ثم بين - سبحانه - ما يفعلونه بعد حلهم وخروجهم من الإحرام فقال : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق } .
والمراد بالقضاء هنا : الإزالة ، وأصله القطع والفصل ، فأريد به الإزالة على سبيل المجاز .
والتفث : الوسخ والقذر ، كطول الشعر والأظفار يقال : تَفِث فلان - كفرح - يتفَث تفثا فهو تفث ، إذا ترك الاغتسال والتطيب والتنظيف فأصابته الأوساخ .
والمراد بالطواف هنا : طواف الإفاضة ، الذى هو أحد أركان الحج ، وبه يتم التحلل .
والعتيق : القديم حيث إنه أول بيت وضع لعبادة الله فى الأرض ، وقيل سمى بالعتيق لأن الله - تعالى - أعتقه من أ ، يتسلط عليه جبار فيهدمه أو يخربه .
والمعنى : ثم بعد حلهم وبعد الإتيان بما عليهم من مناسك . فليزيلوا عنهم أدرانهم وأوساخهم ، وليوفوا نذورهم التى نذروها لله - تعالى - فى حجهم ، وليطوفوا طواف الإفاضة ، بهذا البيت القديم الذى جعله الله - تعال - أول بيت لعبادته ، وصانه من اعتداء كل جبار أثيم .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد توعدت كل من يصد الناس عن هذا البيت بأشد ألوان الوعيد ، وبينت أن الناس فيه سواء ، وتحدثت عن جانب من فضله - سبحانه -على نبيه إبراهيم - عليه السلام - حيث أرشده إلى مكان هذا البناء ، وشرفه بتهيئته ليكون أول مكان لعبادته - تعالى - ، وأمره بأن ينادى فى الناس بالحج إليه ، ليشهدوا منافع عظيمة لهم .
وقوله : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو وضع [ الإحرام ]{[20161]} من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ، ونحو ذلك . وهكذا روى عطاء ومجاهد ، عنه . وكذا قال عكرمة ، ومحمد بن كعب القُرَظي .
وقال عكرمة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال : التفث : المناسك .
وقوله : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : نحر ما نذر من أمر البُدن .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } :{[20162]} نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج .
وقال إبراهيم بن مَيْسَرَة ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قال : الذبائح .
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } كل نذر إلى أجل .
وقال عكرمة : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ، قال : [ حجهم .
وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان في قوله : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قال : ] {[20163]} نذر الحج ، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه : الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ، وعرفة ، والمزدلفة ، ورمي الجمار ، على ما أمروا به . وروي عن مالك نحو هذا .
وقوله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : قال مجاهد : يعني : الطواف الواجب يوم النحر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أبي حمزة قال : قال لي ابن عباس : أتقرأ سورة الحج ؟ يقول{[20164]} الله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت .
قلت : وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة ، فرماها بسبع حصيات ، ثم نحر هديه ، وحلق رأسه ، ثم أفاض فطاف بالبيت . وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض{[20165]} .
وقوله : { بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر ؛ لأنه من أصل{[20166]} البيت الذي بناه إبراهيم ، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت ، حين قصرت بهم النفقة ؛ ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحِجْر ، وأخبر أن الحجر من البيت ، ولم يستلم الركنين الشاميين ؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني ، حدثنا سفيان ، عن هشام بن حُجْر ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه{[20167]} .
وقال قتادة ، عن الحسن البصري في قوله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ قال ]{[20168]} : لأنه أول بيت وضع للناس . وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وعن عكرمة أنه قال : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح .
وقال خَصِيف : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط .
وقال ابن أبي نَجِيح وليث عن مجاهد : أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه . وكذا قال قتادة .
وقال حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد : لأنه لم يُرِده أحد بسوء إلا هلك .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن الزبير قال : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة{[20169]} .
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد ، حدثنا عبد الله بن صالح ، أخبرني الليث ، عن عد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار " .
وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن سهل النجاري{[20170]} ، عن عبد الله بن صالح ، به{[20171]} . وقال : إن كان صحيحًا وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري ، مرسلا{[20172]} .
اختلفت القراءة في سكون اللام في قوله تعالى : { ليقضوا وليوفوا وليطوفوا } وفي تحريك جميع ذلك بالكسر وفي تحريك «ليقضوا » وتسكين الاثنين وقد تقدم في قوله : { فليمدد }{[8363]} [ الحج : 15 ، مريم : 75 ] بسبب توجيه جميع ذلك ، و «التفث » ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعث ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث{[8364]} وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضى التفث إلا بعد ذلك ، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «وليوَفّوا » بفتح الواو وشد الفاء ، ووفى وأوفى لغتان مستعملتان في كتاب الله تعالى ، وأوفى أكثر{[8365]} . و «النذور » ما معهم من هدي وغيره ، والطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج ، قال الطبري لا خلاف بين المتأولين في ذلك ، قال مالك : هو واجب يرجع تاركه من وطنه إلا أن يطوف طواف وداع فإنه يجزئه منه .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل بحسب الترتيب أن تكون الإشارة إلى طواف الوادع إذ المستحسن أن يكون ولا بد ، وقد أسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال : سألت زهيراً{[8366]} عن قوله تعالى : { وليطوفوا } بالبيت العتيق } فقال : هو طواف الوداع ، وقال مالك في الموطأ واختلف المتألون في وجه صفة البيت ب { العتيق } ، فقال مجاهد والحسن { العتيق } القديم يقال سيف عتيق وقد عتق الشيء ، قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول يعضده النظر إذ هو أول بيت وضع للناس إلا أن ابن الزبير قال : سمي عتيقاً لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة بمنعه إياه منهم وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نظر مع الحديث{[8367]} ، وقال فرقة : سمي عتيقاً لأنه لم يملك موضعه قط ، وقالت فرقة : سمي عتيقاً لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب ، قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا يرد التصريف{[8368]} : وقيل : سمي عتيقاً لأنه أعتق من غرق الطوفان ، قاله ابن جبير ، ويحتمل أن يكون { العتيق } صفة مدح تقتضي جودة الشيء كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «حملت على فرس عتيق » الحديث{[8369]} ونحوه قولهم كلام حر وطين حر .