اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (8)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ } الآية .

لما حثَّهُم على الانْقِيَاد للتَّكَالِيف ، وهي مع كثرتها مَحْصُورَةٌ في نَوْعين : التَّعْظِيم لأمر اللَّه ، والشَّفقة على خَلْقِ اللَّه .

قوله : { كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ } إشارةٌ على التَّعْظيم لأمر اللَّه ، ومعنى القيام للَّه : هو أن يَقُومَ للَّه بالحقِّ في كلِّ ما يَلْزَمه ، وقوله : " شُهَدَاء بالقسطِ " إشارةٌ إلى الشَّفقة على خَلْقِ اللَّه ، فيه قولان :

الأوَّل : قال عطاءُ{[11167]} : لا تُحاب من شهادتِكَ أهْل وُدِّك وقَرابتِك ، ولا تمنع شهادتك أعداءَك وأضْدَادَك .

الثاني : أمرهم بالصِّدْق في أفْعالهم وأقوالهم ، وتقدَّم نَظِيرُها في " النِّسَاء " ، إلاَّ أنَّ هناك قدَّم لَفْظَة " القِسْط " وهنا أخِّرَت ، وكأنَّ الغَرَضَ في ذلك - والله أعلم - أنَّ آية " النِّسَاء " جِيء بها في مَعْرِض الإقْرَارِ على نَفْسِهِ ووالِدَيْه وأقَارِبِه ، فَبُدِئ فيها بالقِسْطِ الذي هو العَدْلُ من غير مُحَابَاة نَفْسٍ ، ولا والِدٍ ، ولا قَرَابَةٍ ، والَّتِي هنا جِيءَ بها في [ مَعْرِض ]{[11168]} ترك العداوة ، فبُدِئ فيها [ بالأمْر ]{[11169]} بالقِيَام لِلَّه ، لأنَّهُ أرْدَعُ لِلْمُؤمنين ، ثم ثُنِّي بالشَّهادة بالعَدْلِ ، فَجِيءَ في كُلِّ مَعْرضٍ بما يُنَاسِبُه .

وقوله : " َلاَ يَجْرمَنَّكُم " تقدَّم مثله ، وكذلك " شَنَآنُ قَوْمٍ " .

قوله تعالى : { عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ } .

أي لا يحملَنَّكُم بُغْضُ قومٍ على أن لا تَعْدلُوا ، وأراد : لا تَعْدِلوا فيهم فَحُذِفَ لِلْعِلْم به ، وظُهُور حرف الجرِّ هنا يرجحُ تَقْدِيرهُ .

قيل : والمعنى : ولا يَحْمِلَنَّكُم [ بُغْضُ ]{[11170]} قوم على أن تجُورُوا عَلَيْهم ، وتتَجاوزُوا الحدَّ ، بل اعْدِلُوا فيهم ، وإن أسَاءُوا إلَيْكم ، وهذا خِطَابٌ عامٌّ ، وقيل : إنَّها مُخْتَصَّةٌ بالكُفَّار ، فإنَّها نزلت في قُرَيْشٍ لما صَدُّوا المُسْلِمين عن المَسْجِد الحَرَام{[11171]} .

قوله : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } .

نهاهم أوَّلاً عن أن يَحْمِلَهُم البَغْضَاءُ على ترك العدلِ ، ثم اسْتَأنَفَ فصرَّح لهم بالأمْر بالعدْل تأكِيداً ، ثم ذكر عِلَّة الأمْر بالعَدْل وهو قوله : { هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ، والمَعْنَى : أقْرَبُ إلى الاتِّقَاء من مَعَاصِي اللَّه ، وقيل : أقْرَبُ إلى الاتِّقَاء من عَذَابِ اللَّه .

و " هُوَ " ضمير المَصْدرِ المَفْهُوم من الفِعْلِ أي : العدل ، وفيه تَنْبِيهٌ على أنَّ وجوب العَدْلِ إذا كان مع الكُفَّار الذين هُمْ أعداءُ اللَّه بهَذِه الصِّفَة من القُوَّة ، فَكَيْفَ بوجُوبِهِ مع المُؤمنين الذين هم أوْلِيَاؤُه وأحِبَّاؤُه ، ثم ذكر كلاماً كالوعد{[11172]} للمُطِعين والوعيد للمُذْنِبِين ، وهو قوله : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ، يعني : [ أنَّه ] عالم بجميع المَعْلُومَات ، لا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أحْوَالِكُمْ .


[11167]:ينظر: تفسير الرازي 11/142.
[11168]:سقط في أ.
[11169]:سقط في أ.
[11170]:سقط في أ.
[11171]:ينظر: تفسير الرازي 11/143.
[11172]:في ب: كالوعيد.