لا بنفسه، فعليه تنزيه الرب والفزع إليه بالشكر لا بالتكبر على أمثاله، والله تعالى عن هذا الوصف متعال.
ويحتمل أن يكون قوله تعالى: "الحمد لله "على إضمار الأمر، أي قولوا: "الحمد لله "لأن الحمد يضاف إلى الله فلا بد من أن يكون له علينا، فأمر بالحمد لذلك...
روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "الحمد لله" أي الشكر لله بما صنع إلى خلقه، فيخرج تأويل الآية على هذا الترتيب على الأمر بتوجيه الشكر إليه، وذلك يتضمن الأمر أيضا بكل الممكن من الطاعة على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى حتى تورمت قدمه، فقيل له: أليس قد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدا شكورا؟" [البخاري 1130]. فصير أنواع الطاعات شكرا له، فمن أطاع الله تعالى فقد شكر له، فيخرج تأويل الآية على هذا.
ويحتمل أيضا أن يخرج مخرج الثناء على الله عز وجل، والمدح له والوصف بما يستحقه، والتنزيه عما لا يليق به من توجيه النعم إليه وقطع الشركة عنه في الإنعام والإفضال على عباده، وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يقول: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين..." [مسلم 395] فإذا قال العبد: "الحمد لله رب العالمين" قال الله عز وجل: (حمدني عبدي)، فجعل الحمد هذا الحرف، وصيره منه ثناء لوجهين: أحدهما: أنه نسب الربوبية إليه في جميع العالم، وقطعه عن غيره. والثاني: أنه سمى ذلك صلاة، والصلاة أتم للثناء والدعاء، وذلك خلاف الذم ونقيضه. وفي الوصف بالبراءة من الذم مدح وثناء بغاية المدح والثناء، ولذلك يفرق القول بين الشكر والحمد؛ إذ أمرنا بالشكر للناس بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) [أحمد 2/258] صيره بمعنى المجازاة. والحمد بمعنى الوصف بما هو أهله، فلم يستحب الحمد إلا لله.
وقوله تعالى: "رب العالمين" روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (رب العالمين) أي: سيد العالمين، والعالم كل من دب على وجه الأرض. وقد يتوجه الرب إلى الربوبية لا إلى السؤدد؛ إذ يستقيم القول ب (وهو رب كل شيء) [الأنعام: 164] من بني آدم وغيره، ونحو: (رب السماوات والأرض) [الرعد: 16 و...] [من الربوبية] و (رب العرش العظيم) [التوبة: 129 و...] ونحوه، وغير مستقيم لسيد السماوات ونحوه. وقد يتوجه اسم الرب إلى المالك؛ إذ كل من ينسب إليه الملك يسمى مالكه، ولا يسمى سيدا إلا في بني آدم خاصة، واسم الرب يجمع ذلك كله...
ثم اختلف أهل التفسير في (العالمين) فمنهم من رد إلى كل [ذي] روح، دبّ على وجه الأرض، ومنهم من رد إلى كل ذي روح في الأرض وغيرها... والتأويل عندنا... أن العالمين اسم لجميع الأنام والخلق جميعا...
أما {الحمد لله} فهو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله، والشكرُ الثناء عليه بإنعامه، فكلُّ شكرٍ حمدٌ، وليسَ كلُّ حمدٍ شكراً، فهذا فرقُ ما بين الحمد والشكر، ولذلك جاز أن يحمد الله تعالى نفسه، ولم يَجُزْ أن يشكرها.
فأما الفرق بين الحمد والمدح، فهو أن الحمد لا يستحق إلا على فعلٍ حسن، والمدح قد يكون على فعل وغير فعل، فكلُّ حمدٍ مدحٌ، وليْسَ كل مدحٍ حمداً...
وأما قوله: {رب} فقد اختُلف في اشتقاقه على أربعة أقاويل:
أحدها: أنه مشتق من المالك، كما يقال رب الدار أي مالكها.
والثاني: أنه مشتق من السيد، لأن السيد يسمى ربّاً، قال تعالى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} (يوسف،41) يعني سيده.
والقول الثالث: أن الرب المدَبِّر، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ} (المائدة، 44) وهم العلماء، سموا ربَّانيِّين، لقيامهم بتدبير الناس بعلمهم، وقيل: ربَّة البيت، لأنها تدبره.
والقول الرابع: الرب مشتق من التربية، ومنه قوله تعالى: {وَرَبَآئِبُكُمُ اللاَّتِي في حُجُورِكُمْ} (النساء، 23) فسمي ولد الزوجة ربيبة، لتربية الزوج لها.
فعلى هذا، أن صفة الله تعالى بأنه رب، لأنه مالك أو سيد، فذلك صفة من صفات ذاته، وإن قيل لأنه مدبِّر لخلقه، أو مُربِّيهم، فذلك صفة من صفات فعله. ومتى أدْخَلت عليه الألف واللام، اختص الله تعالى به دون عباده، وإن حذفتا منه، صار مشتركاً بين الله وبين عباده.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الحمد والمدح أخوان، وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها. تقول: حمدت الرجل على إنعامه، وحمدته على حسبه وشجاعته. وأمّا الشكر فعلى النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح، والحمد باللسان وحده، فهو إحدى شعب الشكر... والحمد نقيضه الذمّ، والشكر نقيضه الكفران.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْله تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} اعْلَمُوا -عَلَّمَكُمْ اللَّهُ الْمُشْكِلَاتِ- أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى حَمِدَ نَفْسَهُ، وَافْتَتَحَ بِحَمْدِهِ كِتَابَهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ نَهَاهُمْ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ، فَقَالَ: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}، وَمَنَعَ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ مَدْحَ بَعْضٍ لَهُ، أَوْ يَرْكَنَ إلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ، وَقَالَ: اُحْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ -رَوَاهُ الْمِقْدَادُ وَغَيْرُهُ.
وَكَأَنَّ فِي مَدْحِ اللَّهِ لِنَفْسِهِ وَحَمْدِهِ لَهَا وُجُوهًا، مِنْهَا ثَلَاثٌ أُمَّهَاتٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَحْمَدُهُ، وَكَلَّفَنَا حَمْدَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَيْهِ إلَّا بِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مَعْنَاهُ: قُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَيَكُونُ فَائِدَةُ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ لَنَا، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الدَّالِ فِي الشَّاذِّ.
الثَّالِثُ: أَنَّ مَدْحَ النَّفْسِ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا يُدْخِلُ عَلَيْهَا مِنْ الْعُجْبِ بِهَا، وَالتَّكَثُّرِ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِهَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِمَنْ يَلْحَقُهُ التَّغَيُّرُ وَلَا يَجُوزُ مِنْهُ التَّكَثُّرُ وَهُوَ الْمَخْلُوقُ، وَوَجَبَ ذَلِكَ لِلْخَالِقِ لِأَنَّهُ أَهْلُ الْحَمْدِ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، وَالْفَائِدَةُ الْمَقْصُودَةُ...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
...الحمد أعم من الشكر؛ لأن الشكر لا يكون إلا جزاء على نعمة، والحمد يكون جزاء كالشكر، ويكون ثناء ابتداء، كما أن الشكر قد يكون أعم من الحمد، لأن الحمد باللسان؛ والشكر باللسان والقلب والجوارح. فإذا فهمت عموم الحمد، علمت أن قولك {الحمد لله} يقتضي الثناء عليه لما هو من الجلال والعظمة والوحدانية والعزة والإفضال والعلم والمقدرة والحكمة وغير ذلك من الصفات، ويتضمن معاني أسمائه الحسنى التسعة والتسعين ويقتضي شكره والثناء عليه بكل نعمة أعطى ورحمة أولى جميع خلقه في الآخرة والأولى. فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المجلدات، واتفق دون عدة عقول الخلائق، ويكفيك أن الله جعلها أول كتابه وآخر دعوى أهل الجنة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت البسملة نوعا من الحمد ناسب كل المناسبة تعقيبها باسم الحمد الكلي الجامع لجميع أفراده، فكأنه قيل: احمدوه لأنه المستحق لجميع المحامد، وخصوا هذا النوع من الحمد في افتتاح أموركم لما ذكر من استشعار الرغبة إليه والرهبة منه المؤدي إلى لزوم طريق الهدى...
ولما أثبت بقوله: {الحمد لله} أنه المستحق لجميع المحامد، لا لشيء غير ذاته، الحائز لجميع الكمالات، أشار إلى أنه يستحقه أيضاً من حيث كونه رباً مالكاً منعماً، فقال: {رب} وأشار بقوله: {العالمين} إلى ابتداء الخلق تنبيهاً على الاستدلالات بالمصنوع على الصانع، وبالبداءة على الإعادة... قال الحرالي: و {الحمد} المدح الكامل الذي يحيط بجميع الأفعال والأوصاف، على أن جميعها إنما هو من الله سبحانه وتعالى، وأنه كله مدح لا يتطرق إليه ذم، فإذا اضمحل ازدواج المدح بالذم وعلم سريان المدح في الكل، استحق عند ذلك ظهور اسم الحمد مكملاً معرفاً بكلمة "أل "وهي كلمة دالة فيما اتصلت به على انتهائه وكماله.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{الحمد لله رب العالمين} قالوا: إن معنى الحمد: الثناء باللسان، وقيده بالجميل، لأن كلمة "ثناء "تستعمل في المدح والذم جميعا... والخلاصة أن أي حمد يتوجه إلى محمود ما فهو لله تعالى، سواء لاحظه الحامد أو لم يلاحظه... والمقام المحمود للنبي صلى الله عليه وسلم هو ما يحمد فيه لما يناله الناس كلهم من خير دعائه وشفاعته على المشهور...
