ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانبا من أقوالهم الباطلة فقال : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر } .
أي : وقال هؤلاء المشركون على سبيل الجهل والعناد والجحود للحق ، ما الحياة إلا هذه الحياة الدنيوية التي نحياها فيها ، وليس هناك حياة سواها ، فنحن نموت ثم يحيا أولادنا من بعدنا أو يموت بعضنا ويحيا البعض الآخر إلى زمن معين ، أو نكون أمواتا فى أصلاب آبائنا ، ثم نحيا بعد ذلك عند الولادة .
{ وَمَا يُهْلِكُنَآ } عند انتهاء آجالنا { إِلاَّ الدهر } أي : إلا مرور الزمان ، وكر الأعوام وتقلب الشهور والأيام .
قال ابن كثير ما ملخصه " يخبر - تعالى - عن قول الدهرية من الكفار ، ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي : ما ثَمَّ إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون ، وما ثَمَّ معاد ولا قيامة . .
ولهذا قالوا : { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر } - أي : إلا مرور الأيام والليالي - فكابروا المعقول وكذبوا المنقول . . .
وفي الحديث الصحيح - الذي رواه الشيخان وغيرهما - عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقول الله - تعالى - : يؤذينى ابن آدم ، يسب الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب ليله ونهاره " .
والمقصود من هذا الحديث النهي عن سب الدهر ، لأن الله - تعالى - هو الخالق له ، فمن يسب الدهر ، فكأنما سب الله - تعالى - لأنه - سبحانه - هو الذي يقلب الليالي والأيام .
وقد كان العرب في الجاهلية إذا ما أصابتهم شدة أو نكبة ، قالوا : يا خيبة الدهر ، فيسندون تلك الأفعال والمصائب إلى الدهر ويسبونه .
وقوله - تعالى - : { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } رد عليهم فيما قالوه من أقوال باطلة تتعلق بإنكارهم للبعث والحساب .
أي : وليس لهم فيما زعموه من إنكارهم للبعث من علم مستند إلى نقل أو عقل ، إن هم إلا يظنون ظنا مبنيا على الوهم والضلال .
{ وقالوا ما هي } ما الحياة أو الحال . { إلا حياتنا الدنيا } التي نحن فيها . { نموت ونحيا } أي نكون أمواتا نطفا وما قبلها ونحيا بعد ذلك ، أو نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا ، أو يموت بعضنا ويحيا بعضنا ، أو يصيبنا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة . ويحتمل أنهم أرادوا به التناسخ فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان . { وما يهلكنا إلا الدهر } إلا مرور الزمان وهو في الأصل مدة بقاء العالم من دهره إذا غلبه . { وما لهم بذلك من علم } يعني نسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك وما يتعلق بها على الاستقلال ، أو إنكار البعث أو كليهما . { إن هم إلا يظنون } إذ لا دليل لهم عليه وإنما قالوه بناء على التقليد والإنكار لما لم يحسوا به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا} يعني نموت نحن ويحيا آخرون، فيخرجون من أصلابنا، فنحن كذلك، فما نبعث أبدا.
{وما يهلكنا إلا الدهر}: وما يميتنا إلا طول العمر، وطول اختلاف الليل والنهار، ولا نبعث.
{وما لهم بذلك من علم} بأنهم لا يبعثون.
{إن هم}: ما هم {إلا يظنون} آية ما يستيقنون وبالظن تكلموا على غيرهم أنهم لا يبعثون...
قال الشافعي: إنما تأويله ـ والله أعلم ـ أن العرب كان من شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم: من موت أو هدْمٍ أو تلف مال أو غير ذلك، وتسب الليل والنهار، وهما الجديدان والفتيان، ويقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وأتى عليهم؛ فيجعلون الليل والنهار اللذين يفعلان ذلك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تسبوا الدهر» على أنه الذي يفعل بكم هذه الأشياء، فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنما تسبون الله عز وجل، فإن الله تعالى فاعل هذه الأشياء. (مناقب الشافعي: 1/336-337. ون السنن الكبرى: 3/365)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقال هؤلاء المشركون الذين تقدّم خبره عنهم: ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها لا حياة سواها، تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات.
