المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

44- أتطلبون من الناس أن يتوسعوا في الخير ، وأن يلتزموا الطاعة ويتجنبوا المعصية ، ثم لا تعملون بما تقولون ، ولا تلتزمون بما تطلبون ؟ ، وفى ذلك تضييع لأنفسكم كأنكم تنسونها ، مع أنكم تقرءون التوراة وفيها التهديد والوعيد على مخالفة القول للعمل ، أليس لديكم عقل يردعكم عن هذا التصرف الذميم ؟

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

وبعد كل هذه الأوامر والنواهي ، وبخهم الله - تعالى - وقرعهم على ارتكابهم لأمور لا تصدر عن عاقل . وهي أنهم يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه ، فقال تعالى :

{ أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . . . }

الأمر : طلب إيجاد الفعل . والبر : اسم يتناول كل عمل من أعمال الخير . والنسيان : ضد الذكر ، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم . والعقل : يطلق على قوة في النفس ، تستعد بها لقبول العلم . وإدراك الشيء .

والمعنى : كيف يليق بكم يا معشر اليهود ، وأنتم تأمرون الناس بأمهات الفضائل ، وألوان الخيرات ، أن تنسوا أنفسكم ، فلا تأمروا بما تأمرون به غيركم ، وأنتم مع ذلك تقرأون توراتكم ، وتدركون أي عقوبة أليمة لمن يأمر الناس بالخير وينسى نفسه ، أفلا عقل لكم يحبسكم عن هذا السفه الذي تردتيم فيه ، ويذحركم من سوء عاقبته .

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ، ولذى قرابته ، ولمن بينه وبينه صلة من المسلمين أثبت على الذي أنت عليه ، وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمداً صلى الله عليه وسلم - فإن أمره حق ، فكانوا يأمرون بالناس بذلك ولا يفعلونه .

والمراد بالنسيان في الآية الكريمة ، تركهم العمل بما يأمرون به غيرهم ، لأن الناسي حقيقة ليس مؤاخذا على مانسيه ، فلا يستحق هذا التوبيخ الشديد الوارد في الآية الكريمة ، وليس التوبيخ متوجها إلى كونهم كانوا يأمرون الناس بالبر ، لأنهن فعل محمود ، وإنما التوبيخ متوجه إلى كونهم تركوا العمل بما يرشدون إليه سواهم ، فهم يداوون الناس ، وقلوبهم مليئة بالأمراض والعلل .

وقوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أسمى أنواع الهداية وآلإرشاد السليم ، فإن من ألطف الأساليب في الخطاب والتوجيه ، أن يكون للموجه إليه النصح صفة من شأنها أن تسوقه إلى خير ، ولكنه ينساق إلى غيره من أنواع الشرور فيقع فعله من الناس موقع الدهشة والغرابة ، فيذكر له مسدى النصح تلك الصفة في معرض الاستفهام بغية تذكيره بأن ما صدر منه لا يلتقى مع ما عرف عنه .

وتطبيقاً لهذا المبدأ نقول : إن المخاطبين بقوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } يعقلون ويدركون الأشياء ، وبهذا الإِدراك توجه إليهم التكليف بالعقائد والشرائع ، ولكنهم لم يسيروا على مقنضي ما لديهم من عقول ، حيث كانوا يأمرون الناس بالخير ، ويصرفون أنفسهم عنه ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن ما أتيتم من أفعال سقيمة . يجعل الناظر إليكم يحكم عليكم بلا أدنى تردد بأنكم لا عقول لكم ، ولا فضيلة لديكم ، وفي هذا الأسلوب ما فيه من الترغيب في فعل الخير ؛ والترهيب من فعل الشر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

40

ثم ينكر عليهم - وبخاصة أحبارهم - أن يكونوا من الدعاة إلى الإيمان بحكم أنهم أهل كتاب بين مشركين ، وهم في الوقت ذاته يصدون قومهم عن الإيمان بدين الله ، المصدق لدينهم القديم :

( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . .

ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل ، فإنه في إيحائه للنفس البشرية ، ولرجال الدين بصفة خاصة ، دائم لا يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل .

إن آفة رجال الدين - حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة - أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ؛ يأمرون بالخير ولا يفعلونه ؛ ويدعون إلى البر ويهملونه ؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ؛ ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى ، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص ، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين ، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان ! كما كان يفعل أحبار يهود !

والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه ، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها . وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم ، لأنهم يسمعون قولا جميلا ، ويشهدون فعلا قبيحا ؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل ؛ وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة ؛ وينطفىء في قلوبهم النور الذي يشع الإيمان ؛ ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين .

إن الكلمة لتنبعث ميتة ، وتصل هامدة ، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة ، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها . ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول ، وتجسيما واقعيا لما ينطق . . عندئذ يؤمن الناس ، ويثق الناس ، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق . . إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها ؛ وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها . . إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة ، لأنها منبثقة من حياة .

والمطابقة بين القول والفعل ، وبين العقيدة والسلوك ، ليست مع هذا أمرا هينا ، ولا طريقا معبدا . إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة . وإلى صلة بالله ، واستمداد منه ، واستعانة بهديه ؛ فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره ، أو عما يدعو إليه غيره . والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته ، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه ؛ وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ؛ ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى ، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله ؛ فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي ، أقوى من كل قوي . قوي على شهوته وضعفه . قوي على ضروراته واضطراراته . قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( 44 )

وقوله تعالى : { أتأمرون الناس } خرج مخرج الاستفهام ، ومعناه التوبيخ( {[551]} ) ، و «البر » يجمع وجوه الخير والطاعات ويقع على كل واحد منها اسم بر ، { وتنسون } بمعنى تتركون كما قال الله تعالى : { نسوا الله فنسيهم }( {[552]} ) [ التوبة : 67 ] .

واختلف المتأولون في المقصود بهذه الآية ، فقال ابن عباس : «كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة ، وكانوا هم يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم » .

وقالت فرقة : كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد دلوه على ذلك ، وهم لا يفعلونه .

وقال ابن جريج : «كان الأحبار يحضون الناس على طاعة الله ، وكانوا هم يواقعون المعاصي » . وقالت فرقة : كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون .

وقوله تعالى : { وأنتم تتلون } معناه : تدرسون وتقرؤون ، ويحتمل أن يكون المعنى تتبعون أي في الاقتداء به ، و { الكتاب } التوراة وهي تنهاهم عما هم عليه من هذه الصفة الذميمة .

وقوله تعالى : { أفلا تعقلون } معناه : أفلا تمنعون أنفسكم( {[553]} ) من مواقعة هذه الحال المردية لكم ؟ والعقل : الإدراك المانع من الخطأ مأخوذ منه عقال البعير ، أي يمنعه من التصرف ، ومنه المعقل أي موضع الامتناع .


[551]:-هذا تنديد بالعلماء والرؤساء الذين يأمرون غيرهم وينسون أنفسهم، والقدوة الصالحة هي التي تجمع بين القول والعمل، وهي التي تبدأ بنفسها وتنهاها عن غيها، ثم تقصد غيرها فتؤدي إليها أمر ربها، ونهى خالقها بحكمة وإخلاص، ومن شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه إذا تأثر به المأمور، وإذا خرج من ظاهره لم يتجاوز ظاهر غيره، فالسبب إذا استمر واستقام كان له تأثير بإذن الله تعالى في النفوس، ومن هنا يدرك أن انحراف الناس في حياتهم ناتج عن عدم وجود القدرة الصالحة في الدين والدنيا، وهذا بحسب الأغلب وإلا فقد يكون ذلك ناشئا عن عناد.
[552]:- من الآية 67 من سورة التوبة.
[553]:- إشارة إلى تعديته، ويمكن أن ينزل منزلة اللازمة، وكيفما كان فهو غاية في الشناعة والقبح.