10- خلق الله السماوات من غير عُمُد مرئية لكم ، وجعل في الأرض جبالا ثوابت ، لئلا تضطرب بكم ، ونشر فيها من كل الحيوانات التي تدب وتتحرك ، وأنزلنا من السماء ماء ، فأنبتنا به في الأرض من كل صنف حسن كثير المنافع{[174]} .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر قدرته وعزته وحكمته فقال : { خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } .
والعمد : جمع عماد . وهو ما تقام عليه القبة أو البيت . وجملة " ترونها " فى محل نصب حال من السماوات .
أى هو : - سبحانه - وحده ، الذى رفع هذه السماوات الهائلة فى صنعها وفى ضخامتها . بغير مستند يسندها . وبغير أعمدة تعتمد عليها . وأنتم ترون ذلك بأعينكم بدون لبس أو خفاء . ولا شك أن خلقها على هذه الصورة من أكبر الأدلة على أن لهذا الكون خالقا مدبرا قادرا حكيما ، هو المستحق للعبادة والطاعة .
وقوله - تعالى - : { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } بيان لنعمة ثاينة مما أنعم به - سبحانه - على عباده .
والرواسى : جمع راسية . والمراد بها الجبال الشوامخ الثابتة .
أى : ومن رحمته بكم ، وفضله عليكم ، أن ألقى - سبحانه - فى الأرض جبالا ثوابت كراهة أن تميد وتضطرب بكم ، وأنتم عليها .
{ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } أى : وأوجد ونشر فى الأرض التى تعيشون فوقها ، من كل دابة من الدواب التى لا غنى لكم عنها والتى فيها منعفتكم ومصلحتكم .
والبث : معناه : النشر والتفريق . يقال : بث القائد خيله إذا نشرها وفرقها .
ثم بين - سبحانه - نعمة ثالثة فقال : { وَأَنزَلْنَا } أى : بقدرتنا { مِنَ السمآء مَآءً } أى : ماء كثيرا هو المطر ، { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا } أى : فأنبتنا فى الأرض بسبب نزول المطر عليها . { مِن كُلِّ زَوْجٍ } أى : صنف { كَرِيمٍ } أى حسن جميل كثير المنافع .
يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السموات والأرض ، وما فيهما وما بينهما ، فقال : { خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } ، قال الحسن وقتادة : ليس لها عَمَد مرئية ولا غير مرئية .
وقال ابن عباس ، وَعكْرِمة ، ومجاهد : لها عمد لا ترونها . وقد تقدم تقرير هذه المسألة في أول سورة " الرعد " بما أغنى{[22930]} عن إعادته .
{ وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ } يعني : الجبال أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء ؛ ولهذا قال : { أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } أي : لئلا تميد بكم .
وقوله : { وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } أي : وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها .
ولما قرر أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله تعالى { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } أي : من كل زوج من النبات كريم ، أي : حسن المنظر .
وقال الشعبي : والناس - أيضًا - من نبات الأرض ، فَمَنْ دخل الجنة فهو كريم ، ومَنْ دخل النار فهو لئيم .
القول في تأويل قوله تعالى : { خَلَقَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : ومن حكمته أنه خَلَقَ السّمَوَاتِ السبع بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها . وقد ذكرت فيما مضى اختلاف أهل التأويل في معنى قوله بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وبيّنا الصواب من القول في ذلك عندنا . وقد :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، عن عمران بن حدير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال : لعلها بعمد لا ترونها .
وقال : ثنا العلاء بن عبد الجبار ، عن هماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد ، قال : إنها بعمد لا ترونها .
قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لعلها بعمد لا ترونها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد ، عن سماك ، عن عكرمة في هذا الحرف خَلَقَ السّمَوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال : ترونها بغير عمد ، وهي بَعمد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة خَلَقَ السّمَوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال : قال الحسن وقتادة : إنها بغير عمد ترونها ، ليس لها عمد .
وقال ابن عباس بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا قال : لها عمد لا ترونها .
وقوله : وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ يقول : وجعل على ظهر الأرض رواسي ، وهي ثوابت الجبال أن تميد بكم أن لا تميد بكم . يقول : أن لا تضطرب بكم ، ولا تتحرّك يمنة ولا يسرة ، ولكن تستقرّ بكم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِي : أي جبالاً أنْ تَمِيدَ بِكُمْ أثبتها بالجبال ، ولولا ذلك ما أقرّت عليها خلقا ، وذلك كما قال الراجز :
*** والمُهْرُ يَأْبَى أنْ يَزَالَ مُلَهّبا ***
وقوله : وَبَثّ فِيها مِنْ كُلّ دَابّةٍ يقول : وفرّق في الأرض من كلّ أنواع الدوابّ . وقيل الدوابّ اسم لكلّ ما أكل وشرب ، وهو عندي لكلّ ما دبّ على الأرض . وقوله : وأنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً ، فأنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ يقول تعالى ذكره : وأنزلنا من السماء مطرا ، فأنبتنا بذلك المطر في الأرض من كلّ زوج ، يعني : من كل نوع من النبات كريم ، وهو الحسن النّبتة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ : أي حسن .
{ خلق السموات بغير عمد ترونها } قد سبق في " الرعد " . { وألقى في الأرض رواسي } جبالا شوامخ . { أن تميد بكم } كراهة أن تميد بكم ، فإن تشابه أجزائها يقتضي تبدل أحيازها وأوضاعها لامتناع اختصاص كل منها لذاته أو لشيء من لوازمه بحيز ووضع معينين . { وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم } من كل صنف كثير المنفعة وكأنه استدل بذلك على عزته التي هي كمال القدرة ، وحكمته التي هي كمال العلم ومهد به قاعدة التوحيد وقررها بقوله : { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } .
وقوله تعالى : { بغير عمد ترونها } يحتمل أن يعود الضمير على { السماوات } فيكون المعنى أن السماء بغير عمد وأنها ترى كذلك ، وهذا قول الحسن والناس ، و { ترونها } على هذا القول في موضع نصب على الحال ، ويحتمل أن يعود الضمير على «العمد » فيكون { ترونها } صفة للعمد في موضع خفض ، ويكون المعنى أن السماء لها عمد لكن غير مرئية قاله مجاهد ونحا إليه ابن عباس ، والمعنى الأول أصح والجمهور عليه ، ويجوز أن تكون { ترونها } في موضع رفع على القطع ولا عمد ثم ، و «الرواسي » هي الجبال التي رست أي ثبتت في الأرض ، وقوله : { أن تميد } بمعنى لئلا تميد{[9350]} ، والميد التحرك يمنة ويسرة وما قرب من ذلك ، وقوله تعالى : { من كل زوج } أي من كل نوع ، و «الزوج » في النوع والصنف وليس بالذي هو ضد الفرد ، وقوله تعالى : { كريم } يحتمل أن يريد مدحه من جهة إتقان صنعه وظهور حسن الرتبة والتحكيم للصنع فيه فيعم حينئذ جميع الأنواع لأن هذا المعنى في كلها ، ويحتمل أن يريد مدحه بكرم جوهره وحسن منظره ومما تقضي له النفوس بأنه أفضل من سواه حتى يستحق الكرم ، فتكون الأزواج على هذا مخصوصة في نفائس الأشياء ومستحسناتها ، ولما كان عظم الموجودات كذلك خصص الحجة بها . وقوله : { أنبتنا } يعم جميع أنواع الحيوان وأنواع النبات والمعادن{[9351]} .