اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعۡضِ أَزۡوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتۡ بِهِۦ وَأَظۡهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ عَرَّفَ بَعۡضَهُۥ وَأَعۡرَضَ عَنۢ بَعۡضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتۡ مَنۡ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (3)

قوله : { وَإِذَ أَسَرَّ } .

العامل فيه «اذكر » فهو مفعول به لا ظرف .

والمعنى : اذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه ، يعني حفصة «حَدِيثاً » يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك .

وقال الكلبيُّ : أسرَّ إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان [ خليفتين ]{[57170]} من بعدي على أمَّتي{[57171]} .

وقال ابن عباس : أسرّ أمر الخلافة بعده إلى حفصة ، فذكرته حفصة{[57172]} .

روى الدارقطني في سننه عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { وَإِذْ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } ، قال : «اطلعت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم مع أم إبراهيم ، فقال : " لا تُخبري عائِشَة " ، قال : فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره اللَّهُ عليه ، " فَعرَّف بعضهُ ، وأعْرَضَ عن بَعْضٍ " ، قال : أعرض عن قولها : " إن أباك وأباها يكُونانِ خَليفَتيْنِ مِنْ بَعْدِي " ، كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك بين الناس .

{ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أخبرت عائشة لمصافاة كانت بينهما ، وكانتا متظاهرتين على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } أي : أطلعه الله على أنها قد نبأت به{[57173]} .

قوله : { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } .

أصل «نَبَّأ وأنْبَأ ، وأخبر وخبّر ، وحدّث » أن يتعدى لاثنين [ إلى ]{[57174]} الأول بنفسها ، وإلى الثاني بحرف الجر ، وقد يحذف الجار تخفيفاً ، وقد يحذف الأول للدلالة عليه ، وقد جاءت الاستعمالات الثلاثة في هذه الآية فقوله : { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } تعدى لاثنين ، حذف أولهما ، والثاني مجرور بالباء ، أي : «نَبَّأتْ بِهِ غيْرهَا » ، وقوله : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } ذكرهما ، وقوله : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } ذكرهما ، وحذف الجار .

وقرأ طلحة{[57175]} بن مصرف : «فلمَّا أنْبَأت » ، وهما لغتان «نَبَّأ وأنْبَأ » .

قوله : { عَرَّفَ بَعْضَهُ } .

قرأ الكسائي{[57176]} : بتخفيف الراء .

قال القرطبي{[57177]} : «وبها قرأ علي ، وطلحة بن مصرف ، وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة والكلبي والأعمش عن أبي بكر » .

قال عطاء : كان أبو عبد الرحم السلمي إذا قرأ عليه الرجل «عَرَّفَ » مشددة حصبه بالحجارة .

وقرأ الباقون : بتشديد الراء .

فالتثقيل يكون المفعول الأول معه محذوفاً ، أي «عرَّفَهَا بَعْضَه » ، أي : وقفها عليه على سبيل العَتْب .

{ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } ، تكرماً منه وحلماً ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم يدل عليه قوله تعالى : { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } ، أي : لم يعرفها إياه ، ولو كانت مخففة لقال في ضده : وأنكر بعضاً .

وأما التخفيف : فمعناه جازى على بعضه ، وأعرض عن بعض .

قال الفرَّاءُ{[57178]} : وتأويل قوله - عز وجل - : «عَرَفَ » بالتخفيف ، أي : غضب فيه ، وجازى عليه ، كقولك لمن أساء إليك : «لأعرِفنَّ لك ما فعلت » أي : لأجَازِينَّك عليه .

فصل في نزول الآية

قال المفسرون : إنه أسرَّ إلى حفصة شيئاً فحدثت به غيرها ، فطلقها مجازاة على بعضه ، ولم يؤاخذها بالباقي ، وهو من قبيل قوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله }[ البقرة : 197 ] أي : يجازيكم عليه ، وقوله : { أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ }[ النساء : 63 ] ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل ؛ لأن الله - تعالى - أطلعه على جميع ما أنبأت به غيرها ؛ لقوله تعالى : { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } .

وقرأ عكرمة{[57179]} : «عَرَّافَ » بألف بعد الراء .

وخرجت على الإشباع ، كقوله : [ الرجز ]

4785 - أعُوذُ باللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ *** . . . {[57180]}

وقيل : هي لغة يمانية ، يقولون : «عراف زيد عمراً » .

وإذا ضمنت هذه الأفعال الخمسة معنى «أعلم » تعدت لثلاثة .

وقال الفارسي : «تعدَّت بالهمزة أو التضعيف » .

وهو غلط ، إذا يقتضي ذلك أنها قبل التضعيف ، والهمزة كانت متعدية لاثنين ، فاكتسبت بالهمزة ، أو التضعيف ثالثاً ، والأمر ليس كذلك اتفاقاً .

فصل في تفسير الآية

قال السديُّ : عرف بعضه ، وأعرض عن بعض تكرماً{[57181]} .

وقال الحسنُ : ما استقصى كريم قط ، قال الله تعالى : { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ }{[57182]} .

وقال مقاتل : يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة ، وهو قول حفصة لعائشة : إن أبا بكرٍ وعمر سيملكان بعده{[57183]} .

قال المفسرون : إن النبي صلى الله عليه وسلم جازى حفصة ، بأن طلقها طلقة واحدة ، فلما بلغ ذلك عمر ، فقال عمر : لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك ، فأمره جبريل بمراجعتها ، وشفع فيها ، واعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً ، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم ، حتى نزلت آية التخيير كما تقدم .

وقيل : هم بطلاقها ، حتَّى قال له جبريل : لا تطلقها ، فإنها صوَّامة قوَّامة ، وإنها من نسائك في الجنة ، فلم يطلقها .

قوله : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } ، أي : أخبر حفصة بما أظهره الله عليه ، قالت : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } يا رسول الله عني ، فظنت أن عائشة أخبرته ، فقال - عليه السلام - : { نَبَّأَنِيَ العليم الخبير } الذي لا يخفى عليه شيء .

وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الكراهية في وجه حفصة حين رأته مع مارية أراد أن يتراضاها فأسرَّ إليها شيئين : تحريم الأمة على نفسه ، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر ، فأخبرت حفصة بذلك عائشة ، وأطلع اللَّهُ نبيه عليه فعرف حفصة ، وأخبرها بما أخبرت به عائشة ، وهو تحريم الأمة { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } يعني عن ذكر الخلافة ، كره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك بين الناس ، { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } أي : أخبر حفصة بما أظهره اللَّهُ عليه ، قالت حفصة : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } أي : من أخبرك بأني أفشيت السِّرَّ ؟ «قال : { نَبَّأَنِيَ العليم الخبير } » .

قال ابن الخطيب{[57184]} : وصفه بكونه خبيراً بعدما وصفه بكونه عليماً لما أنّ في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم .


[57170]:في أ: خلفة.
[57171]:تفسير القرطبي (18/122).
[57172]:ينظر المصدر السابق.
[57173]:أخرجه الدارقطني (4/153-154) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس والكلبي مشهور بالضعف. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/3469) وعزاه إلى الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس.
[57174]:في أ: على.
[57175]:ينظر: المحرر الوجيز 5/330، والبحر المحيط 8/285، والقرطبي 18/123.
[57176]:ينظر: السبعة 460، والحجة 6/301، وإعراب القراءات 2/375، وحجة القراءات 713، والعنوان 193، وشرح الطيبة 6/60، وشرح شعلة 604، وإتحاف 2/547.
[57177]:ينظر الجامع لأحكام القرآن 18/132.
[57178]:ينظر: معاني القرآن 3/166.
[57179]:ينظر: البحر المحيط 8/286، والدر المصون 6/335.
[57180]:تقدم.
[57181]:ذكره القرطبي (18/123).
[57182]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/364) وينظر المصدر السابق.
[57183]:ينظر تفسير القرطبي (18/123).
[57184]:ينظر الفخر الرازي 30/39.