ثم توعد سبحانه الذين يعتدون على حقوق اليتامى بأشد أنواع الوعيد فقال تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ . . . } .
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ( 10 )
قوله : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } استئناف مسوق لتقرير ما فصل من الأوامر والنواهى السابقة التى تتعلق بحقوق اليتامى .
قال الفخر الرازى : أعلم أنه - تعالى - أكد الوعد فى أكل مال اليتيم ظلما ، وقد كثر الوعيد فى هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك كقوله { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } وكقوله : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً } ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة فى وعيد من يأكل أموالهم ، وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى ؛ لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة . وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله ؛ لأن اليتامى لما بلغوا فى الضعف إلى الغاية القصوى ، بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى .
وقوله { ظُلْماً } أى يأكلونها على وجه الظلم سواء أكان الآكل من الورثة أو من أولياء السوء من غيرهم .
وقال سبحانه { ظُلْماً } لكمال التشنيع على الآكلين ؛ لأنهم يظلمون اليتامى الضعفاء الذين ليس فى قدرتهم الدفاع عن أنفسهم .
أو أنه سبحانه قيد الأكل بحالة الظلم ، للدلالة على أن مال اليتيم قد يؤكل ولكن لا على وجه الظلم بل على وجه الاستحقاق كما فى حالة أخذ الولى الفقير أجرته من مال اليتيم أو الاستقراض منه فإن ذلك لا يكن ظلما ولا يسمى الآكل ظالما . قال تعالى : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } وقوله { ظُلْماً } حال من الضمير فى { يَأْكُلُونَ } أى يأكلونها ظالمين . أو مفعول لأجله . أى يأكلونها لأجل الظلم .
قال القرطبى : روى أن هذه الآية نزلت فى رجل من غطفان يقال له : مرثد بن زيد ، ولى مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله ؛ فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية . ولهذا قال الجمهور : إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم .
وقوله : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } بيان لسوء مصيرهم ، وتصوير لأضرار الأكل عليهم .
وللمفسرين فى تفسير قوله - تعالى - { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } اتجاهان .
أولهما : أن الآية على ظاهرها ، وأن الآكلين للمال اليتامى ظلما سيأكلون النار يوم القيامة حقيقة .
وقد استدل أصحاب هذا الاتجاه على صحة ما ذهبوا إليه بآثار منها ما رواه ابن حبان فى صحيحه وابن مردويه وابن أبى حاتم " عن أبى برزة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا . قيل يا رسول الله من هم ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ألم تر أن الله قال : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } " الآية .
وروى ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدرى قال :
" قلنا يا رسول الله ما رأيت ليلة أسرى بك ؟ قال : انطلق بى إلى خلق من خلق الله كثير . رجال كل رجل منهم له مشفر كمشفر البعير ، وهم موكل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم ، ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف فى أفواههم حتى تخرج من أسفلهم ولهم جؤار وصراخ . قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " .
ثانيهما : يرى أصحابه أن الكلام على المجاز لا على الحقيقة وأن المراد إنما يأكلون فى بطونهم المال الحرام الذى يفضى بهم إلى النار .
وعليه فكلمة { نَاراً } مجاز مرسل من باب ذكر المسبب وإرادة السبب .
والمراد بالأكل فى قوله { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ } مطلق الأخذ على سبيل الظلم والتعدى .
وإنما ذكر الأكل وأراد به مطلق الإِتلاف على سبيل الظلم ؛ لأن الأكل عن طريقه تكون معظم تصرفات الإِنسان ، ولأن عامة مال اليتامى فى ذلك الوقت هو الأنعام التى تؤكل لحومها وتشرب ألبانها فخرج الكمال على عادتهم ، ولأن فى ذكر الأكل تشنيعا على الآكل لمال اليتيم ظلما ، إذ هو أبشع الأحوال التى يتناول مال اليتيم فيها ؛ ولأن فى ذكر الأكل مناسبة للجزاء المذكور فى قوله { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } حيث يكون الجزاء من جنس العمل .
قال { فِي بُطُونِهِمْ } مع أن الأكل لا يكون إلا فى البطن ، إما لأنه قد شاع فى استعمالهم أن يقولوا : أكل فلان فى بطنه يريدون ملء بطنه فكأنه قيل : إنما يأكلون ملء بطونهم نارا حتى يبشموا بها . ومثله { قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أى شرقوا بها وقالوها بملء أفواههم ، ويكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع حتى تتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير .
وإما أن يكون المراد بذكر البطون التأكيد والمبالغة كما فى قوله تعالى { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } والطيران لا يكون إلا بالجناح . والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة .
وقوله تعالى { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } تأكيد لسوء عاقبتهم يوم القيامة .
و { يصلون } مضارع صلى كرضى إذا قاسى حر النار بشدة .
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم { وَسَيَصْلَوْنَ } بضم ياء المضارعة والباقون بفتحها .
والسعير : هو النار المستعرة . يقال : سعرت النار أسرعها سعرا فهى مسعورة إذا أوقدتها وألهبتها .
وإنما قال { سَعِيراً } بالتنكير لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى : أى ؛ وسيدخلون نارا هائلة لا يعلم مقدار شدتها إلا الله عز وجل .
أخرج أبو داود والنسائى والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه . فجعل يفضل له الشئ من طعامه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد عليهم ذلك . فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } الآية . فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .
قال الفخر الرازى : ومن الجهال من قال : صارت هذه الآية منسوخة بتلك . وهو بعيد ، لأن هذه الآية فى المنع من الظلم . وهذا لا يصير منسوخا . بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كانت على سبيل الظلم فهى من أعظم أبواب الإِثم كما فى هذه الآية . وإن كانت على سبيل التربية والإِحسان فهى من أعظم أبواب البر كما فى قوله . . تعالى - { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } وبعد : فهذه عشر آيات من سورة النساء ، تقرؤها فتراها تكرر الأمر صراحة برعاية اليتيم وبالمحافظة على ماله فى خمس آيات منها .
فأنت تراها فى الآية الثانية تأمر الأولياء والأوصياء وغيرهم بالمحافظة على أموال اليتامى ، وأن يسلموها إليهم عند بلوغهم كاملة غير منقوصة ، وتحذرهم من الاحتيال على أكل هذه الأموال عن طريق الخلط فتقول :
{ وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } وتراها فى الآية الثالثة تبيح لأولياء النساء اليتامى أن يتزوجوا بغيرهن إذا لم يأمنوا على أنفسهم العدل فى أموال اليتيمات ، وحسن معاشرتهن ، وتسليمهن حقوقهن كاملة إذا تزوجوهن فتقول :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } الآية . وتراها فى الآية السادسة تأمر الأولياء بأن يختبروا تصرفات اليتامى وأن يسلموا إليهم أموالهم عند بلوغهم وإيناس الرشد منهم فتقول :
{ وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } الآية .
وتراها فى الآية الثامنة تأمر المتقاسمين للتركة أن يجعلوا شيئا منها للمحتاجين من الأقارب واليتامى والمساكين فتقول :
{ وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ } الآية .
ثم تراها فى الآية العاشرة تتوعد الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما بأشد ألوان الوعيد فتقول : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } .
وقد أمر القرآن أتباعه فى كثير من آياته بالعطف على اليتيم ، وبحسن معاملته ، وبالمحافظة على حقوقه ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } وقوله - تعالى - ممتنا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } وقوله - تعالى - { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } وعندما نقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم نراه فى كثير منها يأمرنا برعاية اليتيم ، وبالعطف عليه ، وبإكرامه وعدم قهره وإذلاله ، ويبشر الذين يكرمون اليتيم بأفضل البشارات ، فقد روى البخارى وغيرهم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا . وقال باصبعيه السبابة والوسطى " - أى : وأشار وفرج بين إصبعيه السبابة والوسطى - .
وإنما اعتنى الإِسلام برعاية اليتيم لصغره وعجزه عن القيام بمصالحه ، ولأن عدم رعايته سيؤدى إلى شيوع الفاحشة فى الأمة ؛ ذلك لأن اليتيم إنسان فقد العائل والنصير منذ صغره ، فإذا نشأ فى بيئة ترعاه وتكرمه وتعوضه عما فقده من عطف أبيه ، شب محبا لمن حوله وللمجتمع الذى يعيش فيه . وإذا نشأ فى بيئته تقهره وتذله وتظلمه نظر إلى من حوله وإلى المجتمع كله نظرة العدو إلى عدوه ، وصار من الذين يفسدون فى الأرض ولا يصلحون ؛ لأنه سيقول لنفسه : إذا كان الناس لم يحسنوا إلى فلماذا أحسن إليهم ؟ وإذا كانوا قد حرمونى حقى الذى منحه الله لى ، فلماذا أعطيهم شيئا من خيرى وبرى ؟
لهذه الأسباب وغيرها أمر الإِسلام أتباعه برعاية اليتيم وإكرامه وصيانة حقوقه من أى اعتداء أو ظلم .
( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً )
أما اللمسة الثانية ، فهي صورة مفزعة : صورة النار في البطون . . وصورة السعير في نهاية المطاف . . إن هذا المال . . نار . . وإنهم ليأكلون هذه النار . وإن مصيرهم لإلى النار فهي النار تشوي البطون وتشوي الجلود . هي النار من باطن وظاهر . هي النار مجسمة حتى لتكاد تحسها البطون والجلود ، وحتى لتكاد تراها العيون ، وهي تشوي البطون والجلود !
ولقد فعلت هذه النصوص القرآنية ، بإيحاءاتها العنيفة العميقة فعلها في نفوس المسلمين . خلصتها من رواسب الجاهلية . هزتها هزة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب . وأشاعت فيها الخوف والتحرج والتقوى والحذر من المساس - أي مساس - بأموال اليتامى . . كانوا يرون فيها النار التي حدثهم الله عنها في هذه النصوص القوية العميقة الإيحاء . فعادوا يجفلون أن يمسوها ويبالغون في هذا الإجفال !
من طريق عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لما نزلت : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) . . الآية . . انطلق من كان عنده يتيم ، فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء ، فيحبس له ، حتى يأكله أو يفسد . فاشتد ذلك عليهم . فذكروا ذلك لرسول الله [ ص ] فأنزل الله : ( ويسألونك عن اليتامى . قل : إصلاح لهم خير ، وإن تخالطوهم فإخوانكم . والله يعلم المفسد من المصلح ، ولو شاء الله لأعنتكم . . )الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم . .
وكذلك رفع المنهج القرآني هذه الضمائر ، إلى ذلك الأفق الوضيء ؛ وطهرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب . .
{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } ظالمين ، أو على وجه الظلم . { إنما يأكلون في بطونهم } ملء بطونهم . { نارا } ما يجر إلى النار ، ويؤول إليها . وعن أبي بردة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يبعث الله قوما من قبورهم تتأجج أفواههم نارا " . فقيل : من هم ؟ فقال : " ألم تر أن الله يقول : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } { وسيصلون سعيرا } سيدخلون نارا وأي نار " . وقرأ ابن عامر وابن عياش عن عاصم بضم الياء مخففا . وقرئ به مشددا يقال صلى النار قاسى حرها ، وصليته شويته وأصليته وصليته ألقيته فيها ، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا ألهبتها .
جملة معترضة تفيد تكرير التحذير من أكل مال اليتامى ، جرّتهُ مناسبة التعرّض لقسمة أموال الأموات ، لأنّ الورثة يكثر أن يكون فيهم يتامى لكثرة تزوّج الرجال في مدّة أعمارهم ، فقلّما يخلو ميِّت عن ورثة صغار ، وهو مؤذن بشدّة عناية الشارع بهذا الغرض ، فلذلك عاد إليه بهذه المناسبة .
وقوله : { ظلماً } حال من { يأكلون } مقيِّدة ليخرج الأكلُ المأذون فيه بمثل قوله : { ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } [ النساء : 6 ] ، فيكون كقوله : { ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ النساء : 29 ] .
ثم يجوز أن يكون ( نارا ) من قوله : { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } مراداً بها نار جهنّم ، كما هو الغالب في القرآن ، وعليه ففِعْلُ { يأكلون } ناصب ( ناراً ) المذكور على تأويل يأكلون ما يفضي بهم إلى النار ، فأطلق النار مجازاً مرسلاً بعلاقة الأَوْل أو السببية أي ما يفضي بهم إلى عذاب جهنّم ، فالمعنى أنّهم حين يأكلون أموال اليتامى قد أكلوا ما يفضي بهم إلى جهنّم .
وعلى هذا فعطف جملة : { وسيصلون سعيراً } عَطْف مرادف لمعنى جملة { يأكلون في بطونهم ناراً } .
ويجوز أن يكون اسم النار مستعاراً للألم بمعنى أسباب الألم فيكون تهديداً بعذاب دنيوي أو مستعاراً للتلف لأنّ شأن النار أن تلتهم ما تصيبه ، والمعنى إنّما يأخذون أموالاً هي سبب في مصائب تعتريهم في ذواتهم وأموالهم كالنار إذا تدنو من أحد فتؤلمه وتتلف متاعه ، فيكون هذا تهديداً بمصائب في الدنيا على نحو قوله تعالى : { يمحق اللَّه الربا } [ البقرة : 276 ] ويكون عطف جملة { وسيصلون سعيراً } جارياً على ظاهر العطف من اقتضاء المغايرة بين المتعاطفين ، فالجملة الأولى تهديد بعذاب في الدنيا ، والجملة الثانية وعيد بعذاب الآخرة .
وذِكْرُ { في بطونهم } على كلا المعنيين مجرّد تخييل وترشيح لاستعارة { يأكلون } لمعنى يأخذون ويستحوذون .
والسين في { سيصلون } حرف تنفيس أي استقبال ، أي أنها تدخل على المضارع فتمحّضه للاستقبال ، سوءا كان استقبالاً قريباً أو بعيداً ، وهي مرادفة سوف ، وقيل : إنّ سوف أوسع زمانا . وتفيدان في مقام الوعد تحقيقَ الوعد وكذلك التوعّد .
ويَصْلَوْن مضارع صَلِي كرضي إذا قاسى حرّ النار بشدّة ، كما هنا ، يقال : صلى بالنار ، ويكثر حذف حرف الجرّ مع فعل صَلي ونصب الاسم بعده على نزع الخافض ، قال حُمَيْد بن ثور :
لا تَصْطَلي النارَ إلاّ يَجْمَرا أَرجَا *** قد كسَّرَت مِن يلجوج له وَقَصَا
وهو الوارد في استعمال القرآن باطراد .
وقرأ الجمهور : وسيَصلونَ بفتح التحتية مضارع صَلي ، وقرأه ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية مضارع أصلاه إذا أحرقه ومبنيا للنائب .
{ والسعير } النار المسعَّرة أي الملتهبة ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، بني بصيغة المجرّد ، وهو من المضاعف ، كما بنى السميع من أَسْمَع ، والحكيم من أَحْكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} بغير حق.. فنسخت هذه الآية: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} (الأنعام: 152)، {وإن تخالطوهم فإخوانكم} (البقرة: 220)، فرخص في المخالطة ولم يرخص في أكل أموال اليتامى ظلما.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{إنّ الّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْما}: بغير حقّ، {إنمَا يأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا} يوم القيامة، بأكلهم أموال اليتامى ظلما في الدنيا، نارَ جهنم. {وسَيَصْلَوْنَ} بأكلهم {سَعِيرا} حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني أبو هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة أُسْرِيَ به، قال: «نَظَرْتُ فإذا أنا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشافِرُ كمَشافِرِ الإبِلِ وقَدْ وُكّلِ بِهِمْ مِنْ يأْخُذُ بِمَشافِرِهِمْ، ثُمّ يجْعَل فِي أفْواهِهِمْ صخْرا مِنْ نارٍ يخْرُجُ مِنْ أسافِلِهِمْ، قُلْتُ: يا جِبرِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قال: هَؤُلاءِ الّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوال اليَتامى ظُلْما إنّمَا يأْكَلُونَ في بُطُونِهمْ نارا».
{وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا}: مأخوذ من الصّلا، والصّلا: الاصطلاء بالنار، وذلك التسخن بها. ثم استعمل ذلك في كل من باشر بيده أمرا من الأمور، من حرب أو قتال أو خصومة أو غير ذلك،
وأما السعير: فإنه شدة حرّ جهنم، ومنه قيل: استعرت الحرب: إذا اشتدت، وإنما هو مسعور، ثم صرف إلى سعير.
