27- ثم تابعنا على آثار نوح وإبراهيم ومن سبقهما أو عاصرهما من الرسل برسلنا رسولاً بعد رسول ، واتبعناهم بإرسال عيسى ابن مريم ، وأوحينا إليه الإنجيل ، وأودعنا في قلوب المتبعين له شفقة شديدة ورقة وعطفاً ، فابتدعوا زيادة في العبادة وغلوا في التدين رهبانية ما فرضناها عليهم ابتداء ، ولكن التزموها ابتغاء رضوان الله تعالى ، فما حافظوا عليها حق المحافظة ، فأعطينا الذين آمنوا بمحمد نصيبهم من الأجر والثواب ، وكثير منهم مكذبون بمحمد خارجون عن الطاعة والطريق المستقيم .
{ ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ } والتقفيه إتباع الرسول برسول آخر يقال : قفا فلان آثر فلان . . . إذا اتبعه ، وقفى على أثره بفلان ، إذا اتبعه إباه . . . وأصله من القفا وهو مؤخر العنق . . . فكأن الذى يتبع أثر غيره قد أتاه من جهة قفاه .
وضمير الجمع فى قوله { على آثَارِهِم } يعود إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب .
أى : ثم أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول . حتى انتهينا إلى عيسى - عليه السلام - { وَآتَيْنَاهُ الإنجيل } أى : أوحيناه إليه ليكون هداية لقومه .
قالوا : والإنجيل كلمة يونانية من النجل وهو الأصل ، يقال : رحم الله ناجليه ، أى : والديه ، وقيل : الإنجيل مأخوذ من نجلت الشىء إذا استخرجته وأظهرته . ويقال للماء الذى يخرج من البئر : نجل . وقيل هو من النجل الذى هو سعة العين ، ومنه قولهم : طعنة نجلاء ، أى : واسعة .
وسمى الإنجيل بهذا الاسم ، لأنه سعة ونور وضياء ، أنزله الله - تعالى - على نبيه عيسى ، ليكون بشارة وهداية لقومه .
وأعاد - سبحانه - مع عيسى - عليه السلام - كلمة { قَفَّيْنَا } للإشعار بأن المسافة التى كانت بين عيسى - عليه السلام - وبين آخر رسول من بنى إسرائيل كانت مسافة طويلة .
ثم بين - سبحانه - بعض السمات التى كانت واضحة فى أتباع عيسى فقال : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } .
والرأفة : اللين وخفض الجناح ، والرحمة . العطف والشفقة .
قالوا : وعطف الرحمة على الرأفة من باب عطف العام على الخاص ، لأن الرأفة ، رحمة خاصة ، تتعلق بدفع الأذى والضر . أما الرحمة فهى أشمل وأعم ، لأنها عطف وشفقة على كل من كان فى حاجة إليه .
و " الرهبانية " معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان . وهم النصارى المبالغون فى الرهبة والخوف من الله - تعالى - والزهد فى متاع الحياة الدنيا .
قال بعض العلماء : والرهبانية : اسم للحالة التى يكون عليها الراهب متصفا بها فى غالب شئون دينه ، والياء فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس ، لأن قياس النسب إلى الراهب : الراهبية ، والنون فيها مزيدة للمبالغة فى النسبة ، كما زيدت فى قولهم : شعرانى ، لكثير الشعر ، ولحيانى لعظيم اللحية .
وقوله - تعالى - : { ورهبانية ابتدعوها . . . منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر .
أى : وابتدعوها رهبانية ابتدعوها ، فهو من باب الاشتغال .
ويصح أن يكون معطوفا على قوله : { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } وقوله : { ابتدعوها } فى موضع الصفة ، والكلام على حذف مضاف ، أى : وجعلنا فى قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة لهم .
وجملة : ما كتبناها عليهم ، مستأنفة مبينة لجملة { ابتدعوها } .
والاستثناء فى قوله : { إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } منقطع .
والضمير فى قوله : { فَمَا رَعَوْهَا } يعود لهؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية .
والمعنى : ثم أتبعنا كل رسول من ذرية نوح وإبراهيم برسول آخر ، حتى انتهينا إلى عيسى - عليه السلام - فأرسلناه إلى بنى إسرائيل وآتيناه الإنجيل وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه وآمنوا به { رَأْفَةً } أى لينا وخفض جناح { وَرَحْمَةً } أى : شفقة وعطفا ، وحب رهبانية مبتدعة منهم ، أى : هم الذين ابتدعوها واخترعوها واختاروها لأنفسهم ، زهداً فى متاع الحياة الدنيا .
ونحن ما كتبنا هذه الرهبانية ، وإنما هم الذين ابتدعوها من أجل أن يرضى الله عنهم { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أى : ولكنهم بمرور الأيام ، لم يحافظ كثير منهم على ما تقتضيه هذه الرهبانية من زهد وتقى وعفاف . . . بل صارت طقوسا خالية من العبادة الصحيحة ، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم .
ولذا ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
أى : أما الذين استمروا على اتباعهم لعيسى - عليه السلام - وعلى الإيمان بالحق إيمانا صحيحا خاليا مما يفسده . . . فقد أعطيناهم أجورهم الطيبة كاملة غير منقوصة .
وأما الذين بدلوا ما جاء به عيسى - عليه السلام - حيث كفروا به وقالوا : الله ثالث ثلاثة ، أو قالوا : المسيح ابن الله فسيلقون ما يستحقونه من عقاب .
وقوله : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } يدل على أن الذين خرجوا عن الدين الحق الذى جاء به عيسى - عليه السلام - وفسقوا عن أمر ربهم . . . أكثر من الذين آمنوا به إيمانا صحيحا .
قال الإمام ابن جرير : واختلف أهل التأويل فى الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها . فقال بعضهم : هم الذين ابتدعوها ، ولم يقوموا بها ، ولكنهم بدلوا وخالفوا دين الله الذى بعث به عيسى ، فتنصروا وتهودوا .
وقال آخرون : بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حق رعايتها ، لأنهم كانوا كفارا . . . فهم الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها .
وأولى الأقوال فى ذلك بالصحة أن يقال : إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها ، بعض الطوائف التى ابتدعتها ، وذلك لأن الله - تعالى - قد أخبر أنه أتى الذين آمنوا منهم أجرهم ، فدل ذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها .
وكثير منهم - أى : من الذين ابتدعوا الرهبانية - أهل معاص ، وخروج عن طاعة الله - تعالى - وعن الإيمان به .
وقال الإمام الآلوسى ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } جملة مستأنفة .
وقوله - سبحانه - : { إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } استثناء منقطع ، أى : ما فرضناها نحن عليهم رأسا ، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان الله .
وقوله - تعالى - : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أى : ما حافظوا عليها حق المحافظة ، ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر ، وهو عهد مع الله - تعالى - يجب رعايته ، لا سيما إذا قصد به رضاه - عز وجل .
وجائز أن يكون الاستثناء متصلا من أعم العلل . أى : ما قضيناها عليهم لشىء من الأشياء ، إلا ليبتغوا بها رضوان الله ، ويستحقوا بها الثواب ، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها . . . إلا أنهم لم يحافظوا عليها ، ولم يرعوها حق رعايتها .
والفرق بين الوجهين : أن الأول يقتضى أنهم لم يؤمروا بها أصلا ، وأن الثانى يقتضى أنهم أمروا بها ، لابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها .
والظاهر أن الضمير فى قوله { فَمَا رَعَوْهَا } يعود لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية ، والمراد نفى وقوع الرعاية من جميعهم ، أى : فما رعاها كلهم بل بعضهم .
فالآية الكريمة تثنى على الذين أحسنوا اتباع عيسى - عليه السلام - فطهروا أرواحهم من كل دنس ، وزهدوا فى متع الحياة الدنيا . . . وتذم الذين بدلوا ما جاء به عيسى - عليه السلام - وقالوا الأقوال الباطلة فى شأنه ، وفعلوا الأفعال القبيحة التى تغضب الله - تعالى - :
وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } وهم الحواريون { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } أي : رأفة وهي الخشية { وَرَحْمَةً } بالخلق .
وقوله : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } أي : ابتدعتها أمة النصارى { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي : ما شرعناها لهم ، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم .
وقوله : { إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } فيه قولان ، أحدهما : أنهم قصدوا بذلك رضوان الله ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة . والآخر : ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله .
وقوله : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي : فما قاموا بما التزموه حق القيام . وهذا ذم لهم من وجهين ، أحدهما : في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله . والثاني : في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله ، عز وجل .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي ، حدثنا السندي بن عبدويه{[28314]} حدثنا بُكَيْر بن معروف ، عن مُقاتِل بن حَيَّان ، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، عن جده بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ابن مسعود " . قلت : لبيك يا رسول الله . قال : " هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق ، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقاتلت الجبابرة فقُتلت فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ، فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران ، فصبرت ونجت . ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط ، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت ، وهم الذين ذكرهم الله ، عز وجل : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } {[28315]}
وقد رواه ابن جرير بلفظ آخر من طريق أخرى فقال : حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا داود بن المحبر ، حدثنا الصَّعِق بن حَزْن ، حدثنا عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن سُوَيْد بن غفلة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اختلف من كان قبلنا على ثلاث وسبعين فرقة ، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم . . . " وذكر نحو ما تقدم ، وفيه : " { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } هم الذين آمنوا بي وصدقوني { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } وهم الذين كذبوني وخالفوني " {[28316]}
ولا يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبر ، فإنه أحد الوضاعين للحديث ، ولكن{[28317]} قد أسنده أبو يعلى ، وسنده{[28318]} عن شيبان بن فَرُّوخ ، عن الصَّعِق بن حَزْن ، به مثل ذلك {[28319]} فقوي الحديث من هذا الوجه .
وقال ابن جرير ، وأبو عبد الرحمن النسائي - واللفظ له - : أخبرنا الحسين بن حُرَيْث ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان بن سعيد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[28320]} قال : كان ملوك بعد عيسى ، عليه السلام ، بدلت التوراة والإنجيل ، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ، فقيل لملوكهم : ما نجد شيئًا أشد من شتم يشتمونا هؤلاء ، إنهم يقرؤون : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] ، هذه {[28321]} الآيات ، مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم ، فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ ، وليؤمنوا كما آمنا . فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل ، إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك ؟ دعونا : فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم . وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا . وقالت طائفة : ابنوا لنا دورًا في الفيافي ، ونحتفر الآبار ونحترث{[28322]} البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم . وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم ، ففعلوا ذلك فأنزل الله ، عز وجل : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } والآخرون قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ، ونتخذ دورًا كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم{[28323]} فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل ، انحط منهم رجل من صومعته ، وجاء سائح من سياحته ، وصاحب الدير من ديره ، فآمنوا به وصدقوه ، فقال الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم والتوراة والإنجيل ، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم قال{[28324]} { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] : القرآن ، واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } الذين يتشبهون بكم { أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } {[28325]}
هذا السياق فيه غرابة ، وسيأتي تفسير هاتين الآيتين الأخريين على غير هذا ، والله أعلم .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن عيسى ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء : أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير ، وهو يصلي صلاة خفيفة{[28326]} كأنها صلاة مسافر أو قريبًا منها ، فلما سلم قال : يرحمك الله ، أرأيت هذه الصلاة المكتوبة ، أم شيء تنفلته ؟ قال : إنها المكتوبة ، وإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئًا سهوت عنه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم ، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " . ثم غدوا من الغد فقالوا : نركب فننظر ونعتبر قال : نعم فركبوا جميعًا ، فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا ، خاوية على عروشها فقالوا : تعرف هذه الديار ؟ قال : ما أعرفني بها وبأهلها . هؤلاء أهل الديار ، أهلكهم البغي والحسد ، إن الحسد يطفئ نور الحسنات ، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه ، والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه{[28327]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعمُر ، حدثنا عبد الله ، أخبرنا سفيان ، عن زيد العَمِّي ، عن أبي إياس ، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل نبي رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل " {[28328]}
ورواه الحافظ أبو يعلى ، عن عبد الله بن محمد بن أسماء ، عن عبد الله بن المبارك به ولفظه : " لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " {[28329]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين - هو ابن محمد - حدثنا ابن عياش - يعني إسماعيل - عن الحجاج بن مروان{[28330]} الكلاعي ، وعقيل بن مدرك السلمي ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رجلا جاءه فقال : أوصني فقال : سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك ، أوصيك بتقوى الله ، فإنه رأس كل شيء ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن ، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض . تفرد به أحمد{[28331]}
قد تقدم في رواية النسائي عن ابن عباس : أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب ، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما في الآية التي في القصص{[28332]} وكما في حديث الشعبي عن أبي بُرْدَة ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مَوَاليه فله أجران ، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " . أخرجاه في الصحيحين{[28333]}
ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك ، وعتبة بن أبي حكيم ، وغيرهما ، وهو اختيار ابن جرير .
