ثم حكى القرآن كيف نجح إبليس في خداع آدم وحواء فقال : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } . أى : فأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية ، وأطمعهما في غير مطمع بسبب ما غرهما به من القسم .
ودلاهما مأخوذ من التدلي ، وأصله أن الرجل العطشان يدلى في البئر بدلون ليشرب من مائها ، فإذا ما أخرج الدلو لم يجد به ماء ، فيكون مدليا فيها بغرور . والغرور إظهار النصح مع إضمار الغش ، وأصله من غررت فلانا أى أصبت غرته وغفلته ونلت منه ما أريد .
ثم بين القرآن الآثار التي ترتبت على هذه الخديعة من إبليس لهما فقال : { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } .
أى : فلما خالفا أمر الله - تعالى - بأن أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها ، أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية ، فتساقط عنهما لباسهما ، وظهرت لهما عوراتهما .
وشرعا يلزقان من ورق الجنة ورقة فوق أخرى على عوراتهما لسترها .
ويخصفان : مأخوذ من الخصف ، وهو خرز طاقات النعل ونحوه بإلصاق بعضها ببعض ، وفعله من باب ضرب .
قال بعض العلماء : " ولعل المعنى - والله أعلم - أنهما لما ذاقا الشجرة وقد نهيا عن الأكل منها ظهر لهما أنهما قد زلا ، وخلعا ثوب الطاعة ، وبدت منهما سوأة المعصية ، فاستحوذ عليهما الخوف والحياء من ربهما ، فأخذا يفعلان ما يفعل الخائف الخجل عادة من الاستتار والاستخافء حتى لا يرى ، وذلك بخصف أوراق الجنة عليهما ليستترا بها ، وما لهما إذ ذاك حيلة سوى ذلك . فلما سمعا النداء الربانى بتقريعهما ولومهما ألهما أن يتوبا إلى الله ويستغفرا من ذنبهما بكلمات من فيض الرحمة الإلهية ، فتاب الله عليهما وهو التواب الرحيم ، وقال لهما فقط أولهما ولذرتيهما ، أو لهما ولإبليس : اهبطوا من الجنة إلى الأرض ، لينفذ ما أراد الله من استخلاف آدم وذريته في الأرض ، وعمارة الدنيا بهم إلى الأجل المسمى . ومنازعة عدوهم لهم فيها ، { إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } ثم بين القرآن ما قاله الله - تعالى - لهما بعد أن خالفا أمره . فقال : { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ } بطريق العتاب والتوبيخ { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } . أى عن الأكل منها { وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ } أى : ظاهر العداوة لا يفتر عن إيذائكما وإيقاع الشر بكما .
{ فدلاهما بغرور } يريد فغرهما بقوله وخدعهما بمكره .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه عندي أن يكون هذا استعارة من الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم أو بسبب ضعيف يغتر به فإذا تدلى به وتورك عليه انقطع به فهلك ، فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه فيقع في مصيبة بالذي يدلى في هوة بسبب ضعيف ، وعلق حكم العقوبة بالذوق إذ هو أول الأكل وبه يرتكب النهي ، وفي آية أخرى { فأكلا منها } .
وقوله تعالى :{ بدت } قيل تخرقت عنهما ثياب الجنة وملابسها وتطايرت تبرياً منهما ، وقال وهب بن منبه كان عليهما نور يستر عورة كل واحد منهما فانقشع بالمعصية ذلك النور ، وقال ابن عباس وقتادة : كان عليهما ظفر كاسٍ فلما عصيا تقلص عنهما فبدت سوءاتهما وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المعصية فيجددان الندم ، { وطفقا } معناه أخذا وجعلا وهو فعل لا يختص بوقت كبات وظل .
و { يخصفان } معناه يلصقانها ويضمان بعضها إلى بعض ، والمخصف الإشفى ، وضم الورق بعضه إلى بعض أشبه بالخرز منه بالخياطة ، وقرأ جمهور الناس «يَخصفان » من خصف وقرأ عبد الله بن بريدة «يخصّفان » من خصف بشد الصاد وقرأ الزهري «يُخصفان » من أخصف ، وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب : «يَخَصِّفان » بفتح الياء والخاء وكسر الصاد وشدها ، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب ، وأصلها يختصفان كما تقول سمعت الحديث واستمعته فأدغمت التاء في الصاد ونقلت حركتها إلى الخاء ، وكذلك الأصل في القراءة بكسر الخاء بعد هذه ، لكن لما سكنت التاء وأدغمت في الصاد اجتمع ساكنان فكسرت الخاء على عرف التقاء ساكنين ، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد «يَخِصِّفان » بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد وشدها وقد تقدم تعليلها ، قال ابن عباس : إن الورق الذي خصف منه ورق التين ، وروى أبيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن آدم عليه السلام كان يمشي في الجنة كأنه نخلة سموق ، فلما واقع المعصية وبدت له حاله فرّ على وجهه فأخذت شجرة بشعر رأسه يقال إنها الزيتونة فقال لها : أرسليني فقالت ما أنا بمرسلتك ، فناداه ربه أمني تفر يا آدم ؟ قال لا يا رب ، ولكن أستحييك ، قال أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك ؟ قال بلى يا رب ، ولكن وعزتك ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً ، قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّاً .
{ وناداهما } الآية ، قال الجمهور إن هذا النداء نداء وحي بواسطة ، ويؤيد ذلك أنّا نتلقى من الشرع أن موسى عليه السلام هو الذي خصص بين العالم بالكلام ، وأيضاً ففي حديث الشفاعة أن بني آدم المؤمنين ، يقولون لموسى يوم القيامة أنت خصك الله بكلامه واصطفاك برسالته اذهب فاشفع للناس ، وهذا ظاهره أنه مخصص ، وقالت فرقة بل هو نداء تكليم .
قال القاضي أبو محمد : وحجة هذا المذهب أنه وقع في أول ورقة من تاريخ ابن أبي خيثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم فقال نبي مكلم ، وأيضاً فإن موسى خصص بين البشر الساكنين في الأرض وأما آدم إذ كان في الجنة فكان في غير رتبة سكان الأرض ، فليس في تكليمه ما يفسد تخصيص موسى عليه السلام ، ويؤيد أنه نداء وحي اشتراك حواء فيه ، ولم يرو قط أن الله عز وجل كلم حواء ، ويتأول قوله عليه السلام «نبي مكلَّم » أنه بمعنى موصل إليه كلام الله تعالى ، وقوله عز وجل { الم أنهكما } سؤال تقرير يتضمن التوبيخ ، وقوله { تلكما } يؤيد بحسب ظاهر اللفظ أنه إنما أشار إلى شخص شجرة ، { وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } إشارة إلى الآية التي في سورة طه في قوله { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يجعل النسيان على بابه ، وقرأ أبيّ بن كعب «ألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.