نَمُوتُ وَنحيْا، نموت نحن وتحيا أبناؤنا بعدنا، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم؛ لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء، وذلك نظير قول الناس: ما مات من خلف ابنا مثل فلان؛ لأنه بحياة ذكره به، كأنه حيّ غير ميت.
وقد يحتمل وجها آخر: وهو أن يكون معناه: نحيا ونموت على وجه تقديم الحياة قبل الممات، كما يقال: قمت وقعدت، بمعنى: قعدت وقمت. والعرب تفعل ذلك في الواو خاصة إذا أرادوا الخبر عن شيئين أنهما كانا أو يكونان، ولم تقصد الخبر عن كون أحدهما قبل الاخر، تقدم المتأخر حدوثا على المتقدم حدوثه منهما أحيانا فهذا من ذلك؛ لأنه لم يقصد فيه إلى الخبر عن كون الحياة قبل الممات، فقدّم ذكر الممات قبل ذكر الحياة، إذ كان القصد إلى الخبر عن أنهم يكونون مرّة أحياءً وأخرى أمواتا.
وَما لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ: وما لهؤلاء المشركين القائلين: ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، بما يقولون من ذلك من علم: يعني من يقين علم؛ لأنهم يقولون ذلك تخرّصا بغير خبر أتاهم من الله، ولا برهان عندهم بحقيقته.
إنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ: ما هم إلا في ظنّ من ذلك، وشكّ يخبر عنهم أنهم في حيرة من اعتقادهم حقيقة ما ينطقون من ذلك بألسنتهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{نموت ونحيا}... نموت، أي كنّا ميّتين، فحيينا.
{نموت} بمعنى كنا أمواتا {ونحيا} أي فصرنا أحياء، ثم لا حياة بعد تلك الحياة.
{وما يُهلكنا إلا الدهر}... الدهر عندهم عبارة عن الأبد، فكأنهم يقولون في قوله: {وما يُهلكنا إلا الدهر} وما يُهلك أنفسنا إلا لأن أنفسنا لم تُجعل للأبد ولا للبقاء، بل جُعلت للانقضاء والفناء.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} فيه أربعة أوجه: الثالث: وما يهلكنا إلا الموت، قاله قطرب. الرابع: وما يهلكنا إلا الله، قاله عكرمة. وروى الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رجال يقولون: يا خيبة الدهر، يا بؤس الدهر، لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل هو الدهر، وإنه يقبض الأيام ويبسطها"...
{وما يهلكنا إلا الدهر} يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك، ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله وبين إنكار البعث والقيامة.
{وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل، الاحتمالات بأسرها قائمة، فالذي قالوه يحتمل وضده أيضا يحتمل، وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقا، وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقا، فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل، ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموا به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة، فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبينة قول باطل فاسد، وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
الحديث أخرجه صاحبا الصحيح، وأبو داود، والنسائي، من رواية سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب ليله ونهاره" وفي رواية: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير للدلالة على الختم على مشاعرهم، فقد قالوا مع اعترافهم بتفرده تعالى بخلقهم ورزقهم وخلق جميع الموجدات في إنكار الوحدانية: إن له شركاء، عطف عليه قوله: {وقالوا} أي في إنكارهم البعث مع اعترافهم بأنه قادر على كل شيء ومعرفتهم أنه قد وعد بذلك في الأساليب المعجزة وأنه لا يليق بحكيم أصلاً أن يدع من تحت يده يتهارجون من غير حكم بينهم:
{ما هي} أي الحياة {إلا حياتنا} أي أيها الناس.
{الدنيا} أي هذه التي نحن فيها مع أن تذكر مدلول هذا الوصف الذي هو أمر نسبي لا يعقل إلا بالإضافة إلى حياة أخرى بُعدى كافٍ في إثبات البعث.
ولما أثبتوا بادعائهم الباطل هذه الحياة أتبعوها حالها فقالوا: {نموت ونحيا} أي تنزع الروح من بعض- فيموت، وتنفخ في بعض آخر فيحيى، وليس وراء الموت حياة أخرى للذي مات، فقد أسلخوا أنفسهم بهذا القول من الإنسانية إلى البهيمية لوقوفهم مع الجزئيات.
ولما كان هلاكهم في زعمهم لا آخر له، عدوا الحياة في جنبه عدماً فلم يذكروها وقالوا بجهلهم: {وما يهلكنا} أي بعد هذه الحياة.
{إلا الدهر} أي الزمان الطويل بغلبته علينا بتجدد إقباله وتجدد إدبارنا بنزول الأمور المكروهة بنا، من دهره -إذا غلبه.
ولما أسند إليهم هذا القول الواهي، بين حالهم عند قوله فقال تعالى: {وما} أي قالوه والحال أنه ما {لهم بذلك} أي القول البعيد من الصواب وهو أنه لا حياة بعد هذه، وأن الهلاك منسوب إلى الدهر على أنه مؤثر بنفسه، وأعرق في النفي فقال: {من علم} أي كثير ولا قليل.
{إن} أي ما {هم إلا يظنون} بقرينة أن الإنسان كلما تقدم في السن ضعف وأنه لم يرجع أحد من الموتى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا المقطع الأخير من السورة يعرض مقولة المشركين عن الآخرة وعن البعث والحساب. ويرد عليها من واقع نشأتهم الذي لا مجال لإنكاره، وهو واقع قريب منهم ثم يعرض مشهداً من مشاهد القيامة، يرونه واقعاً بهم -وإن كان لم يحن بعد موعده -؛ لأن التصوير القرآني يعرضه حياً شاخصاً كأنهم يرونه رأي العين من خلال الكلمات. ثم يختم السورة بالحمد لله، الواحد الربوبية في السماوات وفي الأرض ولجميع العالمين في السماوات والأرض، وتمجيد عظمته وكبريائه المتفردة في السماوات والأرض، لا ترتفع أمامها هامة، ولا يتطاول إليها متطاول.. وهو العزيز الحكيم..
هكذا كانوا ينظرون تلك النظرة القصيرة. الحياة في نظرهم هي هذا الشوط الذي يرونه في الدنيا رأي العين. جيل يموت وجيل يحيا؛ وفي ظاهر الأمر لا تمتد إليهم يد بالموت، إنما هي الأيام تمضي، والدهر ينطوي، فإذا هم أموات؛ فالدهر إذن هو الذي ينهي آجالهم، ويلحق بأجسامهم الموت فيموتون! وهي نظرة سطحية لا تتجاوز المظاهر، ولا تبحث عما وراءها من أسرار. وإلا فمن أين جاءت إليهم الحياة وإذا جاءت فمن ذا يذهب بها عنهم؟ والموت لا ينال الأجسام وفق نظام محدد وعدد من الأيام معين، حتى يظنوا أن مرور الأيام هو الذي يسلبهم الحياة. فالأطفال يموتون كالشيوخ والأصحاء يموتون كالمرضى. والأقوياء يموتون كالضعاف. ولا يصلح الدهر إذن تفسيراً للموت عند من ينظر إلى الأمر نظرة فاحصة، ويحاول أن يعرف، وأن يدرك حقيقة الأسباب؛ لهذا يقول الله عنهم بحق (وما لهم بذلك من علم. إن هم إلا يظنون): يظنون ظناً غامضاً واهياً، لا يقوم على تدبر، ولا يستند إلى علم، ولا يدل على إدراك لحقائق الأمور. ولا ينظرون إلى ما وراء ظاهرتي الحياة والموت من سر يشهد بإرادة أخرى غير إرادة الإنسان، وبسبب آخر غير مرور الأيام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا عطف على جملة {أم حسب الذين اجترحوا السيئات} [الجاثية: 21] أي بعد أن جادلوا المسلمين بأنه إن كان يبعث بعد الموت فستكون عقباهم خيراً من عقبى المسلمين، يقولون ذلك لقصد التورك وهم لا يوقنون بالبعث والجزاء بل ضربوه جدلاً وإنما يقينُهم قولُهم {ما هي إلا حياتنا الدنيا}.
وتقدم في سورة الأنعام (29) {وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} وضمير {هي} ضمير القصة والشأن، أي قصة الخوض في البعث تنحصر في أن لا حياة بعد الممات، أي القصة هي انتفاء البعث كما أفاده حصر الأمر في الحياة الدنيا، أي الحاضرة القريبَة منا، أي فلا تطيلوا الجدال معنا في إثبات البعث، ويجوز أن يكون {هي} ضمير الحياة باعتبار دلالة الاستثناء على تقدير لفظ الحياة فيكون حَصْراً لجنس الحياة في الحياة الدنيا.