{رب العالمين} يشعر هذا الوصف ببيان وجه الثناء المطلق، ومعنى الرب: السيد المربي الذي يسوس مسوده ويربيه ويدبره، ولفظ "العالمين" جمع عالَم بفتح اللام جمع المذكر العاقل تغليبا، وأريد به جميع الكائنات الممكنة، أي إنه رب كل ما يدخل في مفهوم لفظ العالم...
وربوبية الله للناس تظهر بتربيته إياهم، وهذه التربية قسمان: تربية خلقية بما يكون به نموهم وكمال أبدانهم وقواهم النفسية والعقلية – وتربية شرعية تعليمية، وهي ما يوحيه إلى أفراد منهم ليكمل به فطرتهم بالعلم والعمل إذا اهتدوا به، فليس لغير رب الناس أن يشرع للناس عبادة، ولا أن يحرم عليهم ويحل لهم من عند نفسه بغير إذن منه تعالى...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{رَبِّ الْعَالَمِينَ} الرب، هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها، لم يمكن لهم البقاء، فما بهم من نعمة، فمنه تعالى.
وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة؛ فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه. وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب، فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة. فدل قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} على انفراده بالخلق والتدبير، والنعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعقب البدء باسم الله الرحمن الرحيم، يجيء التوجه إلى الله بالحمد، ووصفه بالربوبية المطلقة للعالمين: (الحمد لله رب العالمين).
والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله.. فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء، وفي كل لمحة، وفي كل لحظة، وفي كل خطوة، تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع، وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان.. ومن ثم كان الحمد لله ابتداء، وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر: (وهو الله لا إله إلا هو، له الحمد في الأولى والآخرة) [(القصص، 70)].
ومع هذا يبلغ من فضل الله -سبحانه- وفيضه على عبده المؤمن، أنه إذا قال: الحمد لله، كتبها له حسنة ترجح كل الموازين.. في سنن ابن ماجه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله [ص] حدثهم أن عبدا من عباد الله قال: (يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك)، فعضلت الملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله -وهو أعلم بما قال عبده -: وما الذي قال عبدي؟ قالا: يا رب، إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها).. والتوجه إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله- كما أسلفنا –
أما شطر الآية الأخير:"رب العالمين" فهو يمثل قاعدة التصور الإسلامي، فالربوبية المطلقة الشاملة هي إحدى كليات العقيدة الإسلامية.. والرب هو المالك المتصرف للإصلاح والتربية.. والتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين -أي جميع الخلائق- والله -سبحانه- لم يخلق الكون ثم يتركه هملا، إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه، وكل العوالم والخلائق تحفظ وتتعهد برعاية الله رب العالمين. والصلة بين الخالق والخلائق دائمة ممتدة قائمة في كل وقت وفي كل حالة. والربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل، والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة. وكثيرا ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف بالله بوصفه الموجد الواحد للكون، والاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة. ولقد يبدو هذا غريبا مضحكا، ولكنه كان وما يزال. ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى "(الزمر، 3).. كما قال عن جماعة من أهل الكتاب: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله" (التوبة، 31)..
وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، تعج بالأرباب المختلفة، بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون! فإطلاق الربوبية في هذه السورة، وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعا، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة. لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد، تقر له بالسيادة المطلقة، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة، وعنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب.. ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية الله الدائمة وربوبيته القائمة. وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا ولا تفتر ولا تغيب، لا كما كان أرقى تصور فلسفي لأرسطو مثلا يقول بأن الله أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به، لأن الله أرقى من أن يفكر فيما هو دونه! فهو لا يفكر إلا في ذاته! وأرسطو -وهذا تصوره- هو أكبر الفلاسفة، وعقله هو أكبر العقول!
لقد جاء الإسلام، وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار.. يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة.. والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات وظنون، ولا يستقر منها على يقين. وكان التيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور، هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها، وصفاته وعلاقته بخلائقه، ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص. ولم يكن مستطاعا أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون، وفي أمر نفسه وفي منهج حياته، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته وتصوره لإلهه وصفاته، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه وهذا الركام الثقيل. ولا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام، وحتى يرود هذا التيه من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري، والتي أشرنا إلى طرف منها فيما تقدم صغير. [وسيجيئ في استعراض سور القرآن الكثير منها، مما عالجه القرآن علاجا وافيا شاملا كاملا].