فتأويل الكلام إذًا: وسيصلون نارا مسعرة: أي موقودة مشعلة، شديدا حرّها.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن الله جلّ ثناؤه قال: {وَإذَا الجَحِيمُ سُعّرَتْ} فوصفها بأنها مسعورة، ثم أخبر جلّ ثناؤه أن إكلة أموال اليتامى يصلونها، وهي كذلك، فالسعير إذًا في هذا الموضع صفة للجحيم على ما وصفنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما}: استحلالا، فإذا استحل كفر. فذلك الوعيد له، وقيل: {ظلما} أي غصبا، والأكل هو عبارة عن الأخذ كقوله: {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} (آل عمران 275) إنما هو نهي عن أخذه وكذلك قوله: {الذين يأكلون الربا} (البقرة 175) وقوله {وذروا ما بقي من الربا} (البقرة 278) إنما هو نهي عن قبض الربا فعلى ذلك الأكل في هذه الآية عبارة عن الأخذ والاستحلال.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما علق الله تعالى الوعيد في الآية لمن يأكل أموال اليتامى ظلما، لأنه قد يأكله على وجه الاستحقاق، بأن يأخذ منه أجرة المثل. أو يأكل منه بالمعروف، أو يأخذه قرضا على نفسه، فإن قيل: إذا أخذه قرضا على نفسه، أو أجرة المثل، فلا يكون أكل مال اليتيم، وإنما أكل مال نفسه. قلنا: ليس الأمر على ذلك، لأنه يكون أكل مال اليتيم، لكنه على وجه التزم عوضه في ذمته، أو استحقه بالعمل في ماله، فلم يخرج بذلك من استحقاق الاسم بأنه مال اليتيم، ولو سلم ذلك لجاز أن يكون المراد بذلك ضربا من التأكيد وبيانا، لأنه لا يكون أكل مال اليتيم إلا ظلما. ونصب ظلما على المصدر، وتقديره: إن من أكل مال اليتيم فإنه يظلمه ظلما..
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
245- لا يسبق إلى الفهم من الأكل معنى الأكل، وإنما يسبق إلى معنى الاحتياج والتفويت للمال، حتى يعلم-على الارتياح، أو بأدنى تأمل- أن الظلم بهبة ماله واعتاقه والتبرع به، وإتلافه وإحراقه، وإلقائه في البحر وغير ذلك من وجوه الإتلاف كالظلم بالأكل، بل يكاد يصير الأكل كناية عن الإتلافات. [شفاء الغليل: 83-84].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ظُلْماً}: ظالمين، أو على وجه الظلم من أولياء السوء وقضاته.
{فِي بُطُونِهِمْ} ملء بطونهم يقال: أكل فلان في بطنه، وفي بعض بطنه... ومعنى يأكلون ناراً: ما يجر إلى النار، فكأنه نار في الحقيقة.
{سَعِيراً}: ناراً من النيران مبهمة الوصف.
اعلم أنه تعالى أكد الوعيد في أكل مال اليتيم ظلما، وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك، كقوله: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا} {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا} ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة في وعيد من يأكل أموالهم، وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة، وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم، وإلا لم يكن لهذا التخصيص فائدة، وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف.
المسألة الثانية: قوله: {إنما يأكلون في بطونهم نارا} فيه قولان: الأول: أن يجري ذلك على ظاهره...
والقول الثاني: أن ذلك توسع، والمراد: أن أكل مال اليتيم جار مجرى أكل النار من حيث أنه يفضي إليه ويستلزمه، وقد يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر، كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} قال القاضي: وهذا أولى من الأول لأن قوله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} الإشارة فيه إلى كل واحد، فكان حمله على التوسع الذي ذكرناه أولى.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: الأكل لا يكون إلا في البطن فما فائدة قوله: {إنما يأكلون في بطونهم نارا}.
وجوابه: أنه كقوله: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} والقول لا يكون إلا بالفهم، وقال: {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} والقلب لا يكون إلا في الصدر، وقال: {ولا طائر يطير بجناحيه} والطيران لا يكون إلا بالجناح، والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة.
المسألة الرابعة: أنه تعالى وإن ذكر الأكل إلا أن المراد منه كل أنواع الإتلافات، فإن ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل، أو بطريق آخر، وإنما ذكر الأكل وأراد به كل التصرفات المتلفة لوجوه: أحدها: أن عامة مال اليتيم في ذلك الوقت هو الأنعام التي يأكل لحومها ويشرب ألبانها. فخرج الكلام على عادتهم. وثانيها: أنه جرت العادة فيمن أنفق ماله في وجوه مراداته خيرا كانت أو شرا، أنه يقال: إنه أكل ماله. وثالثها: أن الأكل هو المعظم فيما يبتغي من التصرفات.
المسألة السادسة: أنه تعالى ذكر وعيد مانعي الزكاة بالكي فقال: {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} وذكر وعيد آكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار، ولا شك أن هذا الوعيد أشد، والسبب فيه أن في باب الزكاة الفقير غير مالك لجزء من النصاب، بل يجب على المالك أن يملكه جزأ من ماله، أما ههنا اليتيم مالك لذلك المال فكان منعه من اليتيم أقبح، فكان الوعيد أشد، ولأن الفقير قد يكون كبيرا فيقدر على الاكتساب، أما اليتيم فإنه لصغره وضعفه عاجز فكان الوعيد في إتلاف ماله أشد.
ثم قال تعالى: {وسيصلون سعيرا} وفيه مسائل:
المسألة الثالثة: روي أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية، فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} ومن الجهال من قال: صارت هذه الآية منسوخة بتلك، وهو بعيد لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كان على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الإثم كما في هذه الآية، وإن كان على سبيل التربية والإحسان فهو من أعظم أبواب البر، كما في قوله: {وإن تخالطوهم فإخوانكم}، والله أعلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أما اللمسة الثانية، فهي صورة مفزعة: صورة النار في البطون.. وصورة السعير في نهاية المطاف.. إن هذا المال.. نار.. وإنهم ليأكلون هذه النار. وإن مصيرهم لإلى النار فهي النار تشوي البطون وتشوي الجلود. هي النار من باطن وظاهر. هي النار مجسمة حتى لتكاد تحسها البطون والجلود، وحتى لتكاد تراها العيون، وهي تشوي البطون والجلود!
ولقد فعلت هذه النصوص القرآنية، بإيحاءاتها العنيفة العميقة فعلها في نفوس المسلمين. خلصتها من رواسب الجاهلية. هزتها هزة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب. وأشاعت فيها الخوف والتحرج والتقوى والحذر من المساس -أي مساس- بأموال اليتامى.. كانوا يرون فيها النار التي حدثهم الله عنها في هذه النصوص القوية العميقة الإيحاء. فعادوا يجفلون أن يمسوها ويبالغون في هذا الإجفال!
من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما).. الآية.. انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء، فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: (ويسألونك عن اليتامى. قل: إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم فإخوانكم. والله يعلم المفسد من المصلح، ولو شاء الله لأعنتكم..) الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم..
وكذلك رفع المنهج القرآني هذه الضمائر، إلى ذلك الأفق الوضيء؛ وطهرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة معترضة تفيد تكرير التحذير من أكل مال اليتامى، جرّتهُ مناسبة التعرّض لقسمة أموال الأموات، لأنّ الورثة يكثر أن يكون فيهم يتامى لكثرة تزوّج الرجال في مدّة أعمارهم، فقلّما يخلو ميِّت عن ورثة صغار، وهو مؤذن بشدّة عناية الشارع بهذا الغرض، فلذلك عاد إليه بهذه المناسبة.
وقوله: {ظلماً} حال من {يأكلون} مقيِّدة ليخرج الأكلُ المأذون فيه بمثل قوله: {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء: 6]، فيكون كقوله: {ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء: 29].
ثم يجوز أن يكون (نارا) من قوله: {إنما يأكلون في بطونهم ناراً} مراداً بها نار جهنّم، كما هو الغالب في القرآن، وعليه ففِعْلُ {يأكلون} ناصب (ناراً) المذكور على تأويل يأكلون ما يفضي بهم إلى النار، فأطلق النار مجازاً مرسلاً بعلاقة الأَوْل أو السببية أي ما يفضي بهم إلى عذاب جهنّم، فالمعنى أنّهم حين يأكلون أموال اليتامى قد أكلوا ما يفضي بهم إلى جهنّم.
وعلى هذا فعطف جملة: {وسيصلون سعيراً} عَطْف مرادف لمعنى جملة {يأكلون في بطونهم ناراً}.