وجملة {نموت ونحيا} مبيّنة لجملة {ما هي إلا حياتنا الدنيا} أي ليس بعد هذا العالم عالم آخر فالحياة هي حياة هذا العالم لا غير فإذا مات من كان حيّاً خلفه من يوجد بعده، وللدلالة على هذا التطور عبّر بالفعل المضارع، أي تتجدد فينا الحياة والموت، فالمعنى: نموت ونحيا في هذه الحياة الدنيا وليس ثمة حياة أخرى. ثم إن كانت هذه الجملة محكية بلفظ كلامهم فَلَعَلها ممّا جرى مجرى المثل بينهم، وإنْ كانت حكايَة لمعنى كلامهم فهي من إيجاز القرآن وهم إنما قالوا: يموت بعضنا ويحيَا بعضنا ثم يموت فصار كالمثل.
ولا يخطر بالبال أن حكاية قولهم: {نموت ونحيا} تقتضي إرادة نحيا بعد أن نموت لأن قولهم {ما هي إلا حياتنا الدنيا} يصرف عن خطور هذا بالبال. والعطفُ بالواو لا يقتضي ترتيباً بين المتعاطفين في الحصول.
وإنما قدم {نموت} في الذكر على {ونحيا} في البيان مع أن المبيّن قولهم {ما هي إلا حياتنا الدنيا} فكان الظاهر أن يبدأ في البيان بذكر اللفظ المبيَّن فيقال: نَحيَا ونموت، فقيل قُدّم {نموت} لتتأتى الفاصلة بلفظ {نحيا} مع لفظ {الدنيا}، وعندي أن تقديم فعل {نموت} على {نَحيا} للاهتمام بالموت في هذا المقام؛ لأنهم بصدد تقرير أن الموت لا حياة بعده، ويتبع ذلك الاهتمام تأتي طباقين بين حياتنا الدنيا ونموت ثم بين نموت ونحيا. وحصلت الفاصلة تبعاً، وذلك أدخل في بلاغة الإعجاز ولذلك أعقبه بقوله تعالى: {وما لهم بذلك من علم} فالإشارة ب {ذلك} إلى قولهم {وما يُهلكنا إلا الدهر}، أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل.
وأما زيادة {وما يهلكنا إلا الدهر} فقصدوا تأكيد معنى انحصار الحياة والموت في هذا العالم المعبر عنه عندهم بالدهر.
فالحياة بتكوين الخلقة والممات بفعل الدهر. فكيف يرجى لمن أهلكه الدهر أن يعود حيّاً فالدهر هو الزمان المستمر المتعاقب ليله ونهاره.
والمعنى: أحياؤنا يصيرون إلى الموت بتأثير الزمان، أي حَدثانه من طول مدة يعقبها الموت بالشيخوخة، أو من أسباب تفضي إلى الهلاك، وأقوالهم في هذا كثيرة ومن الشعر القديم قول عَمْرو بن قميئة:
رَمَتْنِي بناتُ الدهر من حيث لا أرى *** فمَا بال من يُرمى وليس بِرَامِ
ولعلهم يريدون أنه لو تأثر الزمان لبقي الناس أحياء كما قال أسقف نجران:
منع البقاء تقلب الشمس *** وطلوعها من حيث لا تُمسي
فلما كان الموت بفعل الدهر فكيف يرجى أن يعودوا أحياء. وهذه كلمات كانت تجري على ألسنتهم لقلة التدبر في الأمور، وإن كانوا يعلمون أن الله هو الخالق للعوالم.
والمراد بالظن في قوله: {إن هم إلا يظنون} ما ليس بعلم فهو هنا التخيل والتوهم وجملة {إن هم إلا يظنون} مبيّنة بجملة {وما لهم بذلك من علم} أو استئناف بياني كأنّ سائلاً حين سَمع قوله: {وما لهم بذلك من علم} سأل عن مستندهم في قولهم ذلك فأجيب بأنه الظن المبني على التخيل.
وجيء بالمضارع في {يظنون} لأنهم يجددون هذا الظن ويتلقاه صغيرهم عن كبيرهم في أجيالهم وما هم بمقلعين عنه.