88- واستجاب إخوة يوسف لطلب أبيهم ، فذهبوا إلى مصر ، وتحايلوا لمقابلة حاكمها الذي ظهر لهم من بعد أنه يوسف ، فلما دخلوا عليه ، قالوا : - يا أيها العزيز - مسَّنا نحن وعشيرتنا الجوع وما يتبعه من ضر الأجسام والنفوس ، وجئنا إليك بأموال قليلة هي بضاعتنا وهي ترد لقلتها ورداءتها ، وليست كفاء ما نرجوه منك ، لأننا نرجو منك وفاء الكيل فأوفه لنا ، واجعل الزائد عن حقنا صدقة علينا ، إن اللَّه تعالى يثيب المتصدقين بأحسن الثواب .
واستجاب الأبناء لنصيحة أبيهم ، فأعدوا عدتهم للرحيل إلى مصر للمرة الثالثة ، ثم ساروا في طريقهم حتى دخلوها ، والتقوا بعزيز مصر الذي احتجز أخاهم بنيامين ، وتحكى السورة الكريمة ما دار بينهم وبينه فتقول :
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيها العزيز . . . } .
قوله - تعالى - { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ . . . } حكاية لما قاله إخوة يوسف له ، بعد أن امتثلوا أمر أبيهم ، فخجوا إلى مصر للمرة الثالثة ، ليتحسسوا من يوسف وأخيه ، وليشتروا من عزيزها ما هم في حاجة إليه من طعام .
والبضاعة : هي القطعة من المال ، يقصد بها شراء شئ .
والمزجاة : هي القليلة الرديئة التي ينصرف عنها التجار إهمالاً لها .
وقالوا : وكانت بضاعتهمدراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة - أى : بأقل قيمة - وقيل غير ذلك .
وأصل الإِزجاء : السوق والدفع قليلاً قليلاً ، ومنه قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً . . . } أى : يرسله رويدا رويدا . . .
وسميت البضاعة الرديئة القلية مزجاة ، لأنها ترد وتدفع ولا يقبلها التجار إلى بأبخس الأثمان .
والمعنى : وقال إخوة يوسف له بأدب واستعطاف ، بعد أن دخلوا عليه للمرة الثالثة { ياأيها العزيز } أى : الملك صاحب الجاه والسلطان والسعة في الرزق ، { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر } أى : أصابنا وأصاب أهلنا معنا الفقر والجدب والهزل من شدة الجوع .
{ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } أى : وجئنا معنا من بلادنا ببضاعة قليلة رديئة يردها وينصرف عنها كل من يراها من التجار ، إهمالاً لها ، واحتقارا لشأنها .
وإنما قالوا له ذلك : استدراراً لعطفه ، وتحريكاً لمروءته وسخائه ، قبل أن يخبروه بمطلبهم الذي حكاه القرآن في قوله :
{ فَأَوْفِ لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ . . . } أى : هذا هو حالنا شرحناه لك ، وهو يدعو إلى الشفقة والرحمة ، ما دام أمرنا كذلك ، فأتمم لنا كيلنا ولا تنقص منه شيئا ، وتصدق علينا فوق حقنا بما أنت أهل له من كرم ورحمة { إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين } على غيرهم جزاء كريما حسنا .
وقوله : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ } تقدير الكلام : فذهبوا فدخلوا بلد{[15273]} مصر ، ودخلوا على يوسف ، { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام ، { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ } أي : ومعنا ثمن الطعام الذي تمتاره ، وهو ثمن قليل . قاله مجاهد ، والحسن ، وغير واحد .
وقال ابن عباس : الرديء{[15274]} لا يَنفُق ، مثل خَلَق الغِرارة ، والحبل ، والشيء ، وفي رواية عنه : الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان . وكذا قال قتادة ، والُّسدي .
وقال سعيد بن جبير [ وعكرمة ]{[15275]} هي الدراهم الفُسُول .
وقال أبو صالح : هو الصنوبر وحبة الخضراء .
وقال أبو صالح : جاءوا بحَبِّ البُطْم الأخضر والصنوبر .
وأصل الإزجاء : الدفع لضعف الشيء ، كما قال حاتم الطائي :
ليَبْك عَلى مِلْحَانَ ضَيفٌ مُدَفَّعٌ *** وَأرمَلَةٌ تُزْجي مَعَ الليل أرمَلا{[15276]} وقال أعشى بني ثعلبة :
الوَاهبُ المائةِ الهجَان وعَبدِها *** عُوذًا تُزَجِّي خَلْفَها أطْفَالَها{[15277]} وقوله إخبارا عنهم : { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } أي : أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك . وقرأ ابن مسعود : " فأوقرْ ركابنا وتصدق علينا " .
وقال ابن جريج : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } برَدِّ أخينا إلينا .
وقال سعيد بن جبير والسدي : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } يقولون : تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة ، وتجوز فيها .
وسئل سفيان بن عُيُيْنَة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألم تسمع قوله : { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } رواه ابن جرير عن الحارث ، عن القاسم ، عنه {[15278]}-{[15279]} .
وقال ابن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا القاسم ، حدثنا مروان بن معاوية ، عن عثمان بن الأسود : سمعت مجاهدا وسئل : هل يكره أن يقول الرجل في دعائه : اللهم تصدق علي ؟ فقال : نعم ، إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب .
الفاء عاطفة على كلام مقدّر دل عليه المقام ، أي فارتحلوا إلى مصر بقصد استطلاق بنيامين من عزيز مصر ثم بالتعرض إلى التحسّس من يوسف عليه السلام ، فوصلوا مصر ، فدخلوا على يوسف ، { فلما دخلوا عليه } الخ . . . وقد تقدم آنفاً وجه دعائهم يوسف عليه السلام بوصف العزيز .
وأرادوا بمسّ الضر إصَابته . وقد تقدم إطلاق مسّ الضرّ على الإصابة عند قوله تعالى : { وإن يمسسك الله بضر } في سورة الأنعام ( 17 ) .
والبضاعة تقدمت آنفاً . والمزجاة : القليلة التي لا يرغب فيها فكأنّ صاحبها يُزجيها ، أي يدفعها بكفة ليقبلها المدفوعة إليه . والمراد بها مال قليل للامتيار ، ولذلك فرع عليه { فأوف لنا الكيل } . وطلبوا التصدّق منه تعريضاً بإطلاق أخيهم لأن ذلك فضل منه إذ صار مملوكاً له كما تقدم .
وجملة { إن الله يجزي المتصدّقين } تعليل لاستدعائهم التصدّق عليهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما دخلوا عليه} يوسف، {قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر}، يعني الشدة والبلاء من الجوع {وجئنا ببضاعة مزجاة}، يعني دراهم نفاية فجوزها عنا، {فأوف}، يعني فوف {لنا الكيل}، بسعر الجياد، {وتصدق علينا}، يقول: تكون هذه صدقة منك، يعنون معروفا أن تأخذ النفاية وتكيل لنا الطعام بسعر الجياد، {إن الله يجزى المتصدقين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وفي الكلام متروك قد استغني بذكر ما ظهر عما حذف، وذلك: فخرجوا راجعين إلى مصر حتى صاروا إليها، فدخلوا على يوسف "فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أيّها العَزِيزُ مَسّنا وأهْلَنا الضّرّ "أي الشدّة من الجدب والقحط، "وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ"...عن ابن إسحاق، قال: وخرجوا إلى مصر راجعين إليها ببضاعة مُزْجاة: أي قليلة، لا تبلغ ما كانوا يتبايعون به، إلاّ أن يُتَجاوز لهم فيها، وقد رأوا ما نزل بأبيهم، وتتابع البلاء عليه في ولده وبصره، حتى قدموا على يوسف. "فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أيّها العَزِيزُ" رجاء أن يرحمهم في شأن أخيهم، "مَسّنا وأهْلَنا الضّرّ". وعَنَى بقوله: "وَجِئْنا ببِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ" بدراهم أو ثمن لا يجوز في ثمن الطعام إلاّ لمن يتجاوز فيها. وأصل الإزجاء: السّوْق بالدفع... ولذلك قيل: "بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ" لأنها غير نافقة، وإنما تجوز تجويزا على وضع من آخذيها. وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك، وإن كانت معاني بيانهم متقاربة... عن ابن عباس: "بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ" قال: ردية زيوف لا تنفَق حتى يوضع منها...
"بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ":.. كاسدة غير طائل.
عن سعيد بن جبير وعكرمة: "وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ" قال سعيد: ناقصة. وقال عكرمة: دراهم فُسُول...
عن إبراهيم، في قوله: "وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ" قال: قليلة...
وقوله: "فَأَوْفِ لَنا الكَيْلَ" بها، وأعطنا بها ما كنت تعطينا قبلُ بالثمن الجيد والدراهم الجائزة الوافية التي لا تردّ...
وقوله: "وَتَصَدّقْ عَلَيْنا" يقول تعالى ذكره: قالوا: وتفضل علينا بما بين سعر الجياد والردية، فلا تنقصنا من سعر طعامك لرديّ بضاعتنا.
"إنّ اللّهَ يَجْزِي المُتَصَدّقّينَ" يقول: إن الله يثيب المتفضلين على أهل الحاجة بأموالهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...قالوا له "يا أيها العزيز "لأنهم كانوا يسمون الملك العزيز. والعزيز في اللغة هو الواسع المقدور الذي لا يهتضم، المنيع بسعة مقدوره.
"مسنا وأهلنا الضر" أي أصابنا الضر، والمس: ملابسة ما يحس، ولما كان الضر بمنزلة الملامس لهم، وهو مما يحس، عبر عنه بأنه مسه.