ومن ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهه إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر الله وصفاته، وعلاقته بالخلائق، وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين. ومن ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل، الذي لا تشوبه شائبة من قريب ولا من بعيد.. هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام، وظل يجلوها في الضمير، ويتتبع فيه كل هاجسة وكل شائبة حول حقيقة التوحيد، حتى يخلصها من كل غبش، ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور.. كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات الله وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة؛ فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير.. مما يتعلق بهذا الأمر الخطير، العظيم الأثر في الضمير الإنساني، وفي السلوك البشري سواء. والذي يراجع الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله وصفاته وعلاقته بمخلوقاته، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة، الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه.. قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر، وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير.. ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة -وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه، وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير! وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها..
كل هذا لا يتجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات، والأساطير والفلسفات! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم.. عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة، رحمة حقيقية للقلب والعقل، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
{الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لم يذكر لحمده هنا ظرفًا مكانيًا ولا زمانيًا. وذكر في سورة الروم أن من ظروفه المكانية: السماوات والأرض في قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ في السَّمَاوَاتِ والأرض}، وذكر في سورة القصص أن من ظروفه الزمانية: الدنيا والآخرة في قوله: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ في الأولى والآخرة}، وقال في أول سورة سبأ: {وَلَهُ الْحَمْدُ في الآخرة وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} والألف واللام في {الْحَمْدُ} لاستغراق جميع المحامد. وهو ثناء أثنى به تعالى على نفسه وفي ضمْنه أمَرَ عباده أن يثنوا عليه به.
وقوله تعالى: {رَبّ الْعَالَمِينَ} لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في موضع آخر بقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} (الشعراء، 23- 24).
{الحمد لله رب العالمين}: الله محمود لذاته، ومحمود لصفاته، ومحمود لنعمه، ومحمود لرحمته، ومحمود لمنهجه، ومحمود لقضائه، الله محمود قبل أن يخلق من يحمده. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل الشكر له في كلمتين اثنتين هما: الحمد لله. والعجيب أنك حين تشكر بشرا على جميل فعله تظل ساعات وساعات تعد كلمات الشكر و الثناء، وتحذف وتضيف وتأخذ رأي الناس، حتى تصل إلى قصيدة أو خطاب مليء بالثناء والشكر. ولكن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته وعظمته نعمه لا تعد و لا تحصى، علمنا أن نشكره في كلمتين اثنتين هما: الحمد لله..
ولعلنا نفهم أن المبالغة في الشكر للبشر مكروهة، لأنها تصيب الإنسان بالغرور والنفاق، وتزيد العاصي في معاصيه؛ فلْنُقَلِّلْ من الشكر والثناء للبشر، لأننا نشكر الله لعظيم نعمه علينا بكلمتين هما: الحمد لله، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا صيغة الحمد، فلو أنه تركها دون أن يحددها بكلمتين، لكان من الصعب على البشر أن يجدوا الصيغة المناسبة ليحمدوا الله على هذا الكمال الإلهي، فمهما أوتي الناس من بلاغة وقدرة على التعبير، فهم عاجزون عن أن يصلوا إلى صيغة الحمد التي تليق بجلال المنعم، فكيف نحمد الله، والعقل عاجز أن يدرك قدرته، أو يحصي نعمه، أو يحيط برحمته؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا صورة العجز البشري عن حمد كمال الألوهية لله، فقال: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
وكلمتا الحمد لله، ساوى الله بهما بين البشر جميعا، فلو أنه ترك الحمد بلا تحديد، لتفاوتت درجات الحمد بين الناس بتفاوت قدراتهم على التعبير.. ولكن الحق تبارك وتعالى شاء عدله أن يسوي بين عباده جميعا في صيغة الحمد له، فيعلمنا في أول كلماته في القرآن الكريم أن نقول:"الحمد لله" ليعطي الفرصة المتساوية لكل عبيده، بحيث يستوي المتعلم وغير المتعلم في عطاء الحمد، ومن أوتي البلاغة ومن لا يحسن الكلام، ولذلك فإننا نحمد الله سبحانه وتعالى على أنه علمنا كيف نحمده، وليظل العبد دائما حامدا، ويظل الله دائما محمودا..
فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا خلق لنا موجبات الحمد من النعم، فخلق لنا السماوات والأرض، وأوجد لنا الماء والهواء، ووضع في الأرض أقواتها إلى يوم القيامة. وهذه نعمة يستحق الحمد عليها، لأنه جل جلاله جعل النعمة تسبق الوجود الإنساني... تستقبله. بل إن الله جل جلاله قبل أن يخلق آدم أبا البشر جميعا سبقته الجنة التي عاش فيها لا يتعب ولا يشقى، فقد خُلِق فَوَجَد ما يأكله وما يشربه وما يقيم حياته وما يتمتع به موجودا وجاهزا ومعدا قبل الخلق.. وحينما نزل آدم وحواء إلى الأرض كانت النعمة قد سبقتهما، فوجدا ما يأكلانه وما يشربانه، وما يقيم حياتهما.. ولو أن النعمة لم تسبق الوجود الإنساني وخلقت بعده، لهلك الإنسان وهو ينتظر مجيء النعمة.
بل إن العطاء الإلهي للإنسان يعطيه النعمة بمجرد أن يخلق في رحم أمه، فيجد رحما مستعدا لاستقباله وغذاء يكفيه طول مدة الحمل. فإذا خرج إلى الدنيا، يضع الله في صدر أمه لبنا ينزل وقت أن يجوع ويمتنع وقت أن يشبع، وينتهي تماما عندما تتوقف فترة الرضاعة. ويجد أبا وأما يوفران له مقومات حياته حتى يستطيع أن يعول نفسه.. وكل هذا يحدث قبل أن يصل الإنسان إلى مرحلة التكليف، وقبل أن يستطيع أن ينطق: "الحمد لله"...
والله سبحانه وتعالى خلق لنا في هذا الكون أشياء تعطي الإنسان بغير قدرة منه ودون خضوع له، والإنسان عاجز عن أن يقدم لنفسه هذه النعم التي يقدمها الحق تبارك وتعالى له بلا جهد؛ فالشمس تعطي الدفء والحياة للأرض بلا مقابل وبلا فعل من البشر. والمطر ينزل من السماء دون أن يكون لك جهد فيه أو قدرة على إنزاله. والهواء موجود حولك في كل مكان تتنفس منه دون جهد منك ولا قدرة. والأرض تعطيك الثمر بمجرد أن تبذر فيها الحب وتسقيه، فالزرع ينبت بقدرة الله.. والليل والنهار يتعاقبان حتى تستطيع أن تنام لترتاح، وأن تسعى لحياتك.. لا أنت أتيت بضوء النهار، ولا أنت الذي صنعت ظلمة الليل، ولكنك تأخذ الراحة في الليل والعمل في النهار بقدرة الله دون أن تفعل شيئاً. كل هذه الأشياء لم يخلقها الإنسان، ولكنه خُلق ليجدها في الكون تعطيه بلا مقابل ولا جهد منه. ألا تستحق أن نقول الحمد على نعمة تسخير الكون لخدمة الإنسان؟ إنها تقتضي وجوب الحمد.
وآيات الله سبحانه وتعالى في كونه تستوجب الحمد.. فالحياة التي وهبها الله لنا، والآيات التي أودعها في كونه لتدلنا على أن لهذا الكون خالقاً عظيماً.. والكون بشمسه وقمره ونجومه وأرضه وكل ما فيه مما يفوق قدرة الإنسان.. ولا يستطيع أحد أن يدعيه لنفسه، فلا أحد مهما بلغ علمه يستطيع أن يدعي أنه خلق الشمس، أو أوجد النجوم، أو وضع الأرض أو وضع قوانين الكون، أو أعطى غلافها الجوي.. أو خلق نفسه، أو خلق غيره. هذه الآيات كلها أعطتنا الدليل على وجود قوة عظمى. وهي التي أوجدت وهي التي خلقت.. وهذه الآيات ليست ساكنة، لتجعلنا في سكونها ننساها، بل هي متحركة لتلفتنا إلى خالق هذا الكون العظيم؛ فالشمس تشرق في الصباح فتذكرنا بإعجاز الخلق، وتغيب في المساء لتذكرنا بعظمة الخالق.. وتَعاقُبُ الليل والنهار يَحدُث أمامنا كل يوم علّنا نلتفت و نفيق.. والمطر ينزل من السماء ليذكرنا بألوهية من أنزله.. والزرع يخرج من الأرض يسقى بماء واحد، ومع ذلك فإن كل نوع له لون وله شكل وله مذاق وله رائحة.. وله تكوين يختلف عن الآخر، ويأتي الحصاد فيختفي الثمر والزرع.. ويأتي موسم الزراعة فيعود من جديد. كل شيء في هذا الكون متحرك ليذكرنا إذا نسينا، ويعلمنا أن هناك خالقاً عظيماً. ونستطيع أن نمضي في ذلك بلا نهاية، فنعم الله لا تعد ولا تحصى.. وكل واحدة منها تدلنا على وجود الحق سبحانه وتعالى، وتعطينا الدليل الإيماني على أن لهذا الكون خالقاً مبدعاً.. وأنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الكون أو خلق شيئاً مما فيه.. فالقضية محسومة لله.
