البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (8)

{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا } تقدم تفسير مثل هذه الجملة الأولى في النساء ، إلا أنّ هناك بدىء بالقسط ، وهنا أخر .

وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة .

ويلزم مَن كان قائماً لله أن يكون شاهداً بالقسط ، ومن كان قائماً بالقسط أن يكون قائماً لله ، إلا أنَّ التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين ، فبدىء فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة ، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والإحن ، فبدىء فيها بالقيام لله تعالى أولاً لأنه أردع للمؤمنين ، ثم أردف بالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيه بما هو آكد وهو القسط ، وفي معرض العداوة والشنآن بدىء فيها بالقيام لله ، فناسب كل معرض بما جيء به إليه .

وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا } وقوله : { فلا جناح عليهما أن يصالحا } فناسب ذكر تقديم القسط ، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط ، وتعدية يجرمنكم بعلى إلا أن يضمن معنى ما يتعدى بها ، وهو خلاف الأصل .

{ اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي : العدل نهاهم أولاً أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانياً تأكيداً ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله : هو أقرب للتقوى ، أي : أدخل في مناسبتها ، أو أقرب لكونه لطفاً فيها .

وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين في العدل ، إذ كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين .

{ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } لما كان الشنآن محله القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى ، وأتى بصفة خبير ومعناها عليم ، ولكنها تختص بما لطف إدراكه ، فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية .