11- يا أيها الذّين آمنوا : لا يسخر رجال منكم من رجال آخرين ، عسى أنْ يكونوا عند الله خيراً من الساخرين . ولا يسخر نساء مؤمنات من نساء مؤمنات عسى أن يكنَّ عند الله خيراً من الساخرات ولا يعب بعضكم بعضاً ، ولا يدْعُ الواحد أخاه بما يستكره من الألقاب . بئس الذكر للمؤمنين أن يُذكروا بالفسوق بعد اتصافهم بالإيمان ، ومن لم يرجع عمَّا نهى عنه فأولئك هم - وحدهم - الظالمون أنفسهم وغيرهم .
ثم وجه - سبحانه - إلى المؤمنين نداء رابعا ، نهاهم فيه عن أن يسخر بعضهم من بعض ، أو أن يعيب بعضهم بعضا فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ . . . } .
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت فى قوم من بنى تميم ، سخروا من بلال ، وسلمان ، وعمار ، وخباب . . لما رأوا من رثاثة حالهم ، وقلة ذات يدهم .
ومن المعروف بين العلماء ، أن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .
وقوله : { يَسْخَرْ } من السخرية ، وهى احتقار الشخص لغيره بالقول أو بالفعل ، يقال : سخر فلان من فلان ، إذا استهزأ به ، وجعله مثار الضحك ، ومنه قوله - تعالى - حكاية من نوح مع قومه : { . . قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } قال صاحب الكشاف : والقوم : الرجال خاصة ، لأنهم القوام بأمور النساء . . واختصاص القوم بالرجال صريح فى الآية ، وفى قوله الشاعر : أقوم آل حصن أم نساء .
وأما قولهم فى قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإِناث ، فليس لفظ القوم بمتعاطف للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور ، وترك ذكر الإِناث لأنهن توابع لرجالهن .
أى : يا من آمنتم بالله حق الإِيمان ، لا يحترق بعضكم بعضا ولا يستهزئ بعضكم من بعض .
وقوله : { عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } تعليل للنهى عن السخرية . أى : عسى أن يكون المسخور منه خيرا عند الله - تعالى - من الساخر ، إذ أقدار الناس عنده - تعالى - ليست على حسب المظاهر والأحساب . . وإنما هى على حسب قوة الإِيمان ، وحسن العمل .
وقوله : { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } معطوف على النهى السابق ، فى ذكر النساء بعد القوم قرينة على أن المراد بالقوم الرجال خاصة .
أى : عليكم يا معشر الرجال أن تبتعدوا عن احتقار غيركم من الرجال ، وعليكن يا جماعة النساء أن تقلعن إقلاعا تاما من السخرية من غيركن .
ونكر - سبحانه - لفظ { قَوْمٌ } و { نِسَآءٌ } للإِشعار بأن هذا النهى موجه إلى جميع الرجال والنساء ، لأن هذه السخرية منهى عنها بالنسبة للجميع .
وقد جاء النهى عن السخرية موجها إلى جماعة والنساء ، جريا على ما كان جاريا فى الغالب ، من أن السخرية كانت تقع فى المجامع والمحافل ، وكان الكثيرون يشتركون فيها على سبيل التلهى والتلذذ .
ثم قال - تعالى - { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } أى : ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة سواء أكان على وجه يضحك أم لا ، وسواء كان بحضرة الملموز أم لا ، فهو أعم من السخرية التى هى احتقار الغير بحضرته ، فالجملة الكريمة من باب عطف العام على الخاص .
يقال : لمز فلان فلانا ، إذا عابه وانتقصه ، وفعله من باب ضرب ونصر .
ومنهم من يرى أن اللمز ما كان سخرية ولكن على وجه الخفية ، وعليه يكون العطف من باب عطف الخاص على العام ، مبالغة فى النهى عنه حتى لكأنه جنس آخر .
أى : ولا يعب بعضكم بعضا بأى وجه من وجوه العيب . سواء أكان ذلك فى حضور الشخص أم فى غير حضوره .
وقال - سبحانه - { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } مع أن اللامز يلمز غيره ، للإِشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم ، فكأنما عاب نفسه ، كما قال - تعالى : { . . . فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } وقوله : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } أى : ولا يخاطب أحدكم غيره بالألفاظ التى يكرهها ، بأن يقول له أحمق ، أو يا أعرج ، أو يا منافق . . أو ما يشبه ذلك من الألقاب السيئة التى يكرهها الشخص .