و"الحمد لله "لأنه وضع في نفوسنا الإيمان الفطري، ثم أيده بإيمان عقلي بآياته في كونه. بل إن كل شيء في هذا الكون يقتضي الحمد، ومع ذلك فإن الإنسان يمتدح الوجود وينسى الموجود!! أنت حين ترى جوهرة جميلة مثلاً أو زهرة غاية في الإبداع، أو أي خلق من خلق الله، يشيع في نفسك الجمال تمتدح هذا الخلق.. فتقول: ما أجمل هذه الزهرة، أو هذه الجوهرة، أو هذا المخلوق.. ولكن المخلوق الذي امتدحته، لم يعط صفة الجمال لنفسه.. فالزهرة لا دخل لها أن تكون جميلة أو غير جميلة، والجوهرة لا دخل لها في عظمة خلقها.. و كل شيء في هذا الكون لم يضع الجمال لنفسه، وإنما الذي وضع الجمال فيه هو الله سبحانه وتعالى، فلا نخلط ونمدح المخلوق وننسى الخالق.. بل قل: الحمد لله الذي أوجد في الكون ما يذكرنا بعظمة الخالق ودقة الخلق.
ومنهج الله سبحانه وتعالى يقتضي منا الحمد.. لأن الله أنزل منهجه ليرينا طريق الخير، ويبعدنا عن طريق الشر. فمنهج الله الذي أنزله على رسله قد عرّفنا أن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق لنا هذا الكون وخلقنا.. فدقة الخلق وعظمته تدلنا على أن هناك خالقا عظيما.. ولكنها لا تستطيع أن تقول لنا من هو، ولا ماذا يريد منا، ولذلك أرسل الله رسله، ليقولوا لنا: إن الذي خلق هذا الكون وخلقنا هو الله تبارك وتعالى، وهذا يستوجب الحمد. ومنهج الله بيّن لنا ماذا يريد الحق منا، وكيف نعبده.. وهذا يستوجب الحمد، ومنهج الله جل جلاله أعطانا الطريق وشرع لنا أسلوب حياتنا تشريعاً حقاً.. فالله تبارك وتعالى لا يفرق بين أحد منا.. ولا يفضل أحداً على أحد إلا بالتقوى، فكلنا خلق متساوون أمام الله جل جلاله.
إذن: فشريعة الحق، وقول الحق، وقضاء الحق، هو من الله، أما تشريعات الناس فلها هوى، تميز بعضاً عن بعض.. وتأخذ حقوق بعض لتعطيها للآخرين، ولذلك نجد في كل منهج بشرى ظلماً بشرياً... ولكن الله سبحانه وتعالى حين نزّل لنا المنهج قضى بالعدل بين الناس.. وأعطى كل ذي حق حقه، وعلّمنا كيف تستقيم الحياة على الأرض عندما تكون بعيدة عن الهوى البشري خاضعة لعدل الله، وهذا يوجب الحمد.
والحق سبحانه وتعالى يستحق منا الحمد؛ لأنه لا يأخذ منا ولكنه يعطينا. فالبشر في كل عصر يحاولون استغلال البشر.. لأنهم يطمعون فيما بين أيديهم من ثروات وأموال، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى ما في أيدينا، إنه يعطينا ولا يأخذ منا، عنده خزائن كل شيء مصداقا لقوله جل جلاله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} (سورة الحجر 21). فالله سبحانه وتعالى دائم العطاء لخلقه، والخلق يأخذون دائماً من نعم الله، فكأن العبودية لله تعطيك ولا تأخذ منك شيئاً، وهذا يستوجب الحمد..
والله سبحانه وتعالى في عطائه يحب أن يطلب منه الإنسان، وأن يدعوه، وأن يستعين به، وهذا يوجب الحمد؛ لأنه يقينا الذل في الدنيا. فأنت إن طلبت شيئاً من صاحب نفوذ، فلابد أن يحدد لك موعداً أو وقت الحديث ومدة المقابلة، وقد يضيق بك فيقف لينهي اللقاء.. ولكن الله سبحانه وتعالى بابه مفتوح دائماً.. فأنت بين يديه عندما تريد، وترفع يديك إلى السماء وتدعو وقتما تحب، وتسأل الله ما تشاء، فيعطيك ما تريده إن كان خيراً لك.. ويمنع عنك ما تريده إن كان شراً لك والله سبحانه وتعالى يطلب منك أن تدعوه، وأن تسأله فيقول: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} (سورة غافر 60). ويقول سبحانه وتعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (سورة البقرة 186). والله سبحانه وتعالى يعرف ما في نفسك، ولذلك فإنه يعطيك دون [أن] تسأل، واقرأ الحديث القدسي: يقول رب العزة: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين).