{ ثم } للتراخي الترتبي لأن بعثه رسل الله الذين جاءوا بعد نوح وإبراهيم ومن سَبق من ذريتهما أعظمُ مما كان لدى ذرية إبراهيم قبل إرسال الرسل الذين قفّى الله بهم ، إذ أرسلوا إلى أمم كثيرة مثل عاد وثمود وبني إسرائيل وفيهم شريعة عظيمة وهي شريعة التوراة .
والتقفية : إتْباع الرسول برسول آخر ، مشتقة من القَفا لأنه يأتي بعده فكأنه يمشي عن جهة قفاه ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل } في سورة [ البقرة : 87 ] .
والآثار : جمع الأثر ، وهو ما يتركه السائر من مواقع رجليه في الأرض ، قال تعالى : { فارتدا على آثارهما قصصاً } [ الكهف : 64 ] .
وضمير الجمع في قوله : { على آثارهم } عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوءة والكتاب ، فأما الذين كانت فيهم النبوءة فكثيرون ، وأما الذين كان فيهم الكتاب فمثل بني إسرائيل .
و ( على ) للاستعلاء . وأصل ( قفى على أثره ) يدل على قرب ما بين الماشِيين ، أي حضر الماشي الثاني قبل أن يزول أثر الماشي الأول ، وشاع ذلك حتى صار قولهم : على أثره ، بمعنى بعده بقليل أو متصلاً شأنه بشأن سابقه ، وهذا تعريف للأمة بأن الله أرسل رسلاً كثيرين على وجه الإجمال وهو تمهيد للمقصود من ذكر الرسول الأخير الذي جاء قبل الإسلام وهو عيسى عليه السلام .
وفي إعادة فعل { قفينا } وعدم إعادة { على آثارهم } إشارة إلى بُعد المدة بين آخر رسل إسرائيل وبين عيسى فإن آخر رسل إسرائيل كان يونس بن متَّى أرسل إلى أهل نَيْنَوى أول القرن الثامن قبل المسيح فلذلك لم يكن عيسى مرسلاً على آثار من قبله من الرسل .
والإنجيل : هو الوحي الذي أنزله الله على عيسى وكتَبه الحواريون في أثناء ذكر سيرته .
والإِنجيل : بكسر الهمزة وفتحها معرّب تقدم بيانه أول سورة آل عمران . ومعنى جَعْل الرأفة والرحمة في قلوب الذين اتّبعوه أن تعاليم الإنجيل الذي آتاه الله عيسى أمرتهم بالتخلق بالرأفة والرحمة فعملوا بها ، أو إن ارتياضهم بسيرة عيسى عليه السلام أرسخَ ذلك في قلوبهم وذلك بجعل الله تعالى لأنه أمرهم به ويسّره عليهم .
ذلك أن عيسى بُعث لتهذيب نفوس اليهود واقتلاع القسوة من قلوبهم التي تخلقوا بها في أجيال طويلة قال تعالى : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة } في سورة [ البقرة : 74 ] .
والرأفة : الرحمة المتعلقة بدفع الأذى والضرّ فهي رحمة خاصة ، وتقدمت في قوله تعالى : { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } في سورة [ البقرة : 143 ] وفي قوله : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } في سورة [ النور : 2 ] .
والرحمة : العطف والملاينة ، وتقدمت في أول سورة الفاتحة .
فعطف الرحمة على الرأفة من عطف العام على الخاص لاستيعاب أنواعه بعد أن اهتم ببعضها .
