ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك خطابه إلى حفصة وعائشة ، فأمرهما بالتوبة عما صدر منهما .
فقال : { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } .
ولفظ { صَغَتْ } بمعنى مالت وانحرفت عن الواجب عليهما . يقال صغا فلان يصغو ويصغى صغوا ، إذا مال نحو شىء معين . ويقال : صغت : الشمس ، إذا مالت نحو الغروب ، ومنه قوله - تعالى - : { ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } وجواب الشرط محذوف ، والتقدير : إن تتوبا إلى الله ، فلتوبتكما موجب أو سبب ، فقد مالت قلوبكما عن الحق ، وانحرفت عما يجب عليكما نحو الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كتمان لسره ، ومن حرص على راحته ، ومن احترام لكل تصرف من تصرفاته .
. . وجاء الخطاب لهما على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، مبالغة فى المعاتبة ، فإن المبالغ فى ذلك يوجه الخطاب إلى من يريد معاتبته مباشرة .
وقال - سبحانه - { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } بصيغة الجمع للقلوب ، ولم يقل قلبا كما بالتثنية ، لكراهة اجتماع تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة ، مع ظهور المراد ، وأمن اللبس .
ثم ساق - سبحانه - ما هو أشد فى التحذير والتأديب فقال : { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } .
وقوله { تَظَاهَرَا } أصله تتظاهرا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا . والمراد بالتظاهر : التعاون والتآزر ، يقال : ظاهر فلان فلانا إذا أعانه على ما يريده ، وأصله من الظهر ، لأن من يعين غيره فكأنه يشد ظهره ، ويقوى أمره
قال - تعالى - : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } وجواب الشرط - أيضا - محذوف - أى : وإن تتعاونا عليه بما يزعجه ، ويغضبه ، من الإفراط فى الغيرة ، وإفشاء سره . فلا يعدم ناصرا ولا معينا بل سيجد الناصر الذى ينصره عليكما ، فإن الله - تعالى - { هُوَ مَوْلاَهُ } أى : ناصره ومعينه { وَجِبْرِيلُ } كذلك ناصره ومعينه عليكما .
{ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أى : وكذلك الصالحون من المؤمنين من أنصاره وأعوانه .
{ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } أى : والملائكة بعد نصر الله - تعالى - له ، وبعد نصر جبريل وصالح المؤمنين له ، مؤيدونه ومناصرونه وواقفون فى صفه ضدكما .
وفى هذه الآية الكريمة أقوى ألوان النصر والتأييد للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأسمى ما يتصوره الإنسان من تكريم الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ومن غيرته - عز وجل - عليه ، ومن دفاعه عنه - صلى الله عليه وسلم - .
وفيها تعريض بأن من يحاول إغضاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن لا يكون من صالح المؤمنين .
وقوله : { وَجِبْرِيلُ } مبتدأ ، وقوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ } معطوف عليه .
وقوله : { بَعْدَ ذَلِكَ } متعلق بقوله { ظَهِيرٌ } الذى هو خبر عن الجميع .
وقد جاء بلفظ المفرد ، لأن صيغة فعيل يستوى فيها الواحد وغيره . فكأنه - تعالى - قال : الجمع بعد ذلك مظاهرون له ، واختير الإفراد للإشعار بأنهم جميعا كالشىء الواحد فى تأييده ونصرته ، وبأنهم يد واحدة على من يعاديه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قوله : { بَعْدَ ذَلِكَ } تعظيم للملائكة ومظاهرتهم ، وقد تقدمت نصرة الله وجبريل وصالح المؤمنين ، ونصرة الله - تعالى - أعظم وأعظم ؟
قلت : مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله ، فكأنه فضل نصرته - تعالى - بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته ، لفضلهم . . " .
وخص جبريل بالذكر مع أنه من الملائكة ، للتنويه بمزيد فضله ، فهو أمين الوحى ، والمبلغ عن الله - تعالى - إلى رسله .
