ثم بين - سبحانه - حقيقة أمرهم فى الآخرة بصورة أكثر تفصيلا . فقال : { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة . . } .
وقوله - تعالى - { بَلِ ادارك . . . } قرأه الجمهور - بكسر اللام وتشديد الدال وبعدها ألف - وأصله تدارك ، بزنة تفاعل .
وللعلماء فى تفسير هذه الآية أقوال أشهرها : أن التدارك بمعنى الاضمحلال والفناء ، وأصله التتابع والتلاحق . يقال : تدارك بنو فلان ، إذا تتابعوا فى الهلاك ، و " فى " بمعنى الباء .
أى : بل تتابع علم هؤلاء المشركين بشئون البعث حتى اضمحل وفنى ، ولم يبق لهم علم بشىء مما سيكون فيها قطعا مع توافر أسبابه ومباديه من الدلائل .
والمقصود : أن أسباب علمهم بأحوال الآخرة مع توافرها قد تساقطت من اعتبارهم لكفرهم بها ، فَأُجْرِى ذلك مُجْرَى تتابعها فى الانقطاع .
ومنهم من يرى أن التدارك هنا التكامل ، فيكون المعنى : بل تكامل علمهم بشئون الآخرة ، حين يعاينون ما أعد لهم من عذاب ، بعد أن كانوا ينكرون البعث والحساب فى الدنيا .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة } إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره . . . والمعنى : بل تتابع علمهم فى شأن الآخرة ، التى ما ذكر من البعث حال من أحوالها ، حتى انقطع وفنى ، ولم يبق لهم علم بشىء مما سيكون فيها قطعا ، مع توفر أسبابه ، فهو ترق من وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش . . . وجوز أن يكون " ادارك " بمعنى استحكم وتكامل . . .
ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للقولين ، على معنى أن المشركين اضمحل علمهم بالآخرة لكفرهم بها فى الدنيا ، فإذا ما بعثوا يوم القيامة وشاهدوا العذاب ، أيقنوا بحقيقتها ، وتكامل علمهم واستحكم بأن ما كانوا ينكرونه فى الدنيا . قد صار حقيقة لا شك فيها ، ولا مفر لهم من عذابها . .
ومن الآيات التى توضح هذا المعنى قوله - تعالى - : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } أى : علمك بما كنت تنكره فى الدنيا قد صار فى نهاية القوة والوضوح .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( بل أدرك علمهم فى الآخرة ) - بسكون اللام من بل . وهمزة قطع مفتوحة مع سكون الدال فى " أَدْرَك " فهو بزنة أفعل .
أى : بل كمل علمهم فى الآخرة ، وذلك بعد أن شاهدوا أهوالها ، ورأوها بأعينهم ، وقد كانوا مكذبين فها فى الدنيا .
وقوله - سبحانه - : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } بيان لأحوالهم فى الدنيا .
أى : أن هؤلاء المشركين كانوا فى الدنيا يشكون فى الآخرة ، بل كانوا فى عمى عنها ، بحيث لا يفتحون بصائرهم أو أبصارهم ، عما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بشأنها .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد انتقلت فى تصوير كفر هؤلاء المشركين بالآخرة ، من حالة شنيعة إلى حالة أخرى أشد منها فى الشناعة والجحود .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هذه الإضرابات الثلاثة ما معناها ؟ قلت : ما هى إلا تنزيل لأحوالهم ؛ وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم لا يعلمون بأن القيامة كائنة ، ثم إنهم يخبطون فى شك ومرية ، فلا يزيلونه مع أن الإزالة مستطاعة . . . ثم بما هم أسوأ حالا وهو العمى ، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه ، لا يخطر بباله حق ولا باطل ، ولا يفكر فى عاقبة .
وقوله : { بَلِ ادَّارَكَ{[22137]} عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } أي : انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها .
وقرأ آخرون : " بل أدرك{[22138]} علمهم " ، أي : تساوى علمهم في ذلك ، كما في الصحيح لمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل - وقد سأله عن وقت الساعة - ما المسؤول عنها بأعلم من السائل{[22139]} أي : تساوى في العجز عن دَرْك ذلك علم المسؤول والسائل .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَة } أي : غاب .
وقال قتادة : { بَلِ ادَّارَكَ{[22140]} عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ } يعني : يُجَهِّلهم{[22141]} ربهم ، يقول : لم ينفذ{[22142]} لهم إلى الآخرة علم ، هذا قول .
وقال ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : " بل أدرك علمهم في الآخرة " حين لم ينفع العلم ، وبه قال عطاء الخراساني ، والسدي : أن علمهم إنما يُدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك ، كما قال تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ مريم : 38 ] .
وقال سفيان ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن أنه كان يقرأ : " بل أدرك علمهم " قال : اضمحل علمهم في الدنيا ، حين عاينوا الآخرة .
وقوله : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } عائد على الجنس ، والمراد الكافرون ، كما قال تعالى : { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } [ الكهف : 48 ] أي : الكافرون منكم . {[22143]} وهكذا قال هاهنا : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } أي : شاكُّون في وجودها ووقوعها ، { بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ } أي : في عمَاية وجهل كبير في أمرها وشأنها .
وقرأ جمهور القراء «بل ادارك » أصله تدارك أدغمت التاء في الدال بعد أن أبدلت ثم احتيج إلى ألف الوصل ، وقرأ أبي بن كعب فيما روي عنه «تدارك » فيما روي عنه{[9054]} ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «بل ادرك » على وزن افتعل{[9055]} وهي بمعنى تفاعل ، وقرأ سليمان بن يسار{[9056]} وعطاء بن يسار{[9057]} «بلَ ادّرك » بفتح اللام ولا همزة تشديد الدال دون ألف{[9058]} ، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل مكة ، «بل أدرك »{[9059]} ، وقرأ مجاهد «أم أدرك » بدل «بل » ، وفي مصحف أبي بن كعب «أم تدارك علمهم »{[9060]} ، وقرأ ابن عباس «بل أدرك »{[9061]} وقرأ ابن عباس أيضاً «بل آدارك » بهمزة ومدة على جهة الإستفهام{[9062]} ، وقرأ ابن محيصن «بل آدرك » على الاستفهام ونسبها أبو عمرو الداني إلى ابن عباس والحسن{[9063]} .
فأما قراءة الاستفهام فهي على معنى الهزء بالكفر والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم أي أعلموا أمر الآخرة وأدركها علمهم ؟ وأما القراءات المتقدمة{[9064]} فتحتمل معنيين أحدهما «بل أدرك علمهم » أي تناهى كما تقول أدرك النبات وغيره وكما تقول هذا ما أدرك علمي من كذا وكذا فمعناه قد تتابع وتناهى علمهم بالآخرة إلى أن لا يعرفوا لها مقداراً فيؤمنوا ، وإنما لهم ظنون كاذبة أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتاً وكذلك «ادرك وتدارك » وسواها وإن جملت هذه القراءة معنى التوقيف والإستفهام ساغ وجاء إنكاراً لأن أدركوا شيئاً نافعاً ، والمعنى الثاني «بل أدرك » بمعنى يدرك أي إنهم في الآخرة يدرك علمهم وقت القيامة ، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها وأما في الدنيا فلا . وهذا هو تأويل ابن عباس ونحى إليه الزجاج ، فقوله { في الآخرة } على هذا التأويل ظرف ، وعلى التأويل الأول { في } بمعنى الباء ، و «العلم » قد يتعدى بحرف الجر تقول علمي يزيد كذا ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
وعلمي بإسدام المياه . . . . . . البيت{[9065]} .
ثم وصفهم عز وجل بأنهم { في شك منها } ثم أردف بصفة هي أبلغ من الشك وهي العمى بالجملة عن أمر الآخرة ، و { عمون } أصله عميون كحذرون وغيره .