19- وما كان الناس في تكوينهم إلا أمة واحدة بمقتضى الفطرة ، ثم بعثنا إليهم الرسل لإرشادهم وهدايتهم بمقتضى وحى الله تعالى ، فكانت تلك الطبيعة الإنسانية التي استعدت للخير والشر سبباً في أن يغلب الشر على بعضهم ، وتحكم الأهواء ونزغات الشيطان ، فاختلفوا بسبب ذلك . ولولا حكم سابق من ربك بإمهال الكافرين بك - أيها النبي - وإرجاء هلاكهم إلى موعد محدد عنده ، لعجل لهم الهلاك والعذاب ، بسبب الخلاف الذي وقعوا فيه ، كما وقع لأمم سابقة .
ثم بين - سبحانه - أن عبادة الناس لغيره - تعالى - إنما حدثت بعد أن اختلفوا واتبعوا الهوى . فقال :
{ وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا . . . }
المراد بالناس : الجنس البشرى كله في جملته ، فإنهم كانوا أمة واحدة . ثم كثروا وتفرقوا وصاروا شعوبا وقبائل .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالناس هنا : العرب خاصة ، فإنهم كانوا حنفاء على ملة إبراهيم ، إلى أن ظهر فيهم عمرو بن لحى الذي ابتدع لهم عبادة الأصنام .
قال الآلوسى : " قوله { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا } أى : وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف ، وروى هذا عن ابن عباس والسدى ومجاهد . . وذلك من عهد آدم - عليه السلام - إلأى أن قتل قابيل هابيل . وقيل إلى زمن إدريس - عليه السلام - وقيل إلى زمن نوح . وقيل كانا كذلك في زمنه - عليه السلام - بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر .
وقيل : من لدن إبراهيم - عليه السلام - إلى أن أظهر عمرو بن لحي عبادة الأصنام ، وهو المروى عن عطاء . وعليه فالمراد من الناس العرب خاصة ، وهو الأنسب بإبراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكى عنهم من رذائل ، وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك .
وقوله : { فاختلفوا } أى ما بين ضال ومهتد ، فبعث الله إليهم رسله ، ليبشروا المهتدين بجزيل الثواب ، ولينذروا الضالين بسوء العقاب .
والفاء للتعقيب ، وهى لا تنافي امتداد زمان اتفاقهم على الحق ، لأن المراد بيان أن ووقع الاختلاف بينهم إنما حدث عقيب انتهاء مدة الاتفاق ، لا عقيب حدوثه .
والمراد بالكلمة في قوله : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ . . . } ما قضاه الله - تعالى - وأراده من تأخير الحكم بين المؤمنين وغيرهم إلى يوم القيامة .
أى : ولولا كلمة سبقت من ربك بتأخير القضاء بين الطائعين والعاصين إلى يوم القيامة ، لقضي بينهم - سبحانه - في هذه الدنيا . فيما كانوا يختلفون فيه وذلك بأن يعجل للكافرين والعصاة العقوبة في الدنيا قبل الآخرة ، ولكنه - سبحانه - اقتضت حكمته عدم تعجيل العقوبة في الدنيا ، وأن يجعل الدار الآخرة هي دار الجزاء والثواب والعقاب .
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة الوعيد الشديد على الاختلاف المؤدي إلى التفرقة في الدين ، وإلى الشقاق والنزاع ، كما تضمنت تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه : فكأنه - سبحانه - يقول إن الاختلاف من طبيعة البشر ، فلا تنتظر من الناس جميعا أن يكونوا مؤمنين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ النّاسُ إِلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما كان الناس إلا أهل دين واحد وملة واحدة ، فاختلفوا في دينهم ، فافترقت بهم السبل في ذلك . وَلوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ يقول : ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قوما إلا بعد انقضاء آجالهم ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يقول : لقضي بينهم بأن يهلك أهل الباطل منهم وينجي أهل الحقّ .
وقد بيّنا اختلاف المختلفين في معنى ذلك في سورة البقرة ، وذلك في قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النّبَيّينَ وبيّنا الصواب من القول فيه بشواهده فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما كانَ النّاسُ إلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فاخْتَلَفُوا حين قتل أحد ابني آدم أخاه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
قالت فرقة : المراد آدم كان أمة واحدة ثم اختلف الناس بعد في أمر ابنيه وقالت فرقة : المراد نسم بنيه إذ استخرجهم الله من ظهره وأشهدهم على أنفسهم وقالت فرقة : المراد آدم وبنوه من لدن نزوله إلى قتل أحد ابنيه الآخر ، وقالت فرقة : المراد { وما كان الناس إلا أمة واحدة } في الضلالة والجهل بالله فاختلفوا فرقاً في ذلك بحسب الجهالة ، ويحتمل أن يكون المعنى كان الناس صنفاً واحداً معداً للاهتداء ، واستيفاء القول في هذا متقدم في سورة البقرة في قوله { كان الناس أمة واحدة }{[6051]} . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو جعفر ونافع وشيبة وأبو عمرو «لقُضِي بينهم » بضم القاف وكسر الضاد ، وقرأ عيسى بن عمر «لقَضى » بفتحهما على الفعل الماضي ، وقوله { ولولا كلمة سبقت من ربك } يريد قضاءه وتقديره لبني آدم بالآجال المؤقتة ، ويحتمل أن يريد الكلمة ، في أمر القيامة وأن العقاب والثواب إنما كان حينئذ . {[6052]}
جملة معترضة بين جملة [ يونس : 18 ] وجملة : { ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه } [ يونس : 20 ] . ومناسبة الاعتراض قوله : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم } لأن عبادة الأصنام واختراع صفة الشفاعة لها هو من الاختلاف الذي أحدثه ضلال البشر في العقيدة السليمة التي فطر الله الناس عليها في أول النشأة ، فهي مما يشمله التوبيخ الذي في قوله : { أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } [ يونس : 18 ] .