والاهل: خاصة الشيء الذي ينسب إليه...
قيل الأصل الدفع بالسوق فهي مدفعه لا تنفق...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما دخلوا على يوسف خاطبوه بذكر الضُّرِّ، ومقاساة الجوع والفقر، ولم يذكروا حديث يوسف عليه السلام، وما لأجله وَجَّهَهُم أبوهم. ويقال استلطفوه بقولهم: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} ثم ذكروا بعد ذلك حديث قلة بضاعتهم. ويقال لمَّا طالعوا فقرهم نطقوا بقدرهم فقالوا: وجئنا ببضاعة مزجاة -أي رديئة- ولما شاهدوا قدر يوسف سألوا على قدره فقالوا: {فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ}. ويقال قالوا كلنا كيلاً يليق بفضلك لا بفقرنا، وبكرمك لا بعدمنا، ثم تركوا هذا اللسان وقالوا: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا}: نَزَلَوا أوْضَعَ مَنْزلٍ؛ كأنهم قالوا: إنْ لم نستوجِبْ معاملةَ البيع والشراء فقد استحققنا بَذْلَ العطاءِ، على وجه المكافأة والجزاء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الضر} الهزال من الشدّة والجوع. {مُّزْجَاةٍ} مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً لها، من أزجيته إذا دفعته وطردته...
{فَأَوْفِ لَنَا الكيل} الذي هو حقنا. {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة، أو زدنا على حقنا، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة... والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا إليه أن يتصدّق عليهم، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرّفهم نفسه. وقوله: {إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} شاهد لذلك لذكر الله وجزائه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وقوله: {فلما دخلوا عليه} بالفاء يدل على أنهم أسرعوا الكرة في هذه المرة {قالوا} منادين بالأداة التي تنبه على أن ما بعدها له وقع عظيم {يا أيها العزيز}.
ولما تلطفوا بتعظيمه، ترققوا بقولهم: {مسنا} أي أيتها العصابة التي تراها {وأهلنا} أي الذين تركناهم في بلادنا {الضر} أي لابسنا ملابسة نحسها {وجئنا ببضاعة مزجاة} أي تافهة غير مرغوب فيها بوجه، ثم سببوا عن هذا الاعتراف -لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم- قولهم: {فأوف لنا} أي شفقة علينا بسبب ضعفنا {الكيل وتصدق} أي تفضل {علينا} زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه.
ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله، عللوا ذلك بقولهم: {إن الله} أي الذي له الكمال كله {يجزي المتصدقين} أي مطلقاً وإن أظهرت -بما أفاده الإظهار- وإن كانت على غنى قوي، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء عاطفة على كلام مقدّر دل عليه المقام، أي فارتحلوا إلى مصر بقصد استطلاق بنيامين من عزيز مصر ثم بالتعرض إلى التحسّس من يوسف عليه السلام، فوصلوا مصر، فدخلوا على يوسف، {فلما دخلوا عليه} الخ... وقد تقدم آنفاً وجه دعائهم يوسف عليه السلام بوصف العزيز. وأرادوا بمسّ الضر إصَابته. وقد تقدم إطلاق مسّ الضرّ على الإصابة عند قوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر} في سورة الأنعام (17). والبضاعة تقدمت آنفاً. والمزجاة: القليلة التي لا يرغب فيها فكأنّ صاحبها يُزجيها، أي يدفعها بكفة ليقبلها المدفوعة إليه. والمراد بها مال قليل للامتيار، ولذلك فرع عليه {فأوف لنا الكيل}. وطلبوا التصدّق منه تعريضاً بإطلاق أخيهم لأن ذلك فضل منه إذ صار مملوكاً له كما تقدم. وجملة {إن الله يجزي المتصدّقين} تعليل لاستدعائهم التصدّق عليهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ورجعوا من جديد إلى مصر بعد أن أمرهم أبوهم أن يعودوا إليها. ولم يكن همّهم البحث عن يوسف وأخيه، بل كان كل همّهم أن يبحثوا عن الطعام، لنفاده لديهم، وعدم وجود ثمن يكفي لشراء ما يحتاجونه منه، ولهذا كانت طريقتهم في العرض والطلب، توحي بالاستعطاف والمسكنة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والطريف أنّ إخوة يوسف لم ينفذوا وصيّة أبيهم في البحث عن إخوتهم أوّلا، بل حاولوا الحصول على الطعام، ولأجل ذلك قابلوا العزيز وطلبوا منه المؤن والحبوب، ولعلّ السبب في ذلك ضعف أملهم في العثور على يوسف، أو لعلّهم أرادوا أن يظهروا أنفسهم أمام العزيز والمصريين وكأنّهم أناس جاؤوا لشراء الطعام والحبوب فقط، فمن ثمّ يطرحوا مشكلتهم أمام العزيز ويطلبوا منه المساعدة، فعند ذاك يكون وقع الطلب أقوى واحتمال تنفيذه أكثر...