جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (8)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَا أَيٌهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد ، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله ، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم ، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم ، فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم ، ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم ، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدّي ، واعملوا فيه بأمري .

وأما قوله : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَنآنُ قَوْمٍ على ألاّ تَعْدِلُوا فإنه يقول : ولا يحملنكم عدواة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم ، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة .

وقد ذكرنا الرواية عن أهل التأويل في معنى قوله : كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءِ لِلّهِ وفي قوله : وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ واختلاف المختلفين في قراءة ذلك والذي هو أولى بالصواب من القول فيه والقراءة بالأدلة الدالة على صحته بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وقد قيل : إن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين همت اليهود بقتله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير : يا أيُها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بالقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على ألاّ تَعْدِلُوا اعْدلُوا هُوا أقْرَبُ للتّقْوَى نزلت في يهود خيبر ، أرادوا قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقال ابن جريج : قال عبد الله بن كثير : ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود يستعينهم في دية ، فهموا أن يقتلوا ، فذلك قوله : وَلا يَجِرْمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على ألاّ تَعْدِلُوا . . . الاَية .

القول في تأويل قوله تعالى : اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ للتّقْوَى وَاتّقُوا اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : اعْدِلُوا أيها المؤمنون على كلّ أحد من الناس وليّا لكم كان أو عدوّا ، فاحملوهم على ما أمرتم أن تحملوهم عليه من أحكامي ، ولا تجوروا بأحد منهم عنه .

وأما قوله : هُوَ أقْربُ للتّقْوَى فإنه يعني بقوله : هو العدل عليهم أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى ، يعني : إلى أن تكونوا عند الله باستعمالكم إياه من أهل التقوى ، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شيء من أمره ، أو يأتوا شيئا من معاصيه . وإنما وصفه جلّ ثناؤه العدل بما وصف به من أنه أقرب للتقوى من الجور ، لأن من كان عادلاً كان لله بعدله مطيعا ، ومن كان لله مطيعا كان لا شكّ من أهل التقوى ، ومن كان جائرا كان لله عاصيا ، ومن كان لله عاصيا كان بعيدا من تقواه . وإنما كنى بقوله : هُوَ أقْرَبُ عن الفعل ، والعرب تكني عن الأفعال إذا كنَت عنها ب «هو » وب «ذلك » ، كما قال جلّ ثناؤه فهو خَيْرٌ لَكُمْ وذلكم أزْكَى لَكُمْ ولم لم يكن في الكلام «هو » لكان أقرب «نصبا » ، ولقيل : اعدلوا أقربَ للتقوى ، كما قيل : انْتَهُوا خَيْرا لَكُمْ .

وأما قوله : وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ فإنه يعني : واحذروا أيها المؤمنون أن تجوروا في عباده ، فتجاوزوا فيهم حكمه وقضاءه الذين بين لكم ، فيحلّ بكم عقوبته ، وتستوجبوا منه أليم نكاله . إنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يقول : إن الله ذو خبرة وعلم بما تعملون أيها المؤمنون فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه من عمل به أو خلاف له ، مُحْصٍ ذلكم عليكم كله ، حتى يجازيكم به جزاءكم المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء باساءته ، فاتقوا أن تسيئوا .