نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (8)

ولما تقدم القيام إلى الصلاة ، وتقدم ذكر الأزواج المأمور فيهن بالعدل في أول النساء وأثنائها ، وكان في الأزواج المذكورات هنا الكافرات ، ناسب تعقيب ذلك بعد الأمر بالتقوى بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان ، ولما كان العدل في غاية الصعوبة على الإنسان ، فكان لذلك يحتاج المتخلق به إلى تدريب كبير ليصير صفة راسخة ، عبر بالكون فقال تعالى : { كونوا قوّامين } أي مجتهدين في القيام على النساء اللاتي أخذتموهن بعهد الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وعلى غيرهن في الصلاة وغيرها من جميع الطاعات التي{[24504]} عاهدتم على الوفاء بها .

ولما كان مبنى السورة على الوفاء بالعهد الوثيق ، وكان الوفاء بذلك إنما يخف{[24505]} على النفوس ، ويصح النشاط فيه ، ويعظم العزم عليه بالتذكر{[24506]} بجلالة موثقه وعدم انتهاك حرمته ، لأن{[24507]} المعاهد إنما يكون باسمه ولحفظ حده ورسمه ، قدم قوله : { لله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء .

بخلاف ما مضى في النساء .

ولما كان من جملة المعاقد{[24508]} عليه ليلة العقبة " ليلة تواثقوا على الإسلام " أن يقولوا بالحق حيث ما كانوا ، لا يخافون في الله لومة لائم ، قال : { شهداء } أي متيقظين محضرين أفهامكم غاية الإحضار{[24509]} بحيث لا يسد عنها شيء مما تريدون{[24510]} الشهادة به { بالقسط } أي العدل ، وقال الإمام أبو حيان في نهره : إن التي جاءت{[24511]} في سورة النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين ، فبدأ{[24512]} فيها بالقسط الذي هو العدل{[24513]} والسواء{[24514]} من غير محاباة نفس ولا والد{[24515]} ولا قرابة ، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والاحن ، فبدىء{[24516]} فيها بالقيام لله إذ كان الأمر بالقيام لله أولاً أردع للمؤمنين{[24517]} ، ثم أردف بالشهادة بالعدل ، فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيها بما هو آكد وهو القسط ، و{[24518]} التي في معرض العداواة والشنآن ، بدىء{[24519]} فيها بالقيام لله ، فناسب كل معرض ما جيء به إليه ، وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله{ ولن تستطيعوا أن تعدلوا{[24520]} }[ النساء : 129 ] وقوله

{ فلا جناح عليهما أن يصلحا{[24521]} }[ النساء : 128 ] فناسب ذكر{[24522]} تقديم القسط ، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط - انتهى .

ولما كان{[24523]} أمر بهذا الخبر ، نهى مما يحجب{[24524]} عنه فقال : { ولا يجرمنكم } أي يحملنكم { شنئان قوم } أي{[24525]} شدة عداوة من لهم قوة على القيام في الأمور من المشركين ، بحيث يخشى من إهمالهم ازدياد قوتهم { على ألا تعدلوا } أي أن{[24526]} تتركوا قصد العدل ، وهو يمكن أن يدخل فيه بغض أهل الزوجة الكافرة أو ازدراؤها{[24527]} في شيء من حقوقها لأجل خسة دينها ، فأمروا بالعدل حتى بين هذه{[24528]} المرأة الكافرة وضرّاتها المسلمات ، وإذا{[24529]} كان هذا شأن الأمر به في الكافر فما الظن به في المسلم ؟ ثم استأنف قوله آمراً بعد النهي تأكيداً{[24530]} لأمر العدل : { اعدلوا } أي تحروا العدل واقصدوه في كل شيء حتى في هذه الزوجات وفيمن يجاوز{[24531]} فيكم الحدود ، فكلما عصوا الله فيكم أطيعوه{[24532]} فيهم ، فإن الذي منعكم من التجاوز خوفه يريكم من النصرة وصلاح الحال ما يسركم .

ولما كان ترك{[24533]} قصد العدل{[24534]} قد يقع لصاحبه{[24535]} العدل اتفاقاً ، فيكون قريباً من التقوى ، قال مستأنفاً و{[24536]} معللاً : { هو } أي قصد العدل { أقرب } أي من ترك قصده { للتقوى } والإحسان الذي يتضمنه الصلح أقرب من العدل إليها ، وتعدية { أقرب } باللام دون إلى المقتضية لنوع بعد زيادة في الترغيب - كما مر{[24537]} في البقرة ؛ ولما كان الشيء لا يكون إلا بمقدماته ، وكان قد علم من هذا أن العدل مقدمة التقوى ، قال عاطفاً على النهي أو على نحو : فاعدلوا{[24538]} : { واتقوا الله }{[24539]} أي اجعلوا{[24540]} بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية بالإحسان{[24541]} فضلاً عن العدل ، ويؤيد كون الآية ناظرة إلى النكاح مع ما ذكر{[24542]} ختام آية الشقاق التي في أول النساء بقوله

{[24543]}إن الله{[24544]} كان عليماً خبيراً{[24545]} }[ النساء : 35 ] ، وختام قوله تعالى في أواخرها وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو اعراضاً بقوله { فإن{[24546]} الله كان بما تعملون خبيراً } وختام هذه بقوله معللاً{[24547]} لما قبله{[24548]} : { إن الله } أي المحيط بصفات الكمال { خبير بما تعملون* } لأن ما بين الزوجين ربما دق علمه عن إدراك غير العليم الخبير ؛ وقال أبو حيان : لما كان الشنآن محله القلب ، وهو الحامل على ترك العدل ، أمر بالتقوى وأتى بصفة { خبير } ومعناها عليم ولكنها مما تختص{[24549]} بما لطف إدراكه انتهى . { وشهداء } يمكن أن يكون من الشهادة{[24550]} التي هي حضور القلب - كما تقدم من قوله{ أو ألقى السمع وهو شهيد{[24551]} }[ ق : 37 ] وأن يكون من الشهادة المتعارفة ، ويوضح المناسبة فيها مع تأييد إرادتها كونها بعد قوله{ إن الله عليم بذات الصدور }[ آل عمران : 119 ] ومع قوله تعالى :{ ومن يكتمها فإنه آثم قلبه{[24552]} }[ البقرة : 283 ] وختام آية النساء التي في الشهادة بقوله{[24553]} :{ وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً{[24554]} }[ النساء : 135 ] كما ختمت هذه بمثل ذلك .


[24504]:في ظ: اللاتي.
[24505]:في ظ: يخفى.
[24506]:في ظ: بالتذكير.
[24507]:من ظ، وفي الأصل: إنما.
[24508]:في ظ: المعاقدين.
[24509]:سقط من ظ.
[24510]:في ظ: تريدوان- كذا.
[24511]:زيد من النهر- راجع البحر المحيط 3/440.
[24512]:من النهر، وفي الأصل و ظ: فبدى.
[24513]:في ظ: السواء، وفي النهر: والسوال- كذا.
[24514]:في ظ: السواء، وفي النهر: والسوال- كذا.
[24515]:في ظ: ولد.
[24516]:من ظ والنهر، وفي الأصل: فبدا.
[24517]:من النهر، وفي الأصل و ظ: للمومن.
[24518]:سقط من ظ.
[24519]:من النهر، وفي الأصل و ظ: بدا.
[24520]:سورة 4 آية 129.
[24521]:في النهر: يصلحا- راجع سورة 4 آية 128.
[24522]:زيد من النهر- راجع البحر المحيط 3/440.
[24523]:سقط من ظ.
[24524]:في ظ: يجب.
[24525]:زيد من ظ.
[24526]:زيد من ظ.
[24527]:زيد في الأصل و ظ: هي.
[24528]:زيد من ظ.
[24529]:في ظ: أن.
[24530]:من ظ، وفي الأصل: بتأكيدا.
[24531]:في ظ: تجاوز.
[24532]:في ظ: أطيعوا الله.
[24533]:في ظ: القول- كذا.
[24534]:في ظ: القول- كذا.
[24535]:في ظ: لمصاحبة.
[24536]:سقط من ظ.
[24537]:في ظ: مضى.
[24538]:زيد ما بين الحاجزين من ظ.
[24539]:في ظ: الذي جعل.
[24540]:في ظ: الذي جعل.
[24541]:من ظ، وفي الأصل: الإنسان- كذا.
[24542]:في ظ: ذكرنا.
[24543]:في ظ: إنه.
[24544]:في ظ: إنه.
[24545]:آية 35.
[24546]:من القرآن الكريم آية 128، وفي الأصل و ظ: أن.
[24547]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[24548]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[24549]:من ظ والبحر المحيط 3/441، وفي الأصل: يختص.
[24550]:العبارة من هنا إلى من الشهادة سقطت من ظ.
[24551]:سورة 50 آية 37.
[24552]:سورة 2 آية 283.
[24553]:سقط من ظ.
[24554]:سورة 4 آية 135.