والله سبحانه وتعالى عطاؤه لا ينفذ، وخزائنه لا تفرغ، فكلما سألته جل جلاله كان لديه المزيد، ومهما سألته فإنه لا شيء عزيز على الله سبحانه وتعالى، إذا أراد أن يحققه لك...
إذن: عطاء الله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد.. ومنعه العطاء يستوجب الحمد.
ووجود الله سبحانه وتعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد.. فالله سبحانه يستحق الحمد لذاته، ولولا عدل الله لبغى الناس في الأرض وظلموا، ولكن يد الله تبارك وتعالى حين تبطش بالظالم تجعله عبرة.. فيخاف الناس الظلم.. وكل من أفلت من عقاب الدنيا على معاصيه وظلمه واستبداده سيلقى الله في الآخرة ليوفيه حسابه.. وهذا يوجب الحمد.. أن يعرف المظلوم أنه سينال جزاءه فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه أن هناك يوما سيرى فيه ظالمه وهو يعذب في النار.. فلا تصيبه الحسرة، ويخف إحساسه بمرارة الظلم حين يعرف أن الله قائم على كونه لن يفلت من عدله أحد.
وعندما نقول: "الحمد لله" فنحن نعبر عن انفعالات متعددة.. وهي في مجموعها تحمل العبودية والحب والثناء والشكر والعرفان.. وكثير من الانفعالات التي تملأ النفس، عندما تقول: "الحمد لله" كلها تحمل الثناء العاجز عن الشكر لكمال الله وعطائه.. هذه الانفعالات تأتي وتستقر في القلب.. ثم تفيض من الجوارح على الكون كله.. فالحمد ليس ألفاظاً تردد باللسان، ولكنها تمر أولاً على العقل ليعي معنى النعم.. ثم بعد ذلك تستقر في القلب فينفعل بها.. وتنتقل إلى الجوارح فأقوم وأصلي لله شاكراً ويهتز جسدي كله، وتفيض الدمعة من عيني، وينتقل هذا الانفعال كله إلى من حولي. ونفسر ذلك قليلا.. هب أنني في أزمة أو كرب أو شيء سيؤدي إلى فضيحة.. وجاءني من يفرج كربي فيعطيني مالاً أو يفتح لي طريقاً.. أول شيء أنني سأعقل هذا الجميل، فأقول: إنه يستحق الشكر.. ثم ينزل هذا المعنى إلى قلبي فيهتز القلب إلى صانع هذا الجميل.. ثم تنفعل جوارحي لأترجم هذه العاطفة إلى عمل يرضيه، على جميل صنعه. ثم أحدث الناس عن جميله وكرمه فيسارعون إلى الالتجاء إليه.. فتتسع دائرة الحمد وتنزل النعم على الناس.. فيمرون بنفس ما حدث لي فتتسع دائرة الشكر والحمد..
والحمد لله تعطينا المزيد من النعم مصداقاً لقوله تبارك وتعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} (سورة إبراهيم 7). وهكذا نعرف أن الشكر على النعمة يعطينا مزيداً من النعمة.. فنشكر عليها فتعطينا المزيد، وهكذا يظل الحمد دائماً والنعمة دائمة..
إننا لو استعرضنا حياتنا كلها.. فكل حركة فيها تقتضي الحمد، عندما ننام ويأخذ الله سبحانه وتعالى أرواحنا، ثم يردها إلينا عندما نستيقظ، فإن هذا يوجب الحمد، فالله سبحانه وتعالى يقول: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (سورة الزمر 42). وهكذا فإن مجرد استيقاظنا من النوم، وأن الله سبحانه وتعالى رد علينا أرواحنا، وهذا الرد يستوجب الحمد، فإذا قمنا من السرير فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعطينا القدرة على الحركة، ولولا عطاؤه ما استطعنا أن نقوم.. وهذا يستوجب الحمد.. فإذا تناولنا إفطارنا، فالله هيأ لنا طعاما من فضله، فهو الذي خلقه، وهو الذي أنبته، وهو الذي رزقنا به، وهذا يستوجب الحمد.. فإذا نزلنا إلى الطريق يسر الله لنا ما ينقلنا إلى مقر أعمالنا وسخره لنا، سواء كنا نملك سيارة أو نستخدم وسائل المواصلات، فله الحمد، وإذا تحدثنا مع الناس فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطى ألسنتنا القدرة على النطق ولو شاء لجعلها خرساء لا تنطق.. وهذا يستوجب الحمد، فإذا ذهبنا إلى أعمالنا، فالله يسر لنا عملا نرتزق منه لنأكل حلالا.. وهذا يستوجب الحمد.. وإذا عدنا إلى بيوتنا، فالله سخر لنا زوجاتنا ورزقنا بأولادنا، وهذا يستوجب الحمد. إذن: فكل حركة حياة في الدنيا من الإنسان تستوجب الحمد. ولهذا لابد أن يكون الإنسان حامداً دائماً
بل إن الإنسان يجب أن يحمد الله على أي مكروه أصابه؛ لأنه قد يكون الشيء الذي يعتبره شراً هو عينه الخير، فالله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينةٍ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} (سورة النساء 19). إذن فأنت تحمد الله لأن قضاءه خير.. سواء أحببت القضاء أو كرهته فإنه خير لك.. لأنك لا تعلم والله سبحانه وتعالى يعلم. وهكذا من موجبات الحمد أن تقول الحمد لله على كل ما يحدث لك في دنياك. فأنت بذلك ترد الأمر إلى الله الذي خلقك.. فهو أعلم بما هو خير لك.
فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله رب العالمين.. لماذا قال الله سبحانه وتعالى رب العالمين؟ نقول إن "الحمد لله" تعني حمد الألوهية. فكلمة الله تعني المعبود بحق.. فالعبادة تكليف والتكليف يأتي من الله لعبيده.. فكأن الحمد أولا لله.. ثم يقتضي بعد ذلك أن يكون الحمد لربوبية الله على إيجادنا من عدم وإمدادنا من عدم.. لأن المتفضل بالنعم قد يكون محمودا عند كل الناس.. لكن التكليف يكون شاقا على بعض الناس.. ولو علم الناس قيمة التكليف في الحياة، لحمدوا الله أن كلفهم ب: افعل ولا تفعل.. لأنه ضمن عدم تصادم حركة حياتهم.. فتمضي حركة الحياة متساندة منسجمة.
إذن فالنعمة الأولى هي أن المعبود أبلغنا منهج عبادته، والنعمة الثانية أنه رب العالمين. في الحياة الدنيا هناك المطيع والعاصي، والمؤمن وغير المؤمن.. والذين يدخلون في عطاء الألوهية هم المؤمنون.. أما عطاء الربوبية فيشمل الجميع.. ونحن نحمد الله على عطاء ألوهيته، ونحمد الله على عطاء ربوبيته، لأنه الذي خلق، ولأنه رب العالمين.. الكون كله لا يخرج عن حكمه.. فليطمئن الناس في الدنيا أن النعم مستمرة لهم بعطاء ربوبيته.. فلا الشمس تستطيع أن تغيب وتقول لن أشرق، ولا النجوم تستطيع أن تصطدم بعضها ببعض في الكون، ولا الأرض تستطيع أن تمنع إنبات الزرع.. ولا الغلاف الجوي يستطيع أن يبتعد عن الأرض فيختنق الناس جميعا.. إذن فالله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده أنه رب لكل ما في الكون فلا تستطيع أي قوى تخدم الإنسان أن تمنع عن خدمته.. لأن الله سبحانه وتعالى مسيطر على كونه وعلى كل ما خلق.. أنه رب العالمين وهذه توجب الحمد.. أن يهيئ الله سبحانه وتعالى للإنسان ما يخدمه، بل جعله سيدا في كونه.. ولذلك فإن الإنسان المؤمن لا يخاف الغد.. وكيف يخافه والله رب العالمين. إذا لم يكن عنده طعام فهو واثق أن الله سيرزقه لأنه رب العالمين.. وإذا صادفته أزمة فقلبه مطمئن إلى أن الله سيفرج الأزمة ويزيل الكرب لأنه رب العالمين.. وإذا أصابته نعمة ذكر الله فشكره عليها لأنه رب العالمين الذي أنعم عليه.
فالحق سبحانه وتعالى يحمد على أنه رب العالمين.. لا شيء في كونه يخرج عن مراده الفعلي.. أما عطاء الألوهية فجزاؤه في الآخرة.. فالدنيا دار اختبار للإيمان، والآخرة دار الجزاء.. ومن الناس من لا يعبد الله.. هؤلاء متساوون في عطاء الربوبية مع المؤمنين في الدنيا.. ولكن في الآخرة يكون عطاء الألوهية للمؤمنين وحدهم.. فنعم الله لأصحاب الجنة، وعطاءات الله لمن آمن.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} (سورة الأعراف، 32).
على أن الحمد لله ليس في الدنيا فقط.. بل هو في الدنيا والآخرة.. الله محمود دائماً.. في الدنيا بعطاء ربوبيته لكل خلقه.. وعطاء ألوهيته لمن آمن به وفي الآخرة بعطائه للمؤمنين من عباده.. واقرأ قوله جل جلاله: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين} (سورة الزمر، 47). وقوله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} (سورة يونس، 10)...