وبعد هذا التهديد والوعيد لأولئك الكافرين . . تأخذ السورة الكريمة فى تلقين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحجة التى يجابههم بها ، وفى تسليته عما أصابه منهم ، وفى الثناء على الله - تعالى - بما هو أهله من تمجيد وتعظيم ، ثم تختتم بهذا النداء الخاشع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخالقه - عز وجل - فتقول : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن . . . سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } .
و { إِن } فى قوله - تعالى - : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ . . . } يرى بعضهم أنها شرطية ، وأن الكلام مسوق على سبيل الفرض والتقدير .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - ردا على هؤلاء الكافرين الذين نسبوا الولد إلى الله - تعالى - ، قل لهم : إن كان للرحمن ولد - على سبيل الفرض والتقدير - فأنا أول العابدين لهذا الولد ، ولكن هذا الفرض قد ثبتت استحالته يقينا لا شك معه ، فما أدى إليه ، وما ترتب عليه من نسبتكم الولد إلى الله - تعالى - محال - أيضا - وإذاً فأنا لا أبد إلا الله - تعالى - وحده ، وأنزهه - سبحانه - عن الولد أو الشريك .
ومن الآيات الكريمة التى نفت عن الله - عز وجل - الولد قوله - تعالى - : { بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقوله - عز وجل - : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } ومن المفسرين الذين رجحوا أن تكون { إِن } هنا شرطية ، الإِمام ابن جرير ، فقد قال بعض أن ذكر بعض الأقوال فى ذلك : وأولى الأقوال عندنا بالصواب فى ذلك ، قول من قال : معنى { إِن } الشرط الذى يقتضى الجزاء . ومعنى الكلام : قل يا محمد لمشركى قومك ، الزاعمين أن الملائكة بنات الله ، إن كان للرحمن ولد - على سبيل الفرض - فأنا أول العابدين . ولكنه لا ولد له فأنا أعبده لأنه لا ينبغى أن يكون له ولد .
وإذا وجه الكلام إلى ما قلنا من هذا الوجه . لم يكن على وجه الشك ولكن على الإِلطاف فى الكلام ، وحسن الخطاب ، كما قال - جل ثناؤه - { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقال الإِمام ابن كثير : يقول - تعالى - : { قُلْ } يا محمد { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } .
أى : لو فرض هذا لعبدته على ذلك ، لأنى عبد من عبيده ، مطيع لجميع ما أمرنى به ، ليس عندى استكبار ولا إباء عن عبادته ، فلو فرض هذا كان هذا ، ولكن هذا ممتنع فى حقه - تعالى - ، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز - أيضا - كما قال - تعالى - : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار } وقال صاحب الكشاف - رحمه الله - : قوله - تعالى - : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ . . } وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح .
. { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } أى : فأنا أول من يعظم ذلك الولد ، وأسبقكم إلى طاعته . .
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة فى نفى الولد ، والإِطناب فيه . . . وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد ، وهى محالة فى نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها . .
ويرى بعض العلماء أن { إِن } فى الآية نافية بمعنى ما ، فيكون المعنى : قل - أيها الرسول - لهؤلاء الكافرين : ما كان للرحمن من ولد ، وما صح وما أمكن ذلك ، فهو مستحيل عقلا وشرعا . . وما دام الأمر كذلك ، فأنا أول العابدين لله - تعالى - المنزهين له عن الولد والشريك وغيرهما .
قال الإِمام القرطبى : قوله - تعالى - : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ . . . } اختلف فى معناه . فقال ابن عباس والحسن والسدى : المعنى : ما كان للرحمن ولد . { إِن } بمعنى ما ويكون الكلام على هذا تاما ، ثم تبتدى بقوله - تعالى - { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } .
وقيل المعنى : قل يا محمد ، إن ثبت له ولد ، فأنا أول من يعبد ولده ، ولكن يستحيل أن يكون له ولد ، وهو كما تقول لمن تناظره : إن ثبت ما قلت بالدليل ، فأنا أول من يعتقده ، وهذا مبالغة فى الاستبعاد ، أى : لا سبيل إلى اعتقاده . .