والرهبانية : اسم للحالة التي يكون الراهب متصفاً بها في غالب شؤون دينه ، والياء فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس لأن قياس النسب إلى الراهب الراهبية ، والنون فيها مزيدة للمبالغة في النسبة كما زيدت في قولهم : شَعْراني ، لكثير الشعر ، ولحياني لعظيم اللحية ، ورُوحاني ، ونَصراني .
وجعل في « الكشاف » النون جائية من وصف رُهبان مثل نون خشيان من خشي والمبالغة هي هي ، إلا أنها مبالغة في الوصف لا في شدة النسبة .
والهاء هاء تأنيث بتأويل الاسم بالحالة وجعل في « الكشاف » الهاء للمرة .
وأما اسم الراهب الذي نسبت إليه الرهبانية فهو وصف عومل معاملة الاسم ، وهو العابد من النصارى المنقطع للعبادة ، وهو وصف مشتق من الرهَب : أي الخوف لأنه شديد الخوف من غضب الله تعالى أو من مخالفة دين النصرانية . ويلزم هذه الحالة في عرف النصارى العزلة عن الناس تجنباً لما يشغل عن العبادة وذلك بسكنى الصوامع والأديرة وترك التزوج تجنباً للشواغل ، وربما أوجبت بعض طوائف الرهبان على الراهب تَرك التزوج غلوا في الدين .
وجعل في « الكشاف » : الرهبانية مشتقة من الرهب ، أي الخوف من الجبابرة ، أي الذين لم يؤمنوا بعيسى عليه السلام من اليهود ، وأن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعيسى فقاتلوهم ثلاث مرات فَقُتِلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل ، فخافوا أن يفتنوا في دينهم فاختاروا الرهبانية وهي ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين اه .
وأول ما ظهر اضطهاد أتباع المسيح في بلاد اليهودية ، فلما تفرق أتباع المسيح وأتباعهم في البلدان ناواهم أهل الإِشراك والوثنية من الروم حيث حلّوا من البلاد التابعة لهم فحدثت فيهم أحوال من التقية هي التي دعاها صاحب « الكشاف » بمقاتلة الجبابرة .
فالراهب يمتنع من التزوج خيفة أن تشغله زوجه عن عبادته ، ويمتنع من مخالطة الأصحاب خشية أن يلهوه عن العبادة ، ويترك لذائذ المآكل والملابس خشية أن يقع في اكتساب المال الحرام ، ولأنهم أرادوا التشبه بعيسى عليه السلام في الزهد في الدنيا وترك التزوج ، فلذلك قال الله تعالى : { ابتدعوها } ، أي أحدثوها فإن الابتداع الإِتيان بالبدعة والبِدَععِ وهو ما لم يكن معروفاً ، أي أحدثوها بعد رسولهم فإن البدعة ما كان محدثاً بعد صاحب الشريعة .
ونصب { رهبانية } على طريقة الاشتغال . والتقدير : وابتدعوا رهبانية وليس معطوفاً على { رأفة ورحمة } لأن هذه الرهبانية لم تكن مما شرع الله لهم فلا يستقيم كونها مفعولاً ل { جعلنا } ، ولأن الرهبانية عمل لا يتعلق بالقلوب وفعل { جعلنا } مقيد ب { في قلوب الذين اتبعوه } فتكون مفعولاته مقيدة بذلك ، إلا أن يتأول جعلها في القلوب بجعل حبها كقوله تعالى : { وأشربوا في قلوبهم العجل } [ البقرة : 93 ] .
وعلى اختيار هذا الإعراب مَضى المحققون مثل أبي علي الفارسي والزجاج والزمخشري والقرطبي . وجوز الزمخشري أن يكون عطفاً على { رأفة ورحمة } .
واتهم ابن عطية هذا الإعراب بأنه إعراب المعتزلة فقال : « والمعتزلة تعرب { رهبانية } أنها نصب بإضمار فعل يفسره { ابتدعوها } ويذهبون في ذلك إلى أن الإِنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على هذا » اه . وليس في هذا الإِعراب حجة لهم ولا في إبطاله نفع لمخالفتهم كما علمت .
