ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى بقوله : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } .
والبصيرة هنا بمعنى الحجة الشاهدة عليه ، وهى خبر عن المبتدأ وهو { الإنسان } والجار والمجرور متعلق بلفظ بصيرة والهاء فيها للمبالغة ، مثل هاء علامة ونسابة .
أى : بل الإِنسان حجة بينة على نفسه ، وشاهدةبما كان منه من الأعمال السيئة ، ولو أدلى بأية حجة يعتذر بها عن نفسه . لم ينفعه ذلك .
قال صاحب الكشاف : { بَصِيرَةٌ } أى : حجة بينة ، وصفت بالبصارة على المجاز ، كما وصفت الآيات بالإبصار فى قوله : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } أو : عين بصيرة والمعنى أنه ينبأ بأعماله ، وإن لم ينبأ ففيه ما يجزئ عن الإِنباء ، لأنه شاهد عليها بما عملت ، لأن جوارحه تنطق بذلك ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
أي : هو شهيد على نفسه ، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر ، كما قال تعالى : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء : 14 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } يقول : سمعُه وبصرُه ويداه ورجلاه وجوارحُه .
وقال قتادة : شاهد على نفسه . وفي رواية قال : إذا شئت - والله - رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه ، وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوبا : يا ابن آدم ، تُبصر القَذَاة في عين أخيك ، وتترك الجِذْل{[29544]} في عينك لا تبصره .
وقوله تعالى : { بل الإنسان } إضراب بمعنى الترك لا على معنى إبطال القول الأول ، و { بصيرة } يحتمل أن يكون خبراً عن الإنسان ولحقته هاء التأنيث كما لحقت علامة ونسابة ، والمعنى فيه وفي عقله وفطرته حجة وطليعة وشاهد مبصر على نفسه ، والهاء للتأنيث ، ويراد ب «البصيرة » جوارحه أو الملائكة الحفظة وهذا تأويل ابن عباس .
إضراب انتقالي ، وهو للترقي من مضمون { يُنَبَّأُ الإِنسان يومئذٍ بما قدم وأخّر } [ القيامة : 13 ] إلى الإِخبار بأن الكافر يَعلَم ما فعله لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، إذ هو قرأ كتاب أعماله فقال : { يا ليتني لم أوتَ كتابِيَهْ ولم أدر ما حِسَابيهْ } [ الحاقة : 25 ، 26 ] ، { ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً } [ الكهف : 49 ] . وقال تعالى : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14 ] .
ونظم قوله : { بل الإِنسان على نفسه بصيرة } صالح لإِفادة معنيين :
أولهما أن يكون { بصيرة } بمعنى مبصر شديد المراقبة فيكون { بصيرة } خبراً عن { الإنسان } . و { على نفسه } متعلقاً ب { بصيرة } ، أي الإِنسان بصيرٌ بنفسه . وعُدّي بحرف { على } لتضمينه معنى المراقبة وهو معنى قوله في الآية الأخرى : { كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } . وهاء { بصيرة } تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسَّابة ، أي الإِنسان عليم بصير قوي العلم بنفسه يومئذٍ .
والمعنى الثاني : أن يكونَ { بصيرة } مبتدأ ثانياً ، والمراد به قرين الإِنسان من الحفظة وعلى نفسه خبرَ المبتدأ الثاني مقدماً عليه ، ومجموعُ الجملة خبراً عن { الإنسان } ، و { بصيرة } حينئذٍ يحتمل أن يكون بمعنى بصير ، أي مبصر والهاء للمبالغة ، كما تقدم في المعنى الأول ، وتكون تعدية { بصيرة } ب { على } لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول .
ويحتمل أن تكون { بصيرة } صفة لموصوف محذوف ، تقديرة : حجة بصيرة ، وتكون { بصيرة } مجازاً في كونها بينة كقوله تعالى : { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ ربّ السماوات والأرض بصائر } [ الإسراء : 102 ] ومنه قوله تعالى : { وآتينا ثمودَ الناقة مبصرة } [ الإسراء : 59 ] والتأنيثُ لتأنيث المَوصوف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.