و { إِن } على هذا للشرط ، وهو الأجود .
وقيل إن معنى { العابدين } الآنفين . وقال بعض العلماء لو كان كذلك لكان العبدين . . بغير ألف ، يقال : عبد - بكسر الباء - يعبد عبدا - بفتحها - إذا أنف وغضب فهو عبد ، والاسم العبدة ، مثل الآنفة . .
ويبدو لنا أن الرأيين يؤديان إلى نفى أن يكون لله - تعالى - ولد وإن كان الرأى الأول - وهو أنّ حرف { إِن } للشرط - هو المتبادر من معنى الآية وعليه جمهور المفسرين .
{ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } منكم فإن النبي صلى الله عليه وسلم يكون أعلم بالله وبما يصح له وبما لا يصح له ، وأولى بتعظيم ما يوجب تعظيمه ومن تعظيم الوالد تعظيم ولده ، ولا يلزم من ذلك صحة كينونة الولد وعبادته له إذ المحال قد يستلزم المحال بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه كقوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } غير أن { لو } ثم مشعرة بانتفاء الطرفين ، و{ إن } ههنا لا تشعر به ولا بنقيضه فإنها لمجرد الشريطة بل الانتفاء معلوم لانتفاء اللازم الدال على انتفاء ملزومه ، والدلالة على أن إنكاره الولد ليس لعناد ومراء بل لو كان لكان أولى الناس بالاعتراف به . وقيل معناه إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله الموحدين له أو الآنفين منه ، أو من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه ، أو ما كان له ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة . وقرأ حمزة والكسائي { ولد } بالضم وسكون اللام .
واختلف المفسرون في قوله تعالى : { قل إن كان للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين } فقالت فرقة : العابدون : هو من العبادة ، ثم اختلفوا في معنى الآية بعد ذلك ، فقال قتادة والسدي والطبري ، المعنى :
{ قل } لهم { إن كان للرحمن ولد } كما تقولون فأنا أول من يعبده على ذلك ، ولكن ليس به شيء من ذلك تعالى وجل . قال الطبري : فهذا الطاف في الخطاب ، ونحوه قوله : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] .
قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : في مخاطبة الكفار : { أين شركائي } [ النحل : 27 ، القصص : 62-72 ، فصلت : 47 ] .
وقال مجاهد المعنى : إن كان لله ولد في قولكم فأنا أول من عبد الله وحده وكذبكم . وقال قتادة أيضاً وزهير بن محمد وابن زيد : { إن } نافية بمعنى : ما ، فكأنه قال : ما كان للرحمن ولد . وهنا هو الوقف على هذا التأويل ، ثم يبتدئ قوله : { فأنا أول العابدين } قاله أبو حاتم . وقالت فرقة : العابدون في الآية : من عبد الرجل إذا أنف وأنكر الشيء ، ومنه قول الشاعر :
متى يشأ ذو الود يصرم خليله . . . ويعبد عليه لا محالة ظالما
ومنه حديث عثمان وعلي في المرجومة حين قال علي : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } [ الأحقاف : 15 ] قال : فما عبد عثمان أن بعث إليها لترد . والمعنى : إن جعلتم للرحمن ولداً وكان ذلك في قولكم فأنا أول الآنفين المنكرين لذلك .
وقرأ الجمهور : «وَلَد » بفتح الواو واللام . وقرأ ابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش : «وُلْد » بضم الواو وسكون اللام .
وقرأ أبو عبد الرحمن : «فأنا أول العابدين » وهي على هذا المعنى ، قال أبو حاتم : العبد بكسر الباء : الشديد الغضب . وقال أبو عبيدة معناه : أول الجاحدين ، والعرب تقول : عبدني حقي ، أي جحدني .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.