وإنما عطفت هذه الجملة على جملة { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } لاشتراك مضمون الجملتين في أنه من الفضائل المراد بها رضوان الله .
والمعنى : وابتدعوا لأنفسهم رهبانية ما شرعناها لهم ولكنهم ابتغوا بها رضوان الله فقبلها الله منهم لأن سياق حكاية ذلك عنهم يقتضي الثناء عليهم في أحوالهم .
وضمير الرفع من ابتدعوها عائد إلى الذين اتبعوا عيسى . والمعنى : أنهم ابتدعوا العمل بها فلا يلزم أن يكون جميعهم اخترع أسلوب الرهبانية ولكن قد يكون بعضهم سنها وتابَعَه بقيتهم .
والذين اتبعوه صادق على من أخذوا بالنصرانية كلهم ، وأعظم مراتبهم هم الذين اهتدوا بسيرته اهتداء كاملاً وانقطعوا لها وهم القائمون بالعبَادة .
والإِتيان بالموصول وصلته إشعار بأن جعل الرأفة والرحمة في قلوبهم متسبب عن اتباعهم سيرته وانقطاعهم إليه .
وجملة { ما كتبناها عليهم } مبينة لجملة { ابتدعوها } ، وقوله : { إلا ابتغاء رضوان الله } احتراس ، ومجموع الجمل الثلاث استطراد واعتراض .
والاستثناء بقوله : { إلا ابتغاء رضوان الله } معترض بين جملة { ما كتبناها عليهم } وجملة { فما رَعَوْها } .
وهو استثناء منقطع ، والاستثناء المنقطع يشمله حكم العامل في المستثنى منه وإن لم يشمله لفظ المستثنى منه فإن معنى كونه منقطعاً أنه منقطع عن مدلول الاسم الذي قبله ، وليس منقطعاً عن عامله ، فالاستثناء يقتضي أن يكون ابتغاء رضوان الله معمولاً في المعنى لفعل { كتبناها } فالمعنى : لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله ، أي أن يبتغوا رضوان الله بكل عمل لا خصوص الرهبانية التي ابتدعوها ، أي أن الله لم يكلفهم بها بعينها .
وقوله : { إلا ابتغاء رضوان الله } يجوز أن يكون نفياً لتكليف الله بها ولو في عموم ما يشملها ، أي ليست مما يشمله الأمر برضوان الله تعالى وهم ظنوا أنهم يرضون الله بها . ويجوز أن يكون نفياً لبعض أحوال كتابة التكاليف عليهم وهي كتابة الأمر بها بعينها فتكون الرهبانية مما يبتغَى به رضوان الله ، أي كتبوها على أنفسهم تحقيقاً لما فيه رضوان الله ، فيكون كقوله تعالى : { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } [ آل عمران : 93 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " شَدّدوا فشدّد الله عليهم " في قصة ذبح البقرة . وهذا هو الظاهر من الآية .
وانتصب { إِلاَّ } على المفعول به لفعل { مَا } ، ولك أن تجعله مفعولاً لأجله بتقدير فعل محذوف بعد حرف الاستثناء ، أي لكنهم ابتدعوها لابتغاء رضوان الله .
وفي الآية على أظهر الاحتمالين إشارة إلى مشروعية تحقيق المناط وهو إثبات العلة في آحاد جزئياتها وإثباتُ القاعدة الشرعية في صورها .
وفيها حجة لانقسام البدعة إلى محمودة ومذمومة بحسب اندراجها تحت نوع من أنواع المشروعية فتعْتريها الأحكام الخمسة كما حققه الشهاب القرافي وحذاق العلماء . وأما الذين حاولوا حصرها في الذم فلم يجدوا مصرفاً . وقد قال عمر لما جمع الناس على قارىء واحد في قيام رمضان « نعمت البدعة هذه » .
وقد قيل : إنهم ابتدعوا الرهبانية للانقطاع عن جماعات الشرك من اليونان والروم وعن بطش اليهود ، وظاهر أن ذلك طلب لرضوان الله كما حكى الله عن أصحاب الكهف { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف } [ الكهف : 16 ] .
وفي الحديث : " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتتبع بها شَعَف الجبال ومواقعَ القَطر يَفرّ بدينه من الفِتَن " ، وعليه فيكون تركهم التزوج عارضاً اقتضاه الانقطاع عن المدن والجماعات فظنه الذين جاءوا من بعدهم أصلاً من أصول الرهبانية .
وأما ترك المسيح التزوج فلعله لعارض آخر أمره الله به لأجله ، وليس ترك التزوج من شؤون النبوءة فقد كان لجميع الأنبياء أزواج قال تعالى : { وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } [ الرعد : 38 . ]
وقيل : إن ابتداعهم الرهبانية بأنهم نذروها لله وكان الانقطاع عن اللذائذ وإعناتُ النفس من وجوه التقرب في بعض الشرائع الماضية بقيت إلى أن أبطلها الإسلام في حديث النذر في « الموطأ » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس صامتاً فسأل عنه فقالوا : نذر أن لا يتكلم ولا يستظل وأن يصوم يومه فقال : مُروه فليتكلمْ وليستظل وليُتِمَّ صومه إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغني » . وقد مضى في سورة [ مريم : 26 ] قوله تعالى : { فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً ولا تنافي بين القولين لأن أسباب الرهبانية قد تتعدد باختلاف الأديان . وقد فُرع على قوله : { ابتدعوها } و { ما كتبناها عليهم } وما بعده قوله : { فما رعوها حق رعايتها } أي فترتب على التزامهم الرهبانية أنهم ، أي الملتزِمين للرهبانية ما رعوها حق رعايتها . وظاهر الآية أن جميعهم قصروا تقصيراً متفاوتاً ، قصروا في أداء حقها ، وفيه إشعار بأن ما يكتبه الله على العباد من التكاليف لا يشق على الناس العمل به .
والرعي : الحفظ ، أي ما حفظوها حق حفظها ، واستعير الحفظ لاستيفاء ما تقتضيه ماهية الفعل ، فالرهبانية تحوم حول الإِعراض عن اللذائذ الزائلة وإلى التعود بالصبر على ترك المحبوبات لئلا يشغله اللهو بها عن العبادة والنظرِ في آيات الله ، فإذا وقع التقصير في التزامها في بعض الأزمان أو التفريط في بعض الأنواع فقد انتفى حق حفظها .
و { حق رعايتها } من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي رعايتها الحق .
وحق الشيء : هو وقوعه على أكمل أحوال نوعه ، وهو منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع .
والمعنى : ما حفظوا شؤون الرهبانية حفظاً كاملاً فمصبّ النفي هو القيد بوصف { حق رعايتها } .
وهذا الانتفاء له مراتب كثيرة ، والكلام مسوق مساق اللوم على تقصيرهم فيما التزموه أو نذروه ، وذلك تقهقر عن مراتب الكمال وإنما ينبغي للمتقي أن يكون مزداداً من الكمال .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم « أحب الدين إلى الله أدْوَمه » . وقوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } تفريع على جملة { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } إلى آخره وما بينهما استطراد .
والمراد ب { الذين آمنوا } المتصفون بالإِيمان المصطلح عليه في القرآن ، وهو توحيد الله تعالى والإِيمانُ برسله في كل زمان ، أي فآتينا الذين آمنوا من الذين اتبعوه أجرهم ، أي الذين لم يخلطوا متابعتهم إياه بما يفسدها مثل الذين اعتقدوا إلهية عيسى عليه السلام أو بنوتَه لله ، ونحوهم من النصارى الذين أدخلوا في الدين ما هو مناقض لقواعده وهم كثير من النصارى كما قال : { وكثير منهم فاسقون } .
والمراد بالفسق : الكفر وهذا ثناء على المؤمنين الصادقين ممن مضوا من النصارى قبل البعثة المحمدية وبلوغ دعوتها إلى النصارى ، وادعاؤهم أنهم أتباع المسيح باطل لأنهم ما اتبعوه إلا في الصورة والذين أفسدوا إيمانهم بنقض حصوله هم المراد بقوله تعالى : { وكثير منهم فاسقون } ، أي وكثير من الذين التزموا دينه خارجون عن الإِيمان ، فالمراد بالفسق ما يشمل الكفر وما دونه مثل الذين بدلوا الكتاب واستخفوا بشرائعه كما قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله } [ التوبة : 34 ] .