فالتنابر : التعاير والتداعى بالألقاب المكروهة ، يقال : نبزه ينبزه - كضربه يضربه - إذا ناداه بلقب يكرهه ، سواء أكان هذا اللقب للشخص أم لأبيه أم لأمه أم لغيرهما .
وقوله - تعالى - : { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } تعليل للنهى عن هذه الرذائل والمراد بالاسم : ما سبق ذكره من السخرية واللمز التنابر بالألقاب ، والمخصوص بالذم محذوف . أى : بئس الفعل فعلكم أن تذكروا إخوانكم فى العقيدة بما يكرهونه وبما يخرجهم عن صفات المؤمنين الصادقين ، بعد أن هداهم الله - تعالى - وهداكم إلى الإِيمان .
وعلى هذا فالمراد من الآية نهى المؤمنين أن ينسبوا إخوانهم فى الدين إلى الفسوق بعد اتصافهم بالإِيمان .
قال صاحب الكشاف : الاسم ههنا بمعنى الذِّكْر ، من قولهم : فلان طار اسمه فى الناس بالكرم أو باللؤم ، كما يقال : طار ثناؤه وَصِيتُه . . كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين . . أن يذكروا بالفسق .
ويصح أن يكون المراد من الآية الكريمة نهى المؤمنين عن ارتكابهم لهذه الرذائل ، لأن ارتكابهم لهذه الراذائل ، يؤدى بهم إلى الفسوق والخروج عن طاعة الله - تعالى - بعد أن اتصفوا بصفة الإِيمان .
وقد أشار إلى هذا المعنى الإِمام ابن جرير فقال ما ملخصه : وقوله { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } . يقول - تعالى - ومن فعل ما نهينا عنه ، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه المؤمن ونبره بالألقاب ، فهو فاسق ، بئس الاسم الفوق بعد الإِيما ، ، يقول : فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه . أن تسموا فساقا - بعد أن وصفهم بصفة الإِيمان .
وقال الإِمام الفخر الرازى ما ملخصه : هذا أى قوله - تعالى - { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } من تام الزجر كأنه - تعالى - يقول : يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ، ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا فإن من يفعل ذلك يفسق بعد إيمانه ، والمؤمن يقبح منه أن يأتى بعد إيمانه بفسوق . . ويصير التقدير : بئس الفسوق بعد الإِيمان .
ويبدو لنا أن هذا الرأى أنسب للسياق ، إذ المقصود من الآية الكريمة نهى المؤمنين عن السخرية أو اللمز أو التنابز بالألقاب ، لأن تعودهم على ذلك يؤدى بهم إلى الفسوق عن طاعة الله - تعالى - والخروج عن آدابه ، وبئس الوصف وصفهم بذلك أى : بالفسق بعد الإِيمان .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } أى : ومن لم يتب عن ارتكاب هذه الرذائل ، فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ، حيث وضعوا العصيان موضع الطاعة ، والفسوق فى موضع الإِيمان .
هذا ، ومن الإِحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآية : وجوب الابتعاد عن أن يعيب المسلم أخاه المسلم ، أو يحتقره ، أو يناديه بلقب سيئ .
قال الآلوسى : انفق العلماء على تحريم تلقيب الإِنسان بما يكره ، سواء كان صفة له أم لأبيه أم لأمه أم لغيرهما .
ويستثنى من ذلك نداء الرجل قبيح فى نفسه ، لا على قصد الاستخفاف به ، كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته ، كقول المحدثين : سليمان الأعمش ، وواصل الأحدب
ينهى تعالى عن السخرية بالناس ، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس " ويروى : " وغمط الناس " {[27097]} والمراد من ذلك : احتقارهم واستصغارهم ، وهذا حرام ، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له ؛ ولهذا قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } ، فنص على نهي الرجال وعطف بنهي النساء .
وقوله : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا تلمزوا الناس . والهمَّاز اللَّماز من الرجال مذموم ملعون ، كما قال [ تعالى ] :{[27098]} { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] ، فالهمز بالفعل واللمز بالقول ، كما قال : { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } [ القلم : 11 ] أي : يحتقر الناس ويهمزهم طاعنًا عليهم ، ويمشي بينهم بالنميمة وهي : اللمز بالمقال ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } ، كما قال : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] أي : لا يقتل بعضكم بعضا{[27099]} .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومقاتل بن حَيَّان : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا يطعن بعضكم على بعض .
وقوله : { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ } أي : لا تتداعوا بالألقاب ، وهي التي يسوء الشخص سماعها .
قال{[27100]} الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : حدثني أبو جَبِيرة {[27101]} بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة : { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ } قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دُعِىَ أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله ، إنه يغضب من هذا . فنزلت : { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ }
ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل ، عن وُهَيْب ، عن داود ، به{[27102]} .
وقوله : { بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ } أي : بئس الصفة والاسم الفسوق وهو : التنابز بالألقاب ، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون ، بعدما دخلتم{[27103]} في الإسلام وعقلتموه ، { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ } أي : من هذا { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
{ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن } أي لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيرا عند الله من الساخر ، والقوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر وزور ، والقيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال الله تعالى : { الرجال قوامون على النساء } وحيث فسر بالقبيلين كقوم عاد وفرعون ، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع ، واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و { عسى } باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي ولا خبر لها لإغناء الاسم عنه . وقرئ " عسوا أن يكونا " و " عسين أن يكن " فهي على هذا ذات خبر . { ولا تلمزوا أنفسكم } أي ولا يغتب بعضكم بعضا فإن المؤمنين كنفس واحدة ، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه . واللمز الطعن باللسان . وقرأ يعقوب بالضم . { ولا تنابزوا بالألقاب } ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء ، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفا . { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به ، والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين خصوصا إذ روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي الله عنها ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها " هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليهم السلام " . أو للدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإيمان مستقبح . { ومن لم يتب } عما نهى عنه . { فأولئك هم الظالمون } بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن }
لما اقتضت الأخوة أن تَحْسُن المعاملة بين الأخوين كان ما تقرر من إيجاب معاملة الإخوة بين المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم ، فجاءت هذه الآيات منبهة على أمور من حسن المعاملة قد تقع الغفلة عن مراعاتها لكثرة تفشّيها في الجاهلية لهذه المناسبة ، وهذا نداء رابع أريد بما بَعده أمرُ المسلمين بواجب بعض المجاملة بين أفرادهم .
وعن الضحاك : أن المقصود بنو تميم إذ سخروا من بلال وعَمار وصهيب ، فيكون لنزول الآية سبب متعلق بالسبب الذي نزلت السورة لأجله وهذا من السخرية المنهي عنها .
وروى الواحدي عن ابن عباس أن سبب نزولها : « أن ثابت بن قيس بن شمَّاس كان في سمعه وَقْر وكان إذا أتى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أوسِعوا له ليجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فجاء يوماً يتخطى رقاب الناس فقال رجل : قد أصبتَ مجلساً فاجلِس . فقال ثابت : مَنْ هذا ؟ فقال الرجل : أنا فلان . فقال ثابت : ابنُ فلانة وذكر أمًّا له كان يُعيّر بها في الجاهلية ، فاستحيا الرجل . فأنزل الله هذه الآية » ، فهذا من اللمز . وروي عن عكرمة : « أنها نزلت لما عَيّرت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة بالقِصَر » ، وهذا من السخرية . وقيل : عير بعضهن صفية بأنها يهودية ، وهذا من اللمز في عرفهم .
وافتتحت هذه الآيات بإعادة النداء للاهتمام بالغرض فيكون مستقلاً غير تابع حسبما تقدم من كلام الفخر . وقد تعرضت الآيات الواقعة عقب هذا النداء لصنف مُهمّ من معاملة المسلمين بعضهم لبعض مما فشا في الناس من عهد الجاهلية التساهلُ فيها . وهي من إساءة الأقوال ويقتضي النهي عنها الأمر بأضدادها . وتلك المنهيات هي السخرية واللمز والنبز .
والسَّخر ، ويقال السخرية : الاستهزاء ، وتقدم في قوله : { فيسخرون منهم } في سورة براءة ( 79 ) ، وتقدم وجه تعديته ب ( من ) .
والقوم : اسم جمع : جماعة الرجال خاصة دون النساء ، قال زهير :
وما أدري وسوف أخال أدري *** أقوم آلُ حصن أم نساء ؟
وتنكير { قوم } في الموضعين لإفادة الشياع ، لئلا يتوهم نهي قوم معينين سخروا من قوم معينين . وإنما أسند { يسخر } إلى { قوم } دون أن يقول : لا يسخر بعضُكم من بعض كما قال : { ولا يغتب بعضكم بعضاً } [ الحجرات : 12 ] للنهي عما كان شائعاً بين العرب من سخرية القبائل بعضها من بعض فوجّه النهي إلى الأقوام . ولهذا أيضاً لم يقل : لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة . ويفهم منه النهي عن أن يسخر أحد من أحد بطريق لحن الخطاب . وهذا النهي صريح في التحريم .
وخص النساء بالذكر مع أن القوم يشملهم بطريق التغليب العرفي في الكلام ، كما يشمل لفظُ { المؤمنين } المؤمنات في اصطلاح القرآن بقرينة مقام التشريع ، فإن أصله التساوي في الأحكام إلا ما اقتضى الدليل تخصيص أحد الصنفين به دفعاً لتوهم تخصيص النهي بسخرية الرجال إذ كان الاستسخار متأصلاً في النساء ، فلأجل دفع التوهم الناشىء من هذين السيئين على نحو ما تقدم في قوله من آية القصاص { والأنثى بالأنثى } في سورة العقود ( 178 ) .
وجملة { عسى أن يكونوا خيراً منهم } مستأنفة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين تفيد المبالغة في النهي عن السخرية بذكر حالة يكثر وجودها في المسخُورية ، فتكون سخرية الساخر أفظع من الساخر ، ولأنه يثير انفعال الحياء في نفس الساخرة بينه وبين نفسه . وليست جملة { عسى أن يكونوا خيراً منهم } صفةً لقوم من قومه : { من قوم } وإلا لصار النهي عن السخرية خاصاً بما إذا كان المسخور به مظنة أنه خير من الساخر ، وكذلك القول في جملة { عسى أن يكُنَّ خيراً منهنّ } وليست صفة ل { نسَاء } من قوله : { من نسَاء } .
وتشابه الضميرين في قوله : { أن يكونوا خيراً منهم } وفي قوله : { أنْ يَكُنَّ خيراً منهن } لا لبس فيه لظهور مرجع كل ضمير ، فهو كالضمائر في قوله تعالى : { وعَمروها أكثَر مما عمَروها } في سورة الروم ( 9 ) ، وقول عباس بن مرداس :
عُدنا ولولا نحن أحْدَق جمعهم *** بالمسلمين وأحرَزُوا ما جَمَّعوا
{ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } .
اللمز : ذكر ما يَعُده الذاكر عيباً لأحد مواجهةً فهو المباشرة بالمكروه . فإن كان بحق فهو وقاحة واعتداء ، وإن كان باطلاً فهو وقاحة وكذب ، وكان شائعاً بين العرب في جاهليتهم قال تعالى : { ويل لكلِّ هُمَزة لُمزة } [ الهمزة : 1 ] يعني نفراً من المشركين كان دأبهم لَمز رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون بحالة بين الإشارة والكلام بتحريك الشفتين بكلام خفيّ يعرِف منه المواجه به أنه يذمّ أو يتوعد ، أو يتنقص باحتمالات كثيرة ، وهو غير النبز وغير الغِيبة . وللمفسرين وكتب اللغة اضطراب في شرح معنى اللمز وهذا الذي ذكرته هو المنخول من ذلك .
ومعنى { لا تلمزوا أنفسكم } لا يلمز بعضكم بعضاً فَنُزِّلَ البعضُ الملموز نَفْساً للامزه لتقرر معنى الأخوة ، وقد تقدم نظيره عند قوله : { ولا تخرجونَ أنفسكم من دياركم } في سورة البقرة ( 84 ) .
والتنابز : نبز بعضهم بعضاً ، والنبْز بسكون الباء : ذكر النَبَز بتحريك الباء وهو اللقب السوء ، كقولهم : أنف الناقة ، وقُرْقُور ، وبطَة . وكان غالب الألقاب في الجاهلية نبزا . قال بعض الفزاريين :
أكنيه حين أناديه لأكرمه *** ولا ألقبه والسَّؤْأةُ اللقب
روي برفع السوأْةُ اللقب فيكون جرياً على الأغلب عندهم في اللقب وأنه سوأة . ورواه ديوان الحماسة } بنصب السوأةَ على أن الواو واو المعية . وروي بالسوأة اللقبا أي لا ألقبه لقباً ملابساً للسوءة فيكون أراد تجنب بعض اللقب وهو ما يدل على سُوء ورواية الرفع أرجح وهي التي يقتضيها استشهاد سيبويه ببيت بعده في باب ظن . ولعل ما وقع في « ديوان الحماسة » من تغييرات أبي تمام التي نسب إليه بعضها في بعض أبيات الحماسة لأنه رأى النصب أصح معنى .