هذا ، ومما يدل على أن الخطاب فى قوله - تعالى - : { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله } ، لحفصة وعائشة ، ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللتين قال الله - تعالى - فيهما : { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } .
فلما كان ببعض الطريق . . . قلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - اللتان قال الله تعالى - فيهما : { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } .
اختلُف في سبب نزول صدر هذه السورة ، فقيل : نزلت في شأن مارية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها ، فنزل قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآية .
قال أبو عبد الرحمن النسائي : أخبرنا إبراهيم بن يونس بن محمد ، حدثنا أبي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حَرَّمها ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى آخر الآية{[29019]} .
وقال ابن جرير : حدثني ابن عبد الرحيم البرقي{[29020]} حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان ، حدثني زيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه ، فقالت : أي رسول الله ، في بيتي وعلى فراشي ؟ ! فجعلها عليه حرامًا فقالت : أيْ رسول الله ، كيف يَحْرُم عليك الحلال ؟ فحلف لها بالله لا يصيبها . فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال زيد : بن أسلم فقوله : أنت عليَّ حرام لغو{[29021]} .
وهكذا روى عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه .
وقال ابن جرير أيضًا حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، قال : قل لها : " أنت عليَّ حرام ، ووالله لا أطؤك " .
وقال سفيان الثوري وابن عُلَيَّة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم ، فعُوتِبَ في التحريم ، وأمر بالكفارة في اليمين . رواه ابن جرير . وكذا روي عن قتادة ، وغيره ، عن الشعبي ، نفسه . وكذا قال غير واحد من السلف ، منهم الضحاك ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، وروى العوفي ، عن ابن عباس القصة مطولة .
وقال ابن جرير : حدثنا سعيد بن يحيى ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عُبَيْد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب : من المرأتان ؟ قال : عائشة وحفصة . وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم القبطية ، أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها{[29022]} فَوَجَدت حفصة ، فقالت : يا نبي الله ، لقد جئت إليَّ شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك ، في يومي ، وفي دوري ، وعلى فراشي . قال : " ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها ؟ " . قالت : بلى . فحَرَّمها وقال : " لا تذكري ذلك لأحد " . فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عليه ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآيات{[29023]} فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّر [ عن ]{[29024]} يمينه ، وأصاب جاريته {[29025]} .
وقال الهيثم بن كُلَيب في مسنده : حدثنا أبو قِلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا جرير بن حازم ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة : " لا تخبري أحدًا ، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام " . فقالت : أتحرم ما أحل الله لك ؟ قال : " فوالله لا أقربها " . قال : فلم يقربها حتى أخبرت عائشة . قال فأنزل الله : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }
وهذا إسناد صحيح ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج{[29026]} .
وقال ابن جرير : أيضا حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا هشام الدَّسْتُوَائي قال : كتب إلي يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم ، عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس كان يقول في الحرام : يمين تكفرها ، وقال ابن عباس : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] يعني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم جاريته فقال الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى قوله : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفر يمينه ، فصير الحرام يمينًا {[29027]} .
ورواه البخاري عن معاذ بن فضالة ، عن هشام - هو الدستوائي - عن يحيى - هو ابن كثير - عن ابن حكيم - وهو يعلى - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في الحرام : يمين تُكَفر . وقال ابن عباس : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ]{[29028]} .
ورواه مسلم من حديث هشام الدَّسْتُوَائي به{[29029]} .
وقال النسائي : أنا عبد الله بن عبد الصمد بن علي ، حدثنا مَخْلد - هو ابن يزيد - حدثنا سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عَلَيَّ حَرَاما ؟ قال : كذبتَ ليس عليك بحرام . ثم تلا هذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ عليك أغلظ الكفارات ، عتق رقبة .
تفرد به النسائي من هذا الوجه ، بهذا اللفظ{[29030]} .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن زكَريا ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرَيَّته{[29031]} .
ومن هاهنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفارة على من حرم جاريته أو زوجته أو طعامًا أو شرابًا أو ملبسًا أو شيئًا من المباحات ، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة . وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية ، إذا حَرَّم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما في قوله ، فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة ، نفذ فيهما .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبو عبد الله الظهراني{[29032]} أخبرنا حفص بن عمر العَدَني ، أخبرنا الحكم بن أبان ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا قول غريب ، والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العَسَل ، كما قال البخاري عند هذه الآية :
حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن عبيد{[29033]} بن عمير ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جَحش ، ويمكث عندها ، فتواطأتُ أنا وحفصةُ على : أيتُنا دخلَ عليها ، فلتقل له : أكلتَ مَغَافير ؟ إني أجد منك ريح مغافير . قال : " لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جَحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا " ، { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ }{[29034]} .
هكذا أورد هذا الحديث هاهنا بهذا اللفظ ، وقال في كتاب " الأيمان والنذور " : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جريج قال : زعم عطاء أنه سمع عُبَيد بن عمير يقول : سمعتُ عائشة تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جَحش ويشرب عندها عَسَلا فتواصيتُ أنا وحفصة أن أيتُنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ : إني أجد منك ريح مغافير ؛ أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ذلك له ، فقال : " لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جَحش ، ولن أعود له " . فنزلت : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } لعائشة وحفصة ، { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } لقوله : " بل شربت عسلا " . وقال إبراهيم بن موسى ، عن هشام : " ولن أعود له ، وقد حلفت ، فلا تخبري بذلك أحدًا " {[29035]} .
وهكذا رواه في كتاب " الطلاق " بهذا الإسناد ، ولفظه قريب منه{[29036]} . ثم قال : المغافير : شبيه بالصمغ ، يكون في الرّمث فيه حلاوة ، أغفر الرّمث : إذا ظهر فيه . واحدها مغفور ، ويقال : مغافير . وهكذا قال الجوهري ، قال : وقد يكون المغفور أيضًا للعُشر والثُّمام والسَّلَم والطلح . قال : والرّمث ، بالكسر : مرعى من مراعي الإبل ، وهو من الحَمْض . قال : والعرفط : شجر من العضاه ينضَح المغفُور [ منه ]{[29037]} .
وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب " الطلاق " من صحيحه ، عن محمد بن حاتم ، عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء ، عن عُبيد بن عمير ، عن عائشة{[29038]} ، به ، ولفظه كما أورده البخاري في " الأيمان والنذور " .
ثم قال البخاري في كتاب " الطلاق " : حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي بن مُسْهَر ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلوى والعَسل ، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه ، فيدنو من إحداهن . فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس ، فَغِرْتُ فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عُكَّة عَسَل ، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة ، فقلت : أما والله لنحتالَن له . فقلت لسودة بنت زَمْعَةَ : إنه سيدنو منك ، فإذا دنا منك فقولي : أكلت مغَافير ؟ فإنه سيقول ذلك{[29039]} لا . فقولي له : ما هذه الريح التي أجد ؟ فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل . فقولي : جَرَسَتْ نحلُه العُرفُطَ . وسأقول ذلك ، وقولي أنت له يا صفية ذلك ، قالت - تقول سودة - : والله{[29040]} ما هو إلا أن قام على الباب ، فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقًا منك ، فلما دنا منها قالت له سودة : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال : " لا " . قالت : فما هذه الريح التي أجد منك ؟ قال : " سقتني حفصة شَربة عسل " . قالت : جَرَسَت نَحلُه العرفطَ . فلما دار إليَّ قلت نحو ذلك ، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك ، فلما دار إلى حفصة قالت له : يا رسول الله ، ألا أسقيك منه ؟ قال : " لا حاجةَ لي فيه " . قالت - تقول سودة - : والله لقد حَرَمْنَاه . قلت لها : اسكتي{[29041]} .
هذا لفظ البخاري . وقد رواه مسلم عن سُوَيد بن سَعيد ، عن علي بن مُسْهِر ، به . وعن أبي كُرَيْب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر ، ثلاثتهم عن أبي أسامة ، حماد بن أسامة ، عن هشام بن عروة ، به{[29042]} وعنده قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح يعني : الريح الخبيثة ؛ ولهذا قلن له : أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء . فلما قال : " بل شربت عسلا " . قلن : جَرَسَت نحلُه العرفطَ ، أي : رَعَت نحلُه شَجَر العرفط الذي صَمغُه المغافير ؛ فلهذا ظهر ريحُه في العسل الذي شربته .
قال الجوهري : جَرَسَت نحلُه العرفط تَجْرِس : إذا أكلته ، ومنه قيل للنحل : جوارس ، قال الشاعر :
تَظَلّ عَلَى الثَّمْرَاء مِنها جَوَارسُ . . .
وقال : الجَرْس والجِرْس : الصوت الخفي . ويقال : سمعت جرس الطير : إذا سمعتَ صوت مناقيرها على شيء تأكله ، وفي الحديث : " فيسمعون جَرْس طير الجنة " . قال الأصمعي : كنت في مجلس شُعبة قال : " فيسمعون جَرْشَ طير الجنة " بالشين [ المعجمة ]{[29043]} فقلت : " جرس " ؟ ! فنظر إلي فقال : خذوها عنه ، فإنه أعلم بهذا منا{[29044]} .
والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل ، وهو من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن خالته عن عائشة . وفي طريق ابن جريج عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة أن زينب بنت جَحش هي التي سقت العسل ، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه ، فالله أعلم . وقد يقال : إنهما واقعتان ، ولا بُعْدَ في ذلك ، إلا أن كونَهما سببًا لنزول هذه الآية فيه نظر ، والله أعلم .
ومما يدل على أن عائشة وحفصة ، رضي الله عنهما ، هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن ابن عباس قال : لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدَل عمر وعدلت معه بالإداوة . فتبرز ثم أتاني ، فسكبت على يديه فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، اللتان قال الله تعالى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ؟ فقال عمر : واعجبا لك يا ابن عباس - قال الزهري : كره - والله ما سألته عنه ولم يكتمه قال : هي حفصة وعائشة . قال : ثم أخذ يسوق الحديث . قال : كنا مَعشَر قريش قومًا نَغلبُ النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تَغلِبُهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، قال : وكان منزلي في دار بنى أمية بن زيد بالعَوَالي . قال : فغضَبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تُرَاجِعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي{[29045]} صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . قال : فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم . قلت : وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ؟ قالت : نعم . قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخَسر ، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت ؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئًا ، وسليني من مالي ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسمُ وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك - يريد عائشة - قال : وكان لي جار من الأنصار ، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يومًا وأنزل يومًا ، فيأتيني بخبر الوحي وغيره ، وآتيه بمثل ذلك . قال : وكنا نتحدث أن غَسَّان تُنعِل الخيل لتغزونا ، فنزل صاحبي يومًا ثم أتى عشاء ، فضرب بابي ثم ناداني ، فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم ! فقلت : وما ذاك ؟ أجاءت غسان ؟ قال : لا بل أعظم من ذلك وأطول ! طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقلت : قد خابت حفصةُ وخَسِرت ، قد كنت أظن{[29046]} هذا كائنا . حتى إذا صليتُ الصبح شددتُ عليَّ ثيابي ثم نزلت ، فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت : أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا أدري ، هو هذا معتزل في هذه المشرَبة{[29047]} فأتيت غلامًا له أسودَ فقلت : استأذن لعمر . فدخل الغلام ثم خرج إليَ فقال : ذكرتك له فصمت . فانطلقت حتى أتيت المنبر ، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم ، فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمرَ . فدخل ثم خرج فقال : قد ذكرتك له فصمت . فخرجت فجلست إلى المنبر ، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر . فدخل ثم خرج إلي فقال : قد ذكرتك له فصمتَ . فوليت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال : ادخل ، قد أذن لك . فدخلتُ فسلمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رُمَال{[29048]} حَصِير .
قال الإمام أحمد : وحدثناه يعقوب في حديث صالح : رُمَال حصير قد أثر في جنبه ، فقلت : أطلَّقت يا رسول الله نساءك ؟ فرفع رأسه إلي وقال : " لا " . فقلت : الله أكبر ، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قومًا نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، فَدخَلت على حفصة فقلت : لا يغُرنَّك أن كانت جارتُكِ هي أوسمُ - أو : أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك . فتبسم أخرى ، فقلت : أستأنس يا رسول الله . قال : " نعم " . فجلست فرفعت رأسي في البيت ، فوالله ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إلا أهَبَةٌ ثلاثة{[29049]} فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك ، فقد وسَّع على فارس والروم ، وهم لا يعبدون الله . فاستوى جالسًا وقال : " أفي شك أنت يا بن الخطاب ؟ أولئك قوم عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . فقلت : استغفر لي يا رسول الله . وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا ؛ من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله ، عز وجل{[29050]} .
وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ، من طرق ، عن الزهري ، به{[29051]} وأخرجه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن عُبَيد بن حُنَين ، عن ابن عباس ، قال : مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية ، فما أستطيع أن أسأله هيبةً له ، حتى خرج حاجًا فخرجت معه ، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق ، عدل إلى الأرَاك لحاجة له ، قال : فوقفت حتى فرغ ، ثم سرت معه فقلت : يا أمير المؤمنين ، من اللتان{[29052]} تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم ؟{[29053]} .
هذا لفظ البخاري ، ولمسلم : من المرأتان اللتان قال الله تعالى : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } ؟ قال : عائشة وحفصة . ثم ساق الحديث بطوله ، ومنهم من اختصره .
وقال مسلم أيضًا : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن سِماك بن الوليد - أبي زميل - حدثني عبد الله بن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، دخلت المسجد ، فإذا الناس يَنكُتُون بالحصى ، ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ! وذلك قبل أن يُؤمَر بالحجاب . فقلت : لأعلمن ذلك اليوم . . . فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ، ووعظه إياهما ، إلى أن قال : فدخلت ، فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكُفَّة المشرَبة ، فناديت فقلت : يا رباح ، استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فذكر نحو ما تقدم ، إلى أن قال : فقلت يا رسول الله ما يَشُقّ عليك من أمر النساء ، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريلَ وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ، وقلما تكلمتُ - وأحمد الله - بكلام إلا رجوتُ أن يكون الله يصدق قولي ، ونزلت هذه الآية ، آية التخيير : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } فقلت : أطلقتهن ؟ قال : " لا " . فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق نساءه ، ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر{[29054]} .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومقاتل بن حيان ، والضحاك ، وغيرهم : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر وعمر - زاد الحسن البصري : وعثمان . وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } قال : علي بن أبي طالب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال : أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في ]{[29055]} قوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } قال : هو علي بن أبي طالب . إسناده ضعيف . وهو منكر جدًا .
وقال البخاري : حدثنا عمرو بن عون ، حدثنا هُشَيم ، عن حُميد ، عن أنس ، قال : قال عمر : اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه ، فقلت لهن : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } فنزلت هذه الآية{[29056]} .
وقد تقدّم أنه وافق القرآن في أماكنَ ، منها في نزول الحجاب ، ومنها في أسارى بدر ، ومنها قوله : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل الله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا [ أبي ، حدثنا ]{[29057]} الأنصاري ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب : بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستقريتهن{[29058]} أقول : لتكفن عن رسول الله أو ليبدلَنّه الله أزواجًا خيرا منكن . حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين ، فقالت : يا عمر ، أما لي برسول الله ما يعظ نساءه ، حتى تعظهن ؟ ! فأمسكت ، فأنزل الله ، عز وجل : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } وهذه المرأة التي رَدّته عما كان فيه من وَعظ النساء هي أم سلمة ، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري{[29059]} .
وقال الطبراني ، حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني ، حدثنا إسماعيل البجلي ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } قال : دخلَت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو يَطَأ مارية ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة ، فإن أباك يَلي الأمرَ من بعد أبي بكر إذا أنا مت " . فذهبت حفصة فأخبَرتْ عائشة ، فقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنبأك هذا ؟ قال : { نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } فقالت عائشة : لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } {[29060]} .
إسناده فيه نظر ، وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات .
المخاطبة بقوله تعالى : { إن تتوبا } هي لحفصة وعائشة ، وفي حديث البخاري وغيره عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب : مَن اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال حفصة وعائشة ، وقوله تعالى : { صغت قلوبكما } ، معناه مالت أي عن المعدلة والصواب ، والصغا : الميل ، ومنه صياغة الرجل وهم حواشيه الذين يميلون إليه ، ومنه أصغى إليه بسمعه ، وأصغى الإناء ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «فقد زاغت قلوبكما » ، والزيغ الميل وعرفه في خلاف الحق ، قال مجاهد : كما نرى صغت شيئاً هيناً حتى سمعنا قراءة ابن مسعود : «زاغت » ، وجمع القلوب من حيث الإنسان جمع ومن حيث لا لبس في اللفظ ، وهذا نظير قول الشاعر [ حطام المجاشعي ] : [ الرجز ]
ظهراهما مثل ظهور الترسين***{[11187]}
ومعنى الآية ، إن تبتما فقد كان منكما ما ينبغي أن يتاب منه ، وهذا الجواب الذي للشرط هو متقدم في المعنى ، وإنما ترتب جواباً في اللفظ ، { وإن تظاهرا } معناه : تتعاونا ، وقرأ جمهور الناس والسبعة «تظاهرا » وأصله تتظاهرا ، فأدغمت التاء في الظاء بعد البدل ، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس : «إن تتظاهرا » بتاءين على الأصل ، وقرأ نافع بخلاف عنه وعاصم وطلحة وأبو رجاء والحسن : «تظهرا » بتخفيف الظاء على حذف التاء الواحدة ، وروي عن ابن عمر أنه قرأ : «تظّهّرا » بشد الظاء والهاء دون ألف ، والمولى : الناصر المعين ، وقوله { وجبريل وصالح المؤمنين } يحتمل أن يكون عطفاً على اسم الله تعالى في قوله : { هو } ، فيكون { جبريل وصالح المؤمنين } في الولاية ، ويحتمل أن يكون { جبريل } رفعاً بالابتداء ، وما بعده عطف عليه ، و { ظهير } الخبر فيكون حينئذ من الظهراء لا في الولاية ويختص بأنه مولى الله تعالى ، واختلف الناس في { صالح المؤمنين } ، فقال الطبري وغيره من العلماء : ذلك على العموم ، ويدخل في ذلك كل صالح ، وقال الضحاك وابن جبير وعكرمة : المراد أبو بكر وعمر . ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم{[11188]} ، وقال مجاهد نحوه ، وقال أيضاً : وعلي ، وروى علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { صالح المؤمنين } ، علي بن أبي طالب ){[11189]} ذكره الثعلبي . وقال قتادة والعلاء بن زياد وغيره : هم الأنبياء ، وإنما يترتب ذلك بأن تكون مظاهرتهم أنهم قدوة وأسوة فهم عون بهذا ، وقوله تعالى : { وصالح } يحتمل أن يكون اسم جنس مفرداً ، ويحتمل أن يريد «وصالحو » فحذفت الواو في خط المصحف ، كما حذفوها في قوله : { سندع الزبانية }{[11190]} [ العلق : 18 ] وغير ذلك . ويروى عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، لا تكترث بأمر نسائك والله معك وجبريل معك ولو بكر معك ، وأنا معك .
فنزلت الآية موافقة نحو أمر قول عمر{[11191]} .