ويجوز أن يكون اسم النار مستعاراً للألم بمعنى أسباب الألم فيكون تهديداً بعذاب دنيوي أو مستعاراً للتلف لأنّ شأن النار أن تلتهم ما تصيبه، والمعنى إنّما يأخذون أموالاً هي سبب في مصائب تعتريهم في ذواتهم وأموالهم كالنار إذا تدنو من أحد فتؤلمه وتتلف متاعه، فيكون هذا تهديداً بمصائب في الدنيا على نحو قوله تعالى: {يمحق اللَّه الربا} [البقرة: 276] ويكون عطف جملة {وسيصلون سعيراً} جارياً على ظاهر العطف من اقتضاء المغايرة بين المتعاطفين، فالجملة الأولى تهديد بعذاب في الدنيا، والجملة الثانية وعيد بعذاب الآخرة.
وذِكْرُ {في بطونهم} على كلا المعنيين مجرّد تخييل وترشيح لاستعارة {يأكلون} لمعنى يأخذون ويستحوذون.
والسين في {سيصلون} حرف تنفيس أي استقبال، أي أنها تدخل على المضارع فتمحّضه للاستقبال، سوءا كان استقبالاً قريباً أو بعيداً، وهي مرادفة سوف، وقيل: إنّ سوف أوسع زمانا. وتفيدان في مقام الوعد تحقيقَ الوعد وكذلك التوعّد.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن اليتامى مظنة ان يبخسوا في الميراث، فأكل مالهم هنا ظلما هو بخسهم حظهم في الميراث، أو أكل الأوصياء أموالهم والأخذ من مال اليتيم سماه الله تعالى أكلا لما فيه من معنى الأخذ وان يقصد به تنمية ماله كما ينمي جسمه بالأكل، ولكنها تنمية آثمة مآلها البوار "ومن نبت لحمه من حرام فالنار أولى به "وقال سبحانه {ظلما} لكمال التشنيع على الكل، إذ هم يظلمون ضعيفا لا يقوى على الانتصاف منهم، وقد ذكر سبحانه إثم ذلك الكل بقوله: {إنما يأكلون في بطونهم} و هذا تصوير لضرر الأكل عليهم، لأنه يكون أكلهم كمن يأكل النار و يضعها في بطنه أي يملأ بطنه بها فهو في ألم دائم حتى يهلك، وكذلك دائما من يأكلون أموال اليتامى لا يأكلون أكلأ هنيئا ولا مريئا، بل هم في وسواس دائم حتى يقضى الله عليهم، وقد رأينا بيوتا خربت لأنها أكلت مال اليتيم. وهذا عقابهم في حاضرهم، أما العقاب الذي ينتظرهم في الآخرة فقال: {وسيصلون سعيرا} أي ستوقد بهم نار شديدة الأوار، يستمرون في بلاء شديد منها. اللهم ارزقنا رزقا حسنا، وجنبنا ما حرمت، وأقنعنا بالحلال الطيب، إنك سميع الدعاء.
ومازال الحق يضع المنهج في أمر اليتامى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا 10}
لماذا يركز القرآن على هذه الجزئية؟ لأن الله يريد من خلقه أن يستقبلوا قدر الله فيمن يحبون وفيمن يحتاجون إليهم برضا، فإذا كان الطفل صغيرا ويرى أباه يسعى في شأنه ويقدم له كل جميل في الحياة وبعد ذلك يموت، فإن كان هذا الصغير قد رأى واحدا مات أبوه وكفله المجتمع الإيماني الذي يعيش في كفالة عوضته عن أب واحد بآباء إيمانيين متعددين، فإذا مات والد هذا الطفل فإنه يستقبل قدر الله وخطبه بدون فزع. فالذي يجعل الناس تستقبل الخطوب بالفزع والجزع والهلع أنهم يرون ان الطفل إذا ما مات أبوه وصار يتيما فإنه يضيع، ويقول الطفل لنفسه: إن أبي عندما يموت سأصير مضيعا. لكن لو أن المجتمع حمى حق اليتيم وصار كل مؤمن أبا لليتيم وكل مؤمنة اما لليتيم لاختلف الأمر، فإذا ما نزل قضاء الله في أبيه فإنه يستقبل القضاء برضا وتسليم.
{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا 10} (سورة النساء).
إن كