والظرف فى قوله - تعالى - { وَإِذَ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } متعلق بمحذوف تقديره اذكر ، وقوله : { أَسَرَّ } من الإسرار بالشىء بمعنى كتمانه وعدم إشاعته .
والمراد ببعض أزواجه : حفصة - رضى الله عنها - .
والمراد بالحديث قوله لها - كما جاء فى بعض الروايات - : " بل شربت عسلا عند زينب ، ولن أعود ، وقد حلفت فلا تخبرى بذلك أحدا . . " .
أو قوله لها فى شأن مارية : " إنى قد حرمتها على نفسى ، فاكتمى ذلك فأخبرت بذلك عائشة " .
أى : واذكر - أيها العاقل لتعتتبر وتتعظ - وقت أن أسر النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجه حفصة حديثا ، يتعلق بشربه العسل فى بيت زينب بنت جحش ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لحفصة لا تخبرى بذلك أحدا " .
{ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أى : فلما أخبرت حفصة عائشة بهذا الحديث الذى أمرت بكتمانه { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } أى : وأطلع الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما قالته حفصة لعائشة .
فالمراد بالإظهار : الاطلاع ، وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب .
وعبر بالإظهار عن الاطلاع ، لأن حفصة وعائشة كانتا حريصتين على عدم معرفة ما دار بينهما فى هذا الشأن ، فلما أطلع الله - تعالى - نبيه على ذلك كانتا بمنزلة من غلبتا على أمرهما .
وقوله - سبحانه - : { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } بيان للمسلك السامى الذى سلكه - صلى الله عليه وسلم - فى معاتبته لحفصة على إفشائها لما أمرها أن تكتمه والمفعول الأول لعرف محذوف أى : عرفها بعضه .
أى : فحين خاطب - صلى الله عليه وسلم - حفصة فى شأن الحديث الذى أفشته ، اكتفى بالإشارة إلى جانب منه ، ولم يذكر لها تفاصيل ما قاله لها سابقا .
لسمو أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - إذ فى ذكر التفاصيل مزيد من الخجل والإحراج لها .
قال بعضهم : ما زال التغافل من فعل الكرام وما استقصى كريم قط وقال الشاعر :
ليس الغبى بسيد فى قومه . . . لكن سيد قومه المتغابى
وإنما عرفها - صلى الله عليه وسلم - ببعض الحديث ، ليوقفها على خطئها وعلى أنه كان من الواجب عليها أن تحفظ سره - صلى الله عليه وسلم - .
قالوا : ولعل حفصة رضى الله عنها - قد فعلت ذلك ، ظنا منها أنه لا حرج فى إخبار عائشة بذلك ، أو أنها اجتهدت فأخطأت ، ثم تابت وندمت على خطئها .
ثم حكى - سبحانه - ما قالته حفصة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وما رد به عليها فقال : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير } .
أى : فلما سمعت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أنه قد أطلع على ما قالته لعائشة ، قالت له : من أخبرك بما دار بينى وبينها ؟ فأجابها - صلى الله عليه وسلم - بقوله : أخبرنى بذلك الله - تعالى - العليم بجميع أحوال عباده وتصرفاتهم . . الخبير بما تكنه الصدور ، وبما يدور فى النفوس من هواجس وخواطر .
وإنما قالت له - صلى الله عليه وسلم - : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } لتتأكد من أن عائشة لم تخبره - صلى الله عليه وسلم - بما دار بينهما فى هذا الشأن . . . فلما قالت لها - صلى الله عليه وسلم - : { نَبَّأَنِيَ العليم الخبير } تحقق ظنها فى كتمان عائشة لما قالته لها ، وتيقنت أن الذى أخبره بذلك هو الله - عز موجل - .
وفى تذلل الآية الكريمة بقوله : { العليم الخبير } إشارة حكيمة وتنبيه بليغ ، إلى أن من الواجب على كل عاقل ، أن يكون ملتزما لكتمان الأسرار التى يؤتمن عليها ، وأن إذاعتها - ولو فى أضيق الحدود - لا تخفى على الله - عز وجل - لأنه - سبحانه - عليم بكل معلوم ، ومحيطب بخبايا النفوس وخلجاتها .
وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه يعني حفصة حديثا تحريم مارية أو العسل أو أن الخلافة بعده لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فلما نبأت به أي فلما أخبرت حفصة عائشة رضي الله تعالى عنهما بالحديث وأظهره الله عليه واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على الحديث أي على إفشائه عرف بعضه عرف الرسول صلى الله عليه وسلم حفصة بعض ما فعلت وأعرض عن بعض عن أعلام بعض تكرما أو جازاها على بعض بتطليقه إياها وتجاوز عن بعض ويؤيده قراءة الكسائي بالتخفيف فإنه لا يحتمل ههنا غيره لكن المشدد من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والمخفف بالعكس ويؤيد الأول قوله فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير فإنه أوفق للإسلام .
وقوله تعالى : { وإذ أسر النبي } الآية معناه اذكر يا محمد ذلك ، على وجه التأنيب والعتب لهن ، وقال الجمهور الحديث هو قوله في أمر مارية ، وقال آخرون : بل هو قوله : «إنما شربت عسلاً » ، وبعض أزواجه هي حفصة ، و { نبأت } معناه ، أخبرت ، وهذه قراءة الجمهور ، وقرأ طلحة : «أنبأت » وكان إخبارها لعائشة ، وهذا ونحوه هو التظاهر الذي عوتبتا فيه ، وقال ميمون بن مهران : الحديث الذي أسر إلى حفصة ، أنه قال لها :
«وأبشري بأن أبا بكر وعمر يملكان أمر أمتي بعدي خلافة » ، وتعدت «نبأ » في هذه الآية مرة إلى مفعولين ومرة إلى مفعول واحد ، لأن ذلك يجوز في أنبأ ونبأ إذا كان دخولها على غير الابتداء والخبر ، فمتى دخلت على الجملة تعدت إلى ثلاثة مفاعيل ، ولا يجوز الاقتصار . وقوله تعالى : { وأظهره الله عليه } أي أطلعه ، وقرأ الكسائي وحده وأبو عبد الرحمن وطلحة وأبو عمرو بخلاف والحسن وقتادة : «عرَف » بتخفيف الراء ، وقرأ الباقون وجمهور الناس : «عرّف » بشدها ، والمعنى في اللفظة مع التخفيف جازى بالعتب واللوم ، كما تقول لإنسان يؤذيك : قد عرفت لك هذا ولأعرفن لك هذا بمعنى لأجازينك عليه ، ونحوه في المعنى قوله تعالى : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ، فأعرض عنهم }{[11186]} [ النساء : 63 ] ، فعلم الله زعيم بمجازاتهم ، وكذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنى مع الشد في الراء علم به وأنب عليه ، وقوله تعالى : { وأعرض عن بعض } أي تكرماً وحياء وحسن عشرة ، قال الحسن : ما استقصى كريم قط ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حينئذ حفصة ، ثم إن الله تعالى أمره بمراجعتها ، وروي أنه عاتبها ولم يطلقها ، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بالخبر ، وأنها أفشته إلى عائشة ، ظنت أن عائشة فضحتها ، فقالت : من أنبأك هذا ؟ على جهة التثبت ، فلما أخبرها أن الله تعالى أخبره ، سكتت وسلمت .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.