179- وإن رحمة الله بكم لعظيمة في فرض القصاص عليكم ، فبفضل القصاص عليكم تتحقق للمجتمع حياة آمنة سليمة . وذلك أن من يهم بالقتل إذا علم أن في ذلك هلاك نفسه لم ينفذ ما هَمَّ به ، وفى ذلك حياته وحياة من هَمَّ بقتله ، وإذا قتل الرئيس بالمرءوس وغير المذنب بالمذنب - كما هو شأن الجاهلية - كان ذلك مثاراً للفتن واختلال النظام والأمن . فلْيتدبر أولو العقول مزية القصاص فإن ذلك يحملهم على إدراك لطف الله بهم إلى سبيل التقوى وامتثال أوامر الله سبحانه .
ثم بين - سبحانه - الحكمة في مشروعية القصاص توطيناً للنفوس على الانقياد له ، وتقوية لعزم الحكام على إقامته فقال - تعالى - : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } أي : ولكم في مشروعية القصاص حياة عظيمة ، فالتنوين للتعظيم .
قال صاحب الكشاف ، وذلك أنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني قبيلة بكر بن وائل . وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر ، فلما جاء الإِسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة ، أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه ارتدع فسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود ، فكان القصاص سبب حياة نفسين .
هذا وقد نقل عن العرب ما يدل على أنهم تحدثوا عن حكمة القصاص ومن أقوالهم في هذا الشأن : " قتل البعض إحياء للجميع ، وأكثروا القتل ليقل القتل " وأجمعوا على أن أبلغ الأقوال التي عبروا بها عن هذا المعنى قولهم " القتل أنفى للقتل " وقد أجمع أولو العلم على أن قوله - تعالى - { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } أبلغ من هذه العبارة التي نطق بها حكماء العرب ، بمقدار ما بين كلام الخالق وكلام المخلوق ، وذكروا أن الآية تفوق ما نطق به حكماء العرب من وجوه كثيرة من أهمها :
1 - أن الآية جعلت سبب الحياة القصاص وهو القتل على وجه التساوي ، أما العبارة العربية فقد جعلت سبب الحياة القتل ، ومن القتل ما يكون ظلماً ، فيكون سببا للفناء لا للحياة ، وتصحيح هذه العبارة أن يقال : القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما .
2 - أن الآية جاءت خالية من التكرار اللفظي ، فعبرت عن القتل الذي هو سبب الحياة بالقصاص . والعبارة كرر فيها لفظ القتل فمسها بهذا التكرار من القتل ما سلمت منه الآية .
3 - أن الآية جعلت القصاص سبباً للحياة التي تتوجه إليها الرغبة مباشرة ، والعبارة العربية جعلت القتل سبباً لنفي القتل الذي تترتب عليه الحياة .
4 - الآية مبنية على الإِثبات والمثل على النفي ، والإِثبات أشرف لأنه أول والنفي ثان له .
5 - أن تنكير حياة في الآية يفيد تعظيماً ، فيدل على أن القصاص حياة متطاولة كما في قوله - تعالى - { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } ولا كذلك المثل . فإن اللام فيه للجنس ، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء .
6 - تعريف { القصاص } بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل - وغير ذلك ، والمثل لا يشمل ذلك .
7 - أن الآية مع أفضليتها عن المثل من حيث البلاغة والشمول واللفظ والمعنى أقل حروفاً من المثل .
هذه بعض وجوه أفضلية الآية على المثل ، وهناك وجوه أخرى ذكرها العلماء في كتبهم .
وفي قوله : { ياأولي الألباب } تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص .
و { الألباب } : جمع لب وهو العقل الخالص من شوائب الأوهام ، أو العقل الذيك الذي يستبين الحقائق بسرعة وفطنة ، ويستخرج لطائف المعاني من مكانها ببراعة وحسن تصرف .
وفي هذا النداء تنبيه على أن من ينكرون مصلحة القصاص وأثره النافع في تثبيت دعائم الأمن ، يعيشون بين الناس بعقول غير سليمة ، ولا يزال الناس يشاهدون في كل عصر ما يثيره القتل في صدور أولياء القتلى من أحقاد طاغية ، لولا أن القصاص يخفف من سطوتها لتمادت بهم في تقاطع وسفك دماء دون الوقوف عند حد .
وختمت الآية بهذه الجملة التعليلية { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون } زيادة في إقناع نفوسهم بأمر القصاص ، أي : شرعنا لكم هذه الأحكام الحكيمة لتتقوا القتل حذراً من القصاص ، ولتعيشوا آمنين مطمئنين ، ومتوادين متحابين .
وبهذا البيان الحكيم تكون الآيتان الكريمتان قد أرشدنا إلى ما يحمى النفوس ، ويحقن الدماء ، ويردع المعتدين عن الاعتداء ، ويغرس بين الناس معاني التسامح والإِخاء ، ويقيم حايتهم على أساس من الرحمة والعدالة وحسن القضاء .
وقوله : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يقول تعالى : وفي شَرْع القصاص لكم - وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة لكم ، وهي بقاء المُهَج وصَوْنها ؛ لأنه إذا علم القاتلُ أنه يقتل انكفّ عن صنيعه ، فكان في ذلك حياة النفوس . وفي الكتب المتقدمة : القتلُ أنفى للقتل . فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح ، وأبلغ ، وأوجز .
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة ، فكم من رجل يريد أن يقتُل ، فتمنعه مخافة أن يُقتل .
وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي مالك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، { يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يقول : يا أولي العقول والأفهام والنهى ، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه ، والتقوى : اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات .
{ ولكم في القصاص حياة } كلام في غاية الفصاحة والبلاغة من حيث جعل الشيء محل ضده ، وعرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما ، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل ، فيكون سبب حياة نفسين . ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل ، والجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم . فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم . وعلى الأول فيه إضمار وعلى الثاني تخصيص .
وقيل : المراد بها الحياة الأخروية ، فإن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة . { ولكم في القصاص } يحتمل أن يكونا خبرين لحياة وأن يكون أحدهما خبرا والآخر صلة له ، أو حالا من الضمير المستكن فيه . وقرئ في " القصص " أي فيما قص عليكم من حكم القتل حياة ، أو في القرآن حياة للقلوب . { يا أولي الألباب } ذوي العقول الكاملة . ناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس . { لعلكم تتقون } في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له ، أو عن القصاص فتكفوا عن القتل .
تذييل لهاته الأحكام الكبرى طمأن به نفوس الفريقين أولياءَ الدم والقاتلين في قبول أحكام القصاص ، فبين أن في القصاص حياة ، والتنكير في { حياة } للتعظيم بقرينة المقام ، أي في القصاص حياة لكم أي لنفوسكم ؛ فإن فيه ارتداع الناس عن قتل النفوس ، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس ؛ لأن أشدَّ ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت ، فلو علم القاتل أنه يَسلم من الموت لأقدم على القتل مستخفاً بالعقوبات كما قال سعد بن ناشب لما أصاب دَماً وهرب فعاقبه أمير البصرة بهدم داره بها :
سَأَغْسِلُ عني العار بالسيف جالبا *** عليَّ قضاءُ الله ما كان جالبــا
وأَذْهَل عَن داري وأَجْعَلُ هَدْمَهـا *** لِعِرْضِيَ من باقي المذمَّة حاجبا
ويَصْغُر في عينِي تلادي إذا انْثَنَتْ *** يَميني بإدراكِ الذي كنتُ طالبا
ولو ترك الأمر للأخذ بالثأر كما كان عليه في الجاهلية لأفرطوا في القتل وتسلسل الأمر كما تقدم ، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من الجانبين ، وليس الترغيب في أخذ مال الصلح والعفو بناقض لحكمة القصاص ؛ لأن الازدجار يحصل بتخيير الولي في قبول الدية فلا يطمئن مضمر القتل إلى عفو الولي إلاّ نادراً وكفى بهذا في الازدجار .
وفي قوله تعالى : { يا أولي الألباب } تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص ، ولذلك جيء في التعريف بطريق الإضافة الدالة على أنهم من أهل العقول الكاملة ؛ لأن حكمة القصاص لا يدركها إلاّ أهل النظر الصحيح ؛ إذ هو في باديء الرأي كأنه عقوبة بمثل الجناية ؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا رزية للوجهين المتقدمَيْن .
وقال : { لعلكم تتقون } إكمالاً للعلة أي تقريباً لأن تتقوا فلا تتجاوزوا في أخذ الثأر حدَّ العدل والإنصاف . ولعل للرجاء وهي هنا تمثيل أو استعارة تبعية كما تقدم عند قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم إلى قوله لعلكم تتقون } [ البقرة : 21 ] في أول السورة .
وقوله : { في القصاص حياة } من جوامع الكلم ، فاق ما كان سائراً مسرى المثل عند العرب وهو قولهم ( القتل أَنْفَى لِلْقَتْل ) ، وقد بينه السكاكي في « مفتاح العلوم » و« ذيله » من جاء بعده من علماء المعاني ، ونزيد عليهم : أن لفظ القصاص قد دل على إبطال التكايل بالدماء وعلى إبطال قتل واحد من قبيلة القاتل إذا لم يظفروا بالقاتل ، وهذا لا تفيده كلمتهم الجامعة .