وصيغة القصر للمبالغة في تأكيد الخبر لأنه خبر مهم عجيب هو من الحِكم العُمرانية والحقائق التاريخية بالمكان الأسمى ، إذ القصر تأكيد على تأكيد باعتبار اشتماله على صيغتي إثبات للمثبَت ونفي عما عداه ، فهو أقوى من تأكيد رد الإنكار ، ولذلك يؤذن برد إنكار شديد .
وحسَّن القصر هنا وقوعه عقب الجدال مع الذين غيروا الدين الحق وروجوا نحلتهم بالمعاذير الباطلة كقولهم : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] ، وقوله : { ما نبعدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] ، بخلاف آية سورة [ البقرة : 213 ] { كان الناس أمة واحدة } فإنها وقعت في سياق المجادلة مع أهل الكتاب لقوله : { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } [ البقرة : 211 ] وأهل الكتاب لا ينكرون أن الناس كانوا أمة واحدة . فآية هذه السورة تشير إلى الوحدة الاعتقادية ولذلك عبر عن التفرق الطارىء عليها باعتبار الاختلاف المشعر بالمذمة والمعقب بالتخويف في قوله : { ولولا كلمة سبقت } إلى آخره ، وآية سورة البقرة تشير إلى الوحدة الشرعية التي تجمعها الحنيفية الفطرية ، ولذلك عبر عن التفرق الذي طرأ عليها بأن الله بعث النبيئين مبشرين ومنذرين ، ثم جاء ذكر الاختلاف عرضاً عقب ذلك بقوله : { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [ البقرة : 213 ] . وأريد به الاختلاف بين أتباع الشرائع لقوله : { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه } [ البقرة : 213 ] .
وتقدم القول في { كان الناس أمة واحدة } في سورة [ البقرة : 213 ] .
والناس : اسم جمع للبشر . وتعريفه للاستغراق . والأمة : الجماعة العظيمة التي لها حال واحد في شيء مَّا .
والمراد هنا أمة واحدة في الدين . والسياق يدل على أن المراد أنها واحدة في الدين الحق وهو التوحيد لأن الحق هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه لأنه ناشئ عن سلامة الاعتقاد من الضلال والتحْريف . والإنسان لما أنشئ على فطرة كاملة بعيدة عن التكلف . وإنما يتصور ذلك في معرفة الله تعالى دون الأعمال ، لأنها قد تختلف باختلاف الحاجات ، فإذا جاز أن يحدث في البشر الضلال والخطأ فلا يكون الضلال عاماً على عقولهم ، فتعين أن الناس في معرفة الله تعالى كانوا أمة واحدة متفقين على التوحيد لأن الله لما فطر الإنسان فطره على عقل سليم موافق للواقع ، ووَضَع في عقله الشعور بخالق وبأنه واحد وضعاً جِبلِّياً كما وضَع الإلهامات في أصناف الحيوان .
وتأيد ذلك بالوحي لأبي البشر وهو آدم عليه السلام .
ثم إن البشر أدخلوا على عقولهم الاختلاف البعيد عن الحق بسبب الاختلاق الباطل والتخيل والأوهام بالأقيسة الفاسدة . وهذا مما يدخل في معنى قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ التين : 4 6 ] ، فتعين أن المراد في هذه الآية بكون الناس أمةً واحدة الوحدة في الحق ، وأن المقصود مدح تلك الحالة لأن المقصود من هذه الآية بيان فساد الشرك وإثبات خطأ منتحليه بأن سلفهم الأول لم يكن مثلهم في فساد العقول ، وقد كان للمخاطبين تعظيم لما كان عليه أسلافهم ، ولأن صيغة القصر تؤذن بأن المراد إبطال زعم من يزعم غير ذلك .
ووقوعُه عقب ذكر من يعبدون من دون الله أصناماً لا تضرهم ولا تنفعهم يدل على أنهم المقصود بالإبطال ، فإنهم كانوا يحسبون أن ما هم عليه من الضلال هو دين الحق ، ولذلك صوروا إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام في الكعبة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح « كَذبوا والله إِنْ استقسما بها قَطِ ، وقرأ : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } [ آل عمران : 67 ] » وبهذا الوجه يجعل التعريف في { الناس } للاستغراق .
ويجوز أن يراد بالناس العربُ خاصة بقرينة الخطاب ويكون المراد تذكيرهم بعهد أبيهم إبراهيم عليه السلام إذ كان هو وأبناؤه وذريتهم على الحنيفية والتوحيدِ كما قال تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني بَراء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمةً باقية في عقبه لعلهم يرجعون } [ الزخرف : 26 28 ] ، أي في عقبه من العرب ، فيكون التعريف للعهد .
وجملة : { ولولا كلمة سبقت من ربك } إخبار بأن الحق واحد ، وأن ذلك الاختلاف مذموم ، وأنه لولا أن الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء لأراهم وجه الفصل في اختلافهم باستيصال المُبطل وإبقاءِ المحق . وهذه الكلمة أجملت هنا وأشير إليها في سورة [ الشورى : 14 ] بقوله : { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مُسمى لقضي بينهم . } والأجل : هو أجل بقاء الأمم ، وذلك عند انقراض العالم ، فالقضاء بينهم إذن مؤخر إلى يوم الحساب . وأصرح من ذلك في بيان معنى ( الكلمة ) قولُه في سورة [ هود : 118 ] { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمةُ ربك لأملأنَّ جهنم من الجنة والناس أجمعين } وسيأتي بيانها .
وتقديم المجرور في قوله : { فيما فيه يختلفون } للرعاية على الفاصلة .