96- وإن من اتباع ملة إبراهيم الاتجاه في الصلاة إلى البيت الذي بناه والحج إليه ، وقد بين الله تعالى ذلك فذكر : إن أول بيت في القدم والشرف جعله الله متعبداً للناس لهو الذي في مكة ، وهو كثير الخيرات والثمرات ، وأودع الله - سبحانه وتعالى - البركة فيه ، وهو مكان هداية الناس بالحج والاتجاه في الصلاة إليه{[33]} .
ثم أخبر القرآن عن مسألة أخرى جادل اليهود فيها النبى صلى الله عليه وسلم وهى مسألة أفضلية المسجد الحرام على غيره من المساجد ، وقد رد القرآن عليهم وعلى أمثالهم فى الكفر والعناد بما يثبت أن المسجد الحرام الذى نازعوا فى أفضليته هو أفضل المساجد على الإطلاق فقال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ . . . } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : فى اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما وجوه :
الأول : أن المراد منهما الجواب عن شبهة أخرى من شبهات اليهود فى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود فى نبوته وقالوا : إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة وهو أرض الحشر ، وقبلة جملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة إلى الكعبة باطلا ، فأجاب الله عنه بقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فبين - سبحانه - أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى " .
والمراد بالأولية أنه أول بيت وضعه الله لعبادته فى الأرض ، وقيل المراد بها كونه أولا فى الوضع وفى البناء ، ورووا فى ذلك آثارا ليس فيها ما يعتمد عليه .
وبكة : لغة فى مكة عند الأكثرين ، والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيراً ، ومنه النميط والنبيط فهما اسم لموضع . وقيل هما متغايران : فبكة موضع المسجد ومكة اسم البلد بأسرها . وأصل كلمة بكة من البك وهو الازدحام . يقال تباك القوم إذا تزاحموا ، وكأنها سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها . والبك أيضاً دق العنق ، وكأنها سميت بكة لأن الجبابرة تندق أعناقهم إذا أرادوها بسوء . وقيل إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها ، وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها .
والمعنى : إن أول بيت وضعه الله - تعالى - للناس فى الأرض ليكون متعبداً لهم ، هو البيت الحرام الذى بمكة ، حيث يزدحم الناس أثناء طوافهم حوله ، وقد أتوا إليه رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم .
روى الشيخان عن أبى ذر قال : " قلت يا رسول الله : أي مسجد وضع فى الأرض أول ؟ قال : المسجد الحرام . قلت : ثم آي ؟ قال المسجد الأقصى . قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم قال : حيثما أدركتك الصلاة فصل . والأرض لك مسجد " .
قالوا : وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد منه فقال : معلوم أن سليمان بن داود هو الذى بنى المسجد الأقصى ، والذى بنى المسجد الحرام هو إبراهيم وابنه إسماعيل ، وبينهما وبين سليمان أكثر من ألف سنة فيكف قال صلى الله عليه وسلم : إن بين بناء المسجدين أربعين سنة !
والجواب أن الوضع غير البناء ، فالذى أسس المسجد الأقصى ووضعه فى الأرض بأمر الله سيدنا يعقوبن بن إسحاق بن إبراهيم ويعقوب هذه المدة التى جاءت في الحديث ، أما سليمان فلم يكن مؤسساً للمسجد الأقصى أو واضعاً له وإنما كان مجددا فلا إشكال ولا منافاة .
وإذن فالبيت الحرام أسبق بناء من المسجد الأقصى ، وأجمع منه للديانات السماوية ، وهو - أى البيت الحرام - أول بيت جعل الله الحج إليه عبادة مفروضة على كل قادر على الحج ، وجعل الطوف حوله عبادة ، وتقبيل الحجر الأسود الذى هو ضمن بنائه عبادة .
. . ولا يوجد بيت سواه فى الأرض له من المزايا والخصائص ما لهذا البيت الحرام .
وبذلك ثبت كذب اليهود فى دعواهم أن المسجد الأقصى أفضل من المسجد الحرام ، وأن فى تحول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فى صلاته مخالفة للأنبياء قبله .
ثم مدح الله - تعالى - بيته بكونه { مُبَارَكاً } أى كثير الخير دائمه ، من البركة وهى النماء والزيادة والدوام .
أى أن هذا البيت كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره أو اعتكف فيه ، أو طاف حوله ، بسبب مضاعفة الأجر ، وإجابة الدعاء ، وتكفير الخطايا لمن قصده بإيمان وإخلاص وطاعة لله رب العالمين .
وإن هذا البيت فى الوقت ذاته وفير البركات المادية والمعنوية .
فمن بركاتع المادية : قدوم الناس إليه من مشارق الإرض ومغاربها ومعهم خيرات الأرض ، يقدمونها على سبيل تبادل المنفعة تارة وعلى سبيل الصدقة تارة أخرى لمن يسكنون حول هذا البيت الحرام ، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم حيث قال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } ومن بركاته المعنوية : أنه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهى فريضة الحج ، وإليه يتجه المسلمون فى صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم .
وقوله { مُبَارَكاً } حال من الضمير فى " وضع " .
ثم مدحه بأنه { هُدًى لِّلْعَالَمِينَ } آي بذاته مصدر هداية للعالمين ، لأنه قبلتهم ومتعبدهم ، وفى استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير وإلى ما يوصلهم إلى رضا الله وجنته .
يُخْبر تعالى أن{[5338]} أول بيت وُضع للناس ، أي : لعموم الناس ، لعبادتهم ونُسُكهم ، يَطُوفون به ويُصلُّون إليه ويَعتكِفُون عنده { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } يعني : الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل [ عليه السلام ]{[5339]} الذي يَزْعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجِه ، ولا يَحجُّون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه . ولهذا قال : { مُبَارَكًا } أي وُضع مباركا { وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ }
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التَّيْميّ ، عن أبيه ، عن أبي ذَر ، رضي الله عنه ، قال قلتُ : يا رسولَ الله ، أيُّ مَسجِد وُضِع في الأرض أوَّلُ ؟ قال : " الْمسْجِدُ الْحَرَامُ " . قلت : ثم أَيُّ ؟ قال : " الْمسجِدُ الأقْصَى " . قلت : كم بينهما ؟ قال : " أرْبَعُونَ سَنَةً " . قلتُ : ثم أَيُّ ؟ قال : ثُم حَيْثُ أدْرَكْت{[5340]} الصَلاةَ فَصَلِّ ، فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ " .
وأخرجه البخاري ، ومسلم ، من حديث الأعمش ، به{[5341]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصَّبَّاحِ ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا شَرِيك عن مُجالد ، عن الشَّعْبيّ عن علِيّ في قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا } قال : كانت البيوت قبلة ، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله [ تعالى ]{[5342]} .
[ قال ]{[5343]} وحدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحْوَص ، عن سِماك ، عن خالد ابن عَرْعَرة قال : قام رجل إلى عَليّ فقال : ألا تُحَدِّثني عن البيت : أهو أولُ بيت وُضِع في الأرض ؟ قال{[5344]} لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا . وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت ، وقد ذكرنا ذلك مُستَقصًى في سورة البقرة فأغْنَى عن إعادته{[5345]} .
وزعم السُّدِّي أنه أولُ بيت وضع على وجه الأرض مطلقا . والصحيحُ قولُ علِيّ [ رضي الله عنه ]{[5346]} فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في{[5347]} كتابه دلائل النبوة ، من طريق ابن لَهِيعة ، عن يَزيد بن أبي حَبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : " بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ إلَى آدَمَ وحَوَّاءَ ، فَأمَرَهُمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَبَنَاهُ آدَمُ ، ثُمَّ أمَرَ بِالطَّوَافِ بِهِ ، وَقِيلَ لَهُ : أنْتَ أوَّلُ النَّاسِ ، وهَذَا أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ " {[5348]} فإنَّهُ كَمَا تَرَى مِنْ مُفْرَدَاتِ ابْنِ لَهِيعة ، وهو ضعيف . والأشْبَهُ ، والله أعلمُ ، أن يكون هذا مَوْقُوفا على عبد الله بن عَمْرو . ويكون من الزاملتين اللتين {[5349]} أصابهما يوم الْيَرْمُوك ، من كلام أهل الكتاب .
وقوله تعالى : { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } بَكَّة : من أسماء مكة على المشهور ، قيل{[5350]} سُمِّيت بذلك لأنها تَبُكّ أعناق الظلمة والجبابرة ، بمعنى : يُبَكون{[5351]} بها ويخضعون عندها . وقيل : لأن الناس يَتَبَاكّون فيها ، أي : يزدحمون .
قال قتادة : إن الله بَكَّ به الناس جميعا ، فيصلي{[5352]} النساء أمام الرجال ، ولا يفعل ذلك ببلد غيرها .
وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعَمْرو بن شُعَيب ، ومُقاتل بن حَيَّان .
وذكر حَمّاد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : مَكَّة من الفجّ إلى التنعيم ، وبكّة من البيت إلى البطحاء .
وقال شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : بَكَّة : البيت والمسجد . وكذا قال الزهري .
وقال عكرمة في رواية ، وميمون بن مِهْران : البيت وما حوله بكة ، وما وراء ذلك مكة .
وقال أبو صالح ، وإبراهيم النّخَعي ، وعطية [ العَوْفي ]{[5353]} ومقاتل بن حيان : بكة موضع البيت ، وما سوى ذلك مكة .
وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة : مكة ، وبكة ، والبيت العتيق ، والبيت الحرام ، والبلد الأمين ، والمأمون ، وأُمَّ رُحْم ، وأم القُّرَى ، وصلاح ، والعرْش على وزن بدر ، والقادس ؛ لأنها تطهر من الذنوب ، والمقدسة ، والناسّة : بالنون ، وبالباء أيضا ، والحاطمة ، والنسَّاسة {[5354]} والرأس ، وكُوثى ، والبلدة ، والبَنِيَّة ، والكعبة .
{ إن أول بيت وضع للناس } أي وضع للعبادة وجعل متعبدا لهم ، والواضع هو الله تعالى . ويدل عليه أنه قرئ على البناء للفاعل . { للذي ببكة } للبيت الذي { ببكة } ، وهي لغة في مكة كالنبيط والنميط ، وأمر راتب وراتم ولازب ولازم ، وقيل هي موضع المسجد . ومكة البلد من بكة إذا زحمه ، أو من بكة إذا دقه فإنها تبك أعناق الجبابرة روي ( أنه عله الصلاة والسلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال : المسجد الحرام ، ثم بيت المقدس . وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة ) . وقيل أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم ، ثم العمالقة ، ثم قريش . وقيل هو أول بيت بناه آدم فانطمس في الطوفان ، ثم بناه إبراهيم . وقيل : كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح يطوف به الملائكة ، فلما أهبط آدم أمر بأن يحجه ويطوف حوله ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السماوات وهو لا يلائم ظاهر الآية . وقيل المراد إنه أول بيت بالشرف لا بالزمان . { مباركا } كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله ، حال من المستكن في الظرف { وهدى للعالمين } لأنه قبلتهم ومتعبدهم ، ولأن فيه آيات عجيبة كما قال :
{ فيه آيات بينات } كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار ، وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرض لها ، وإن كل جبار قصده بسوء قهره الله كأصحاب الفيل . والجملة مفسرة للهدى ، أو حال أخرى . { مقام إبراهيم } مبتدأ محذوف خبره أي منها مقام إبراهيم ، أو بدل من آيات بدل البعض من الكل . وقيل عطف بيان على أن المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصماء وغوصها فيها إلى الكعبين ، وتخصيصها بهذه الإلانة من بين الصخار وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة . ويؤيده أنه قرئ " آية " بينة على التوحيد . وسبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه . { ومن دخله كان آمنا } جملة ابتدائية ، أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي ومنها أمن من دخله ، أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله . اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما كقوله عليه السلام " حبب إلي من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة " لأن فيها غنية عن غيرها في الدارين بقاء الأثر مدى الدهر والأمن من العذاب يوم القيامة ، قال عليه السلام : " من مات في أحد الحرمين ، بعث يوم القيامة آمنا " . وعند أبي حنيفة من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما والتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولكن ألجئ إلى الخروج { ولله على الناس حج البيت } قصده للزيارة على الوجه المخصوص . وقرئ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ( حج ) بالكسر وهي لغة نجد . { من استطاع إليه سبيلا } بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص له ، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعة " بالزاد والراحلة " وهو يؤيد قول الشافعي رضي الله عنه إنها بالمال ، ولذلك أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه . وقال مالك رحمه الله تعالى إنها بالبدن فيجب على من قدر على المشي والكسب في الطريق . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إنها بمجموع الأمرين . والضمير في إليه للبيت ، أو الحج وكل ما أتى إلى الشيء فهو سبيله . { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } وضع كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتغليظا على تاركه ، ولذلك قال عليه السلام " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا " وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوه بصيغة الخبر ، وإبرازه في الصورة الإسمية وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في رقاب الناس ، وتعميم الحكم أولا ثم تخصيصه ثانيا فإنه كإيضاح بعد إيهام وتثنية وتكرير للمراد ، وتسمية ترك الحج كفرا من حيث إنه فعل الكفرة ، وذكر الاستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت والخذلان وقوله : { عن العالمين } يدل عليه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والإشعار بعظم السخط ، لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرد عن الشهوات والإقبال على الله . روي ( أنه لما نزل صدر الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباب الملل فخطبهم وقال إن الله تعالى : كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وكفرت به خمس ملل فنزل ومن كفر ) .
هذا الكلام واقع موقع التّعليل للأمر في قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } [ آل عمران : 95 ] لأنّ هذا البيت المنوّه بشأنه كان مقاماً لإبراهيم ففضائل هذا البيتِ تحقّق فضيلة شرع بانيه في متعارف النَّاس ، فهذا الاستدلال خطابي ، وهو أيضاً إخبار بفضيلة الكعبة ، وحرمتها فيما مضى من الزّمان .
وقد آذن بكون الكلام تعليلاً موقع ( إنّ ) في أوّله فإنّ التأكيد بإنّ هنا لمجرّد الاهتمام وليس لردّ إنكار منكر ، أو شكّ شاكّ .
ومن خصائص ( إنّ ) إذا وردت في الكلام لمجرّد الاهتمام ، أن تغني غَناء فاء التفريع وتفيد التَّعليل والربط ، كما في دلائل الإعجاز .
ولِمَا في هذه من إفادة الربط استغني عن العطف لكون ( إنّ ) مؤذنة بالربط . وبيانُ وجه التعليل أن هذا البيت لمّا كان أوّل بيت وضع للهُدى وإعلان توحيد الله ليكون علماً مشهوداً بالحسّ على معنى الوحدانية ونفي الإشراك ، فقد كان جامعاً لدلائل الحنيفية ، فإذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممرّ العصور ، دون غيره من الهياكل الدينية الَّتي نشأت بعده ، وهو مائل ، كان ذلك دلالة إلهية على أنَّه بمحلّ العناية من الله تعالى ، فدلّ على أنّ الدّين الَّذي قارن إقامته هو الدّين المراد لله ، وهذا يؤول إلى معنى قوله : { إن الدين عند اللَّه الإسلام } [ آل عمران : 19 ] .
وهذا التَّعليل خطابي جار على طريقة اللُّزوم العرفي .
وقال الواحدي ، عن مجاهد : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المَقْدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنَّه مُهَاجر الأنبياء وفي الأرض المقدّسة وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله هذه الآية .
و { أوَّل } اسم للسابق في فِعلٍ مَّا فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدّث عنه .
والبيت بناء يأوِي واحداً أو جماعة ، فيكون بيتَ سكنى ، وبيت صلاة ، وبيت ندوة ، ويكون مبنياً من حَجَر أو من أثواببِ نسيج شعر أو صوف ، ويكون من أدم فيسمّى قبَّة قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } [ النحل : 81 ] .
ومعنى { وُضع } أسّسَ وأثْبِتَ ، ومنه سمّي المكان موضعاً . وأصل الوضع أنَّه الحطّ ضدّ الرفع ، ولمَّا كان الشيء المرفوع بعيداً عن التناول ، كان الموضوع هو قريب التناول ، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول ، والتَّهيئة للانتفاع .
و ( النَّاس ) تقدّم في قوله تعالى : { ومن النَّاس من يقول آمنا باللَّه } في سورة [ البقرة : 8 ] .
( { وبكّة } اسم مكَّة . وهو لغة بإبدال الميم باء في كلمات كثيرة عدّت من المترادف : مثل لازب في لازم ، وأربد وأرمد أي في لون الرماد ، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك : أنّ بكة بالباء اسم موضع البيت ، وأنّ مكَّة بالميم اسم بقية الموضع ، فتكون باء الجرّ هنا لظرفية مكان البيت خاصّة .
لا لسائر البلد الَّذي فيه البيت ، والظاهر عندي أنّ بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علماً على المكان الَّذي عيّنه لسكنى ولده بنيّة أن يكون بلداً ، فيكون أصله من اللغة الكلدانية ، لغة إبراهيم ، ألا ترى أنَّهم سمّوا مدينة ( بعلبك ) أي بلد بَعل وهو معبود الكلدانيين ، ومن إعجاز القرآن اختيار هذا اللَّفظ عند ذكر كونه أوّل بيت ، فلاحظ أيضاً الاسم الأوّل ، ويؤيّد ذلك قوله : { ربّ هذه البلدة } [ النمل : 91 ] وقوله : { ربّ اجعل هذا البلد آمناً } [ إبراهيم : 35 ] . وقد قيل : إنّ بكّة مشتقّ من البَكّ وهو الازدحام ، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم .
وعدل عن تعريف البيت باسمه العلَم بالغلبة ، وهو الكعبة ، إلى تعريفه بالموصولية بأنَّه ( الَّذي ببكة ) : لأنّ هذه الصّلة صارت أشهر في تعيّنه عند السامعين ، إذ ليس في مكّة يومئذ بيت للعبادة غيره ، بخلاف اسم الكعبة : فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الَّذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقّبوه الكعبة اليمانية .
والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها . وظاهر الآية أنّ الكعبة أوّل البيوت المبنيّة في الأرض ، فتمسّك بهذا الظَّاهر مجاهد ، وقتادة ، والسّدي ، وجماعة ، فقالوا : هي أوّل بناء ، وقالوا : إنَّها كانت مبنيّة من عهد آدم عليه السلام ثُمّ درست ، فجددها إبراهيم ، قال ابن عطية : ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتُها ، وقد زعموا أنَّها كانت تسمّى الضُراح بوزن غراب ولكنّ المحقّقين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر ، وتأوّلوا الآية . قال عليّ رضي الله عنه : « كان قبل البيت بيوت كثيرة » ولا شكّ أنّ الكعبة بناها إبراهيم وقد تعدّد في القرآن ذكر ذلك ، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها ، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يكون أوّل بناء وقع في الأرض كان في عهد إبراهيم ، لأنّ قبل إبراهيم أمماً وعصوراً كان فيها البناء ، وأشهر ذلك برج بابل ، بُنِي إثر الطوفان ، وما بناه المصريّون قبل عهد إبراهيم ، وما بناه الكلدان في بدل إبراهيم قبل رحلته إلى مصر ، ومن ذلك بيت أصنامهم ، وذلك قبل أن تصير إليه هاجَر الَّتي أهداها له ملك مصر ، وقد حكى القرآن عنهم { قالوا ابْنُوا له بنياناً فَألْقُوه في الجحيم } [ الثافات : 97 ] فتعيّن تأويل الآية بوجه ظاهر ، وقد سلك العلماء مسالك فيه : وهي راجعة إلى تأويل الأوّل ، أو تأويل البيت ، أو تأويل فعل وُضع ، أو تأويل النَّاس ، أو تأويل نظم الآية ، والَّذي أراه في التأويل أنّ القرآن كتاب دين وهُدى ، فليس غرض الكلام فيه ضبط أوائل التَّاريخ ، ولكن أوائل أسباب الهدى ، فالأوَّلية في الآية على بابها ، والبيت كذلك ، والمعنى أنَّه أوّل بيت عبادة حقّة وضع لإعلان التَّوحيد ، بقرينة المقام ، وبقرينة قوله : { وُضع للنَّاس } المقتضى أنَّه من وضعِ واضعٍ لمصلحة النَّاس ، لأنَّه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه النَّاس ، وبقرينة مجيء الحالين بعدُ ؛ وهما قوله : { مباركاً وهدى للعالمين } .
وهذا تأويل في معنى بيت ، وإذا كان أوّلَ بيتِ عبادة حقَ ، كان أوّل معهد للهدى ، فكان كُلّ هدى مقتبساً منه فلا محيص لكلّ قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله ، وذلك يوجب اتّباع الملّة المبنيّة على أسس ملّة بانيه ، وهذا المفاد من تفريع قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } [ البقرة : 95 ] . وتأوّل الآية عليّ بن أبي طالب ، فروى عنه أنّ رجلاً سأله : أهو أوّل بيت ؟ قال : « لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنَّه أوّل بيت وضع للنَّاس مباركاً وهدى » فجعل مباركاً وهدى حالين من الضمير في { وُضع } لا من اسممِ الموصول ، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلاّ على معنى أنَّه أوّل بيت من بيوت الهدى كما قلنا ، وليس مراده أنّ قوله : { وضع } هو الخبَر لتعيّن أن الخبر هو قوله : { للذي ببكة } بدليل دُخول اللاّم عليه .
وعن مجاهد قالت اليهود : بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنَّها مهاجَر الأنبياء ، وقال المسلمون : الكعبة ، فأنزل الله هذه الآية ، وهذا تأويل { أول } بأنَّه الأوّل من شيئين لا من جنس البيوت كلّها .
وقيل : أراد بالأول الأشرف مجازاً .
وعندي أنَّه يجوز أن يكون المراد من النَّاس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنَّصارى والمسلمين ، وكلّهم يعترف بأصالة دين إبراهيم عليه السلام ، فأوّل معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنَّه أفضل ممَّا سواه من بيوت عبادتهم .
وإنَّما كانت الأوّلية موجِبة التّفضيل لأنّ مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة ، إذ هي في ذلك سواء ، ولكنَّها تتفاضل بما يحفّ بذلك من طول أزمان التعبّد فيها ، وبنسبتها إلى بانيها ، وبحسن المقصد في ذلك ، وقد قال تعالى في مسجد قُبَاء : { لمَسجِدٌ أسِّسَ على التَّقوَى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه } [ التوبة : 108 ] .
وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحقّ ، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون . فإنّ إبراهيم بنى الكعبة في حدود سنة 1900 قبل المسيح وسليمانَ بنى بيت المقدس سنة 1000 قبل المسيح ، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول . وأمَّا بيتُ المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره . وروى في « صحيح مسلم » ، عن أبي ذرّ رضي الله عنه أنَّه قال : سألت رسول الله : أيّ مسجد وُضِعَ أولُ ؟ قال : المسجدُ الحرام ، قلت : ثمّ أيّ ؟ قال : المسجدُ الأقصى ، قلت : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون سنة . فاستشكله العلماء بأنّ بين إبراهيم وسليمان قروناً فكيف تكون أربعين سنة ، وأجاب بعضهم بإمكان أن يكون إبراهيم بنى مسجداً في موضع بيت المقدس ثُمّ درس فجدّده سليمان .
وأقول : لا شكّ أنّ بيت المقدس من بناء سليمان كما هو نص كتاب اليهود ، وأشار إليه القرآن في قوله : { يعملون له ما يشاء من محاريب } [ سبأ : 13 ] الآية ، فالظاهر أنّ إبراهيم لمَّا مرّ ببلاد الشَّام ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسلهُ عيَّن الله له الوضع الَّذي سيكون به أكبر مسجدٍ تبنيه ذرّيّته ، فأقام هنالك مسجداً صغيراً شكراً لله تعالى ، وجعله على الصّخرة المجعولة مذبحاً للقربان . وهي الصّخرة الَّتي بنى سليمان عليها المسجد ، فلمَّا كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك البناء حتَّى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه ، وهذا من العِلم الَّذي أهملتْه كتب اليهود ، وقد ثبت في سفر التَّكوين أنّ إبراهيم بنى مذابح في جهات مرّ عليها من أرض الكنعانيين لأنّ الله أخبره أنَّه يعطي تلك الأرض لنسله ، فالظاهر أنّه بنى أيضاً بموضع مسجد أرشليم مذبحاً .
و { مباركاً } اسم مفعول من بارك الشيء إذا جعل له بركة وهي زيادة في الخير . أي جُعلت البركة فيه بجعل الله تعالى ، إذ قَدّرَ أن يكون داخلُهُ مُثاباً ومحصّلا على خيْر يبلغه على مبلغ نيته ، وقدّر لمجاوريه وسكّان بلده أن يكونوا ببركة زيادةِ الثَّوابِ ورفاهية الحال ، وأمر بجعل داخله آمناً ، وقدّر ذلك بين النَّاس فكان ذلك كلّه بركة . وسيأتي معنى البركة عند قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الَّذي بين يديه } في سورة [ الأنعام : 92 ] .
( ووصفه بالمصدر في قوله : وهُدى } مبالغة لأنَّه سبب هدى .
وجُعل هدى للعالمين كلِّهم : لأنّ شهرته وتسامع النَّاس به ، يحملهم على التساؤل عن سبب وضعه ، وأنَّه لتوحيد الله ، وتطهير النُّفوس من خبث الشرك فيهتدي بذلك المهتدي ، ويرعوي المتشكك .
ومن بركة ذاته أنّ حجارته وضعتْها عند بنائه يد إبراهيم ، ويد إسماعيل ، ثُمّ يدُ محمَّد صلى الله عليه وسلم ولا سيما الحجر الأسود . وانتصب { مباركاً وهدى } على الحال من الخبر ، وهو اسم الموصول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن أول بيت}: يعني أول مسجد. {وضع للناس}: يعني للمؤمنين. {للذي ببكة مباركا}: وإنما سمي بكة، لأنه يبك الناس بعضهم بعضا في الطواف، و"مباركا": فيه البركة، مغفرة للذنوب. {وهدى للعالمين}: يعني المؤمنين من الضلالة لمن صلى فيه، وضلالة لمن صلى قبل بيت المقدس، وذلك أن المسلمين واليهود اختصموا في أمر القبلة، فقال المسلمون: القبلة الكعبة، وقالت اليهود: القبلة بيت المقدس، فأنزل الله عز وجل أن الكعبة أول مسجد كان في الأرض، والبيت قبلة لأهل المسجد الحرام، والحرم كله قبلة الأرض...
223- ابن رشد: سئل مالك عن تفسير مكة وبكة، فقال: بكة: موضع البيت، ومكة: غيره من المواضع...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: تأويله: إن أوّل بيت وضع للناس يعبد الله فيه مباركا وهدى للعالمين، الذي ببكة. قالوا: وليس هو أوّل بيت وضع في الأرض، لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة... قد كانت قبله بيوت، ولكنه أوّل بيت وضع للعبادة.
وقال آخرون: بل هو أوّل بيت وضع للناس. ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أوّل؛ فقال بعضهم: خُلِق قبل جميع الأرضين، ثم دحِيَت الأرضون من تحته... وقال آخرون: موضع الكعبة، موضع أوّل بيت وضعه الله في الأرض. والصواب من القول في ذلك: ما قال جلّ ثناؤه فيه: إن أوّل بيت مبارك وهدى وضع للناس، للذي ببكة. ومعنى ذلك: إن أوّل بيت وضع للناس: أي لعبادة الله فيه مباركا وهدى، يعني: بذلك ومآبا لنسك الناسكين وطواف الطائفين، تعظيما لله وإجلالاً له¹ للّذي ببكة¹ لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما:
حدثنا به محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله، أيّ مسجد وضع أوّل؟ قال: «المَسْجدُ الحَرامُ» قال: ثم أيّ؟ قال: «المَسْجدُ الأقْصَى» قال: كم بينهما؟ قال: أرْبَعُونَ سَنَةٌ».
فقد بين هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن المسجد الحرام هو أوّل مسجد وضعه الله في الأرض على ما قلنا.
{للّذِي بِبكّةَ مُبارَكا}: للبيت الذي بمزدحم الناس لطوافهم في حجهم وعمرهم وأصل البكّ: الزحم، يقال منه: بَكّ فلان فلانا: إذا زحمه وصدمه، فهو يَبُكّه بَكّا، وهم يَتَباكّون فيه: يعني به: يتزاحمون ويتصادمون فيه، فكان بَكّة: «فَعْلَة» من بَكّ فلانٌ فلانا: زحمه، سميت البقعة بفعل المزدحمين بها. فإذا كانت بكة ما وصفنا، وكان موضع ازدحام الناس حول البيت، وكان لا طواف يجوز خارج المسجد، كان معلوما بذلك أن يكون ما حول الكعبة من داخل المسجد، وأن ما كان خارج المسجد فمكة لا بكة¹ لأنه لا معنى خارجه يوجب على الناس التباكّ فيه. وإذا كان ذلك كذلك كان بيّنا بذلك فساد قول من قال بكة: اسم لبطن مكة، ومكة: اسم للحرم.
عن أبي مالك الغفاري، قال: بكة: موضع البيت، ومكة: ما سوى ذلك.
وقال بعضهم: {إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ} قال: هي مكة.
وقيل: {مُبارَكا} لأن الطواف به مغفرة للذنوب.
{وهُدًى لِلْعَالَمِينَ}: يعني بياناً ودلالة على الله لما أظهر فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره؛ وهو أمْنُ الوحش فيه حتى يجتمع الكلب والظبي في الحرم، فلا الكلب يهيج الظبي ولا الظبي يتوحش منه؛ وفي ذلك دلالة على توحيد الله وقدرته. وهذا يدل على أن المراد بالبيت ههنا البيت وما حوله من الحرم؛ لأن ذلك موجود في جميع الحرم. {مُبَارَكاً}: يعني أنه ثابت الخير والبركة؛ لأن البركة هي ثبوت الخير ونُمُوُّهُ وَتَزَيُّدُهُ، والبَرْكُ هو الثبوت. وفي هذه الآية ترغيب في الحج إلى البيت الحرام بما أخبر عنه من المصلحة فيه والبركة ونموّ الخير وزيادته مع اللطف في الهداية إلى التوحيد والديانة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أصل بكة من البك، وهو: الزحم...ومنه البك: دق العنق، لأنه فكه بشدة زحمة، فقيل: سميت بكة، لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم لم يمهلوا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وُضِعَ لِلنَّاسِ} صفة لبيت، والواضع هو الله عز وجلّ، تدل عليه قراءة من قرأ «وضع للناس» بتسمية الفاعل وهو الله. ومعنى وضع الله بيتا للناس، أنه جعله متعبداً لهم، فكأنه قال: إن أوّل متعبد للناس الكعبة. {لَلَّذِي بِبَكَّةَ}: البيت الذي ببكة، وهي عَلَمٌ للبلد الحرام، ومكة وبكة لغتان فيه... {مُبَارَكاً}: كثير الخير لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب. {وَهُدًى للعالمين}: لأنه قبلتهم ومتعبدهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقرأ جمهور الناس: «وُضع» على بناء الفعل للمفعول على معنى وضعه الله، وقرأ عكرمة، «وَضع» بفتح الواو والضاد، فيحتمل أن يريد: وضع الله... ويحتمل أن يريد وضع إبراهيم عليه السلام، فيكون المعنى متصلاً بالذي قبله، وتكون هذه الآية استدعاء لهم إلى ملته، في الحج وغيره،... وفي وصف البيت ب {هدى} مجازية بليغة، لأنه مقوم مصلح، فهو مرشد، وفيه إرشاد، فجاء قوله، {وهدى} بمعنى وذا هدى، ويحتمل أن يكون {هدى} في هذه الآية، بمعنى الدعاء، أي من حيث دعي العالمون إليه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الأولى: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قيل له: أيُّ المسجدين وُضِع في الأرض أول؟ المسجد الحرام أو المسجد الأقصى؟ قال: «المسجد الحرام». وذكر أنه كان بينهما أربعون عاماً؛ وهذا ردٌّ على مَن يقول: كان في الأرض بَيْتٌ قبله تحجُّه الملائكة.
قيل: ثوابُ الأعمال. وقيل: ثواب القاصِد إليه. وقيل: أَمْن الوحْش فيه. وقيل: عزُوف النفسِ عن الدنيا عند رؤيته.
والصحيحُ أنه مبارك من كلِّ وجْهٍ من وجوه الدنيا والآخرة، وذلك بجميعه موجود فيه.
ذكر في هذه الآية فضيلة البيت، ليفرع عليه إيجاب الحج. الرابع: أن اليهود والنصارى زعم كل فرقة منهم أنه على ملة إبراهيم، وقد سبقت هذه المناظرة في الآيات المتقدمة، فإن الله تعالى بين كذبهم، من حيث أن حج الكعبة كان ملة إبراهيم واليهود والنصارى لا يحجون، فيدل هذا على كذبهم في ذلك،... واعلم أن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه، لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود، إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أما قوله عز وجل: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) فهو جواب الشبهة الثانية، وتقريره: إن البيت الحرام الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع معبدا للناس؛ بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام لأجل العبادة خاصة. ثم بني المسجد الأقصى ببيت المقدس بعده بعدة قرون بناه سليمان بن داود عليهما السلام. فصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم، ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وولده إسماعيل. وهذا هو المعنى الظاهر المتبادر من الآية الذي قرره الأستاذ الإمام. وهو كاف في إبطال شبهة اليهود على النبي عليه الصلاة والسلام من غير حاجة إلى البحث في هذه الأولية، هل هي أولية الشرف أو أولية الزمان؟
أقول: والمتبادر أنها أولية الزمان بالنسبة إلى بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء. فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يعرف من تاريخهم وما يؤثر عنهم. وهذا يستلزم الأولية في الشرف.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الأولية زمانية بالنسبة إلى وضع البيوت مطلقا. فقالوا: إن الملائكة بنته قبل خلق آدم وأن بيت المقدس بني بعده بأربعين عاما. وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: إذا صح الحديث فلا شيء في العقل يحيله. ولكن الآية لا تدل عليه ولا يتوقف الاحتجاج بها على ثبوته... والحديث الذي ذكر آنفا في بناء المسجدين رواه الشيخان من حديث أبي ذر بلفظ الوضع لا البناء. قال "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس فقال: المسجد الحرام ثم بيت المقدس. فقيل: كم بينهما؟ فقال: "أربعون سنة "وأجابوا عما فيه من الإشكال بوجوه، منها: أن الوضع غير البناء وهو ضعيف، لأنه سماه بيتا. ولو جعل المكان مسجدا ولم يبن فيه لما سمي بيتا بل مسجدا أو قبلة. ومنها: أن ذلك مبني على القول بأن إبراهيم هو الذي بنى أول مسجد للعبادة في أرض بيت المقدس. وذلك معقول وإن لم يكن عندنا فيه نص صحيح. وقال ابن القيم: إن الذي أسس بيت المقدس يعقوب، وإنما كان سليمان مجددا له. هذا وإن أخبار التاريخ ليست مما بلغ على أنه دين يتبع. والموضوعات المروية في بناء الكعبة كثيرة ولا حاجة إلى إضاعة الوقت في ذكرها وبيان وضعها.
أما قوله تعالى في البيت: (مباركا وهدى للعالمين) فهو بيان لحاله الحسنة الحسية وحاله الشريفة المعنوية. أما الأولى: فهي ما أفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شيء على كونه بواد غير ذي زرع. فترى الأقوات والثمار في مكة أكثر وأجود وأقل ثمنا منها في مثل مصر وكثير من بلاد الشام. وأما الثانية: فهي هُويّ أفئدة الناس إليه وإتيانه للحج والعمرة مشاة وركبانا من كل فج، وتولية وجوههم شطره في الصلاة، ولعله لا تمر ساعة ولا دقيقة من ليل أو نهار وليس فيها أناس متوجهون إلى ذلك البيت الحرام يصلون. فأي هداية للعالمين أظهر من هذه الهداية. تلك دعوة إبراهيم (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) [إبراهيم: 37] وقد أشير إلى الوصفين في قوله تعالى:حكاية عن المشركين (وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون) [القصص: 57] وقال بعضهم: إن "مباركا "يشمل البركات الحسية والمعنوية. وما اخترناه هو المتبادر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا الكلام واقع موقع التّعليل للأمر في قوله: {فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً} [آل عمران: 95] لأنّ هذا البيت المنوّه بشأنه كان مقاماً لإبراهيم ففضائل هذا البيتِ تحقّق فضيلة شرع بانيه في متعارف النَّاس، فهذا الاستدلال خطابي، وهو أيضاً إخبار بفضيلة الكعبة، وحرمتها فيما مضى من الزّمان...
والمعنى: أنَّه أوّل بيت عبادة حقّة وضع لإعلان التَّوحيد، بقرينة المقام، وبقرينة قوله: {وُضع للنَّاس} المقتضى أنَّه من وضعِ واضعٍ لمصلحة النَّاس، لأنَّه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه النَّاس، وبقرينة مجيء الحالين بعدُ؛ وهما قوله: {مباركاً وهدى للعالمين}. وهذا تأويل في معنى بيت، وإذا كان أوّلَ بيتِ عبادة حقَ، كان أوّل معهد للهدى، فكان كُلّ هدى مقتبساً منه فلا محيص لكلّ قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله، وذلك يوجب اتّباع الملّة المبنيّة على أسس ملّة بانيه، وهذا المفاد من تفريع قوله: {فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً} [البقرة: 95].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين الله سبحانه وتعالى بطلان ما كان يحتج به أهل الكتاب في الآيات السابقة، ورد عليهم بما يرشدهم إلى الصواب لو كانوا طلاب هداية، وباحثين عن الحقيقة لا يبغونها عوجا؛ وفي هذه الآية وما وليها، يرشدهم إلى الأمر الجامع الذي يلتقون فيه مع العرب، وهو الاتصال بإبراهيم الذي يعتزون بنسبتهم إليه.
إن المؤمن ملتزم بالاتجاه إلى مكان واحد، هذا المكان الواحد هو بيت لله باختيار الله بينما المساجد الأخرى هي بيوت لله باختيار خلق الله، فبيوت الله باختيار خلق الله متجهها جميعا هو بيت الله الحرام.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّ الخصائص الأولى التي ذكرها اللّه لهذا البيت الكعبة توحي بمعنى الشمول في ما يريده اللّه لبيته هذا، كما يوحي به لبقية البيوت، فقد وضعه اللّه للنَّاس ولم يجعله لفئةٍ دون فئة، لأنَّه وُضع لعبادة اللّه التي لا يختص بها أحد، فلا معنى لاختصاصه بأحد معيّن. وقد نستوحي منه أن لا تشيد المساجد لتكون لعائلة معينة أو لجماعة معينة، بحيث تمنع منها بقيّة العائلات أو الجماعات، لأنَّ المسجد لم يوضع ليتحدّد، بل ليكون شاملاً لكلّ النَّاس تبعاً لشمولية دوره في أن يكون محلاً لعبادة اللّه ربّ العالمين. وقد جعله [مباركاً]، والبركة هي الخير الكثير الذي تمتد منه المنافع والمصالح للنّاس، ما يعني أنَّ دور المسجد لا يتحدّد بالعبادة، بل يتسع لكلّ منافع النَّاس، سواء كانت علميّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو غير ذلك من الأمور المتصلة بحياة النَّاس العامّة. وفي ضوء ذلك، كان الدور الإسلامي للمسجد هو أن يكون الملتقى الروحي للنّاس، فيعبدون اللّه ويتعلّمون العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم، ويجتمعون فيه للتداول في أمورهم الداخلية والخارجية، فكانت تنطلق من منابره التوجيهات والتخطيطات المتعلّقة بتنظيم حياتهم كما تنطلق منها صيحات الجهاد. وسارت حياة المسلمين في مساجدهم على هذا الخطّ، فكانت تجسيداً للمفهوم الإسلامي للعبادة التي تنفتح على اللّه سبحانه، لينفتح النَّاس من خلال ذلك على الحياة من مواقعها المضيئة المتحرّكة في سبيل الخير...
وقد نستوحي من كلمة [مباركاً] المعنى الممتد في حياة النَّاس الذين يقصدون هذا البيت من سائر أنحاء العالم، ليجتمعوا حوله على أساس كلمة التوحيد التي توحدهم، والرسالة التي تجمعهم، والقضايا الحيوية التي تتحرّك في واقعهم الخاص والعام، لا سيّما القضايا المتصلة بالمصير السياسي والثقافي والاقتصادي والأمني والاجتماعي أمام التحدّيات الكبرى التي يواجهونها من قِبل الكفر والاستكبار العالميين، ليتعارفوا فيما بينهم وليتبادلوا المعلومات، وليستلهموا التجارب، وليخطّطوا للوحدة في الموقف، من حيث إحساسهم بوحدة أمتهم في خطِّها العقيدي والعملي، وفي مصيرها الواحد، وليتحاوروا في ما اختلفوا فيه من تفاصيل العقيدة والشريعة والمنهج، والأمور المتصلة بالواقع السياسي والأمني والاقتصادي في علاقاتهم ببعضهم البعض وبالآخرين، وليحرّكوا أوضاعهم الاقتصادية على أساس خطّة سليمة تحقّق لهم الإنتاج مما يحتاجونه في حياتهم العامّة، بحيث يصلون إلى مستوى الاكتفاء الذاتي ليكونوا في موقع الاستقلال في إدارة أمورهم، وهكذا يتحوّل الحج إلى مؤتمر إسلامي عالمي يحقّق البركة للإسلام في فكره وحركته، وللمسلمين في وجودهم وامتدادهم وأوضاعهم العامّة والخاصّة، وهذا ما نستوحيه من الكلمة المعبِّرة [مباركاً]...
وقد جعله الله [وهدى للعالمين] من خلال ما يهدي إليه من سعادة الدُّنيا والآخرة، ما يوحي بأنَّ مهمّة المساجد للقائمين عليها هي هداية النَّاس بالممارسة من خلال عبادة اللّه فيها، وبالتوجيه من خلال توجيه النَّاس وتعليمهم وتثقيفهم بأمور دينهم في كلِّ ما يتصل بحياتهم، لينطلق المسلمون من المساجد إلى حياتهم من خلال الانفتاح على كلّ المعاني الكبيرة التي يستهدفها الإسلام للحياة، وليحمل كلّ واحد منهم المعرفة الشاملة لشريعة اللّه في كلّ أحكامها المتصلة بالحياة الخاصّة والعامّة، لتكون الشريعة ومفاهيم الإسلام المنبثقة عنها في كلّ فكرٍ وعلى كلّ لسان، فلا تبقى محتكرةً على فئة معينة من النَّاس، لنستطيع من خلال ذلك أن نجعل من كلّ مسلم إنساناً واعياً متحرّكاً يعمل في حياته الخاصّة لإسلامه من موقع الوعي، ويدعو إليه بطريقة واعية من قاعدة الحركة. وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نؤكّد بأنَّ القائمين على شؤون المساجد الذين يقتصرون فيها على إقامة الجماعة، ولا يقومون بمهمة التوجيه والهداية، ويحولونها إلى منطقة نفوذ يتوارثها الأبناء عن الآباء، هم من المنحرفين عن رسالة المسجد التي هي الهدى للنَّاس بحسب ما يتسع له المسجد من ذلك...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ممّا يجدر الانتباه إليه هو أن «الكعبة» والتي تسمى في تسمية أخرى ب «بيت الله» وصفت في هذه الآية بأنها «بيت للناس»، وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامة وهي: أن كلّ ما يكون باسم الله ويكون له، يجب أن يكون في خدمة الناس من عباده، وأن كلّ ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو لله سبحانه. كما تتضح ضمن ما نستفيده من هذه الآية قيمة الأسبقية في مجال العلاقات بين الخلق والخالق، ولذلك نجد القرآن يشير في هذه الآية إلى أسبقية الكعبة على جميع الأماكن الأخرى، وإلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن، معتبراً ذلك أول وأهم ما تتسم به الكعبة من الفضائل والمزايا، ومن هنا يتضح أيضاً علّة ما للحجر الأسود من الحرمة، ويتبين جواب ما يحوم حوله من سؤال مفاده: ما قيمة قطعة من الحجر ولماذا يندفع ويتدافع لاستلامه ملايين الناس كلّ عام، ويتسابقون في عناء بالغ إليه حتّى أن استلامه يعد من المستحبات المؤكّدة في مناسك الحجّ وبرامجه؟ إن تاريخ هذا الحجر يكشف عن ميزة خاصة في هذا الحجر لا نجدها في أي حجر آخر غيره في هذا العالم، وهي أن هذا الحجر أسبق شيء استخدم كمادة إنشائية في أقدم بيت شيد لعبادة الله، وتقديسه، وتوحيده، فإننا نعلم بأن جميع المعابد حتّى الكعبة قد فقدت موادها الإنشائية في كلّ عملية انهدام وتجديد، عدا هذه القطعة من الصخر التي بقيت منذ آلاف السنين، واستخدمت في بناء هذه البنية المعظمة على طول التاريخ منذ تأسيسها وإلى الآن. ولا شكّ أن لهذه الاستمرارية، وتلك الأسبقية في طريق الله وفي خدمة الناس قيمة وأهمية من شأنها أن تكسب الأشياء والأشخاص ميزة لا يمكن تجاهلها. كلّ هذا مضافاً إلى أن هذه الصخرة ليست إلاَّ تاريخ صامت لأجيال كثيرة من المؤمنين في الأعصر المختلفة، فهي تحيي ذكرى استلام الأنبياء العظام وعباد الله البررة لها، وعبادتهم، وتضرعهم إلى الله في جوارها عبر آلاف السنين ومئات من القرون والأحقاب.