8- يا أيها المؤمنون ، حافظوا محافظة تامة على أداء حقوق الله ، وأدُّوا الشهادة بين الناس على وجهها الحق ، ولا يحملنكم بغضكم الشديد لقوم على أن تجانبوا العدل معهم ، بل التزموا العدل ، فهو أقرب سبيل إلى خشية الله والبعد{[51]} عن غضبه ، واخشوا الله في كل أموركم ، فإنه - سبحانه - عليم بكل ما تفعلون ، ومجازيكم عليه .
وبعد أن أمر الله - تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بمواثيقه ، أتبع ذلك بأمرهم بالتزام الحق في كل أقوالهم وأعمالهم ، وذكرهم بما أفاء عليهم من نعم فقال - سبحانه - :
{ يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ . . . }
قوله : { قَوَّامِينَ } جمع قوام . وهو صيغة مبالغة من قائم . والقوام : هو المبالغ في القيام بالشيء . وفي الإِتيان به على أتم وجه وأحسنه .
وقوله : { شُهَدَآءَ } جمع شهيد - بوزن فعيل - والأصل في هذه الصيغة ، دلالتها على الصفات الراسخة في النفس ككريم وحكيم .
والقسط : العدل يقال أقسط فلان يقسط إذا عدل في أقواله وأحكامه .
وقوله { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } أي : ولا يحملنكم من جرمه على كذا إذا حمله عليه أو معناه : ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب غير أنه في كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة .
وأصل الجرم قطع الثمرة من الشجرة وأطلق على الكسب ؛ لأن الكاسب ينقطع لكسبه .
والشنآن : البغض الشديد . يقال : شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأه وشنآنا ، إذا أبغضته بغضاً شديداً .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالحق إيماناً صادقاً { كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط } أي . ليكن من أخلاقكم وصفاتم أن تقوموا لله وحده بالحق في كل ما يلزمكم القيام به . ومن العمل بطاعته ، واجتناب منهياته ، وليكن من دأبكم وشأنكم - أيضاً - أن تلتزموا العدل في الأقوال والأحكام يتنافى مع تعاليم دين الإِسلام . الذي آمنتم به ، ورضيه الله لكم دينا .
وفي ندائه - سبحانه - بقوله : { كُونُواْ قَوَّامِينَ } بصفة الكينونة الدالة على الدوام ، وبصيغة المبالغة الدالة على الكثرة . لتمكين صفة الطاعة له من نفوسهم ، وترسيخها في قلوبهم .
فكأنه - سبحانه - يقول لهم : روضوا أنفسكم على طاعة خالقكم ، وعودوها على التزام الحق والعدل . واجعلوا ذلك شأنكم في جميع الظروف والأحوال فلا يكفى أن تلتزموا الطاعة والعدل مرة أو مرتين ، وإنما الواجب عليكم أن يكون التزامكم لذلك في كل أوقاتكم وأعمالكم .
وقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } تصريح بوجوب العدل بعد ما علم من النهي عن تركه في قوله { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ } للتأكيد على وجوب التزامهم بما أمرهم - سبحانه - به وما نهاهم عنه ، ولبيان العلة في تكليفهم بذلك .
والضمير { هو } يعود إلى المصدر المفهوم من قوله : { اعدلوا } .
أي : التزموا - أيها المؤمنون - العدل في كل أحوالكم ، فإن العدل مع الأعداء ومع غيرهم أقرب إلى اتقاء المعاصي ، وإلى صيانة النفس عن الوقوع في المهالك .
وقال - سبحانه { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } مع أن العدل دليل التقوى ولبابها لأن المؤمن في حال حربه وتعامله مع عدوه قد يرى أن من التقوى أن يستبيح ماله ، وأن يأخذ منه ما يمكن أخذه ، فبين له القرآن الكريم أن الأقرب إلى التقوى التامة أن يحسن معاملة عدوه ، وأن لا يعتدى على حق من حقوقه .
قال صاحب الكشاف ، قوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } نهاهم ألوا أن تحملهم البغضاء على ترك العدل ، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله { أَقْرَبُ للتقوى } أي : العدل أقرب للتقوى ، وأدخل في مناسبتها .
وفيه تنبيه على أن وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
أي : واتقوا الله أيها المؤمنون - في كل ما تأتون وما تذرون ، وصونوا أنفسكم عمّا لا يرضيه ، وافعلوا ما أمركم به ، إن الله - تعالى - لا تخفى عليه خافية من أعمالكم ، وسيجازيكم يوم القيامة بما تستحقونه على حسب أعمالكم .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به التحذير من مخالفة أوامر الله ، ومن انتهاك حرماته .
وبذلك نرى الآية الكيمة قد أمرت المؤمنين بالمداومة على طاعة الله في جميع الأوقات والأحوال ، وبأداء الشهادات على وجهها بدون محاباة ولا ظلم ، وبوجوب العدل في معاملة الأعداء والأصدقاء ، وبمراقبة الله - تعالى - وخشيته في السر والعلانية .
قال الآلوسي : وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة النساء { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ } ولم يكتف بذلك لمزيد من الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ . وقيل : لاختلاف السبب ، فإن الأولى نزلت في المشركين ، وهذه في اليهود . وذكر بعض المحققين وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا ، وهو أن آية النساء جيء بها في معرض الإِقرار على نفسه ووالديه وأقاربه . بدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ، ولا والد ولا قرابة . والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ فيها بالقيام لله - تعالى - لأنه أردع للمؤمنين ، ثم ثنى بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه .
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا } عداه بعلى لتضمنه معنى الحمل ، والمعنى لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل ، كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيا مما في قلوبكم . { اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي العدل أقرب للتقوى ، صرح لهم بالأمر بالعدل وبين أنه بمكان من التقوى بعدما نهاهم عن الجور وبين أنه مقتضى الهوى ، وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين . { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } فيجازيكم به ، وتكرير هذا الحكم إما لاختلاف السبب كما قيل إن الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود ، أو لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.