فالمراد ب { الألقاب } في الآية الألقاب المكروهة بقرينة { ولا تنابزوا } . واللقب ما أشعر بخسّة أو شرف سواء كان ملقباً به صاحبه أم اخترعه له النابز له .
وقد خصص النهي في الآية ب { الألقاب } التي لم يتقادم عهدها حتى صارت كالأسماء لأصحابها وتنوسي منها قصد الذم والسب خُصّ بما وقع في كثير من الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم " أصدق ذو اليدين " ، وقوله لأبي هريرة « يا أبا هِرّ » ، ولُقب شاول ملك إسرائيل في القرآن طالوت ، وقول المحدثين الأعرج لعبد الرحمن بن هرمز ، والأعمش لسليمان من مَهران .
وإنما قال { ولا تلمزوا } بصيغة الفعل الواقع من جانب واحد وقال : { ولا تَنابزوا } بصيغة الفعل الواقع من جانبين ، لأن اللمز قليل الحصول فهو كثير في الجاهلية في قبائل كثيرة منهم بنو سلمة بالمدينة قاله ابن عطية .
{ بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } .
تذييل للمنهيات المتقدمة وهو تعريض قوّي بأن ما نُهوا عنه فُسوق وظلم ، إذ لا مناسبة بين مدلول هذه الجملة وبين الجمل التي قبلها لولا معنى التعريض بأن ذلك فسوق وذلك مذموم ومعاقب عليه فدلّ قوله : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } ، على أن ما نهوا عنه مذموم لأنه فسوق يعاقب عليه ولا تزيله إلا التوبة فوقع إيجاز بحذف جملتين في الكلام اكتفاء بما دل عليه التذييل ، وهذا دال على اللمز والتنابز معصيتان لأنهما فسوق . وفي الحديث " سباب المسلم فسوق " .
ولفظ { الاسم } هنا مطلق على الذكر ، أي التسمية ، كما يقال : طار اسمه في الناس بالجود أو باللؤم . والمعنى : بئس الذِكر أن يذكر أحد بالفسوق بعد أن وُصِف بالإيمان . وإيثار لفظ الاسم هنا من الرشاقة بمكان لأن السياق تحذير من ذكر الناس بالأسماء الذميمة إذ الألقاب أسماء فكان اختيار لفظ الاسم للفسوق مشاكلة معنوية .
ومعنى البعديَّة في قوله : { بعد الإيمان } : بعدَ الاتصاف بالإيمان ، أي أن الإيمان لا يناسبه الفسوق لأن المعاصي من شأن أهل الشرك الذين لا يزعهم عن الفسوق وازع ، وهذا كقول جميلة بنت أُبيّ حين شكت للنبيء صلى الله عليه وسلم أنها تكره زوجها ثابت بن قيس وجاءت تطلب فراقه : « لا أعيب على ثابت في دين ولا في خُلق ولكنّي أكره الكفر بعد الإسلام تريد التعريض بخشية الزنا وإني لا أطيقه بغضاً » .
وإذ كان كل من السخرية واللمز والتنابز معاصي فقد وجبت التوبة منها فمن لم يتب فهو ظالم : لأنه ظلم الناس بالاعتداء عليهم ، وظلم نفسه بأن رضي لها عقاب الآخرة مع التمكن من الإقلاع عن ذلك فكان ظلمه شديداً جداً . فلذلك جيء له بصيغة قصر الظالمين عليهم كأنه لا ظالم غيرهم لعدم الاعتداد بالظالمين الآخرين في مقابلة هؤلاء على سبيل المبالغة ليزدجروا . والتوبة واجبة من كل ذنب وهذه الذنوب المذكورة مراتب وإدمان الصغائر كبيرة .
وتوسيط اسم الإشارة لزيادة تمييزهم تفظيعاً لحالهم وللتنبيه ، بل إنهم استحقوا قصر الظلم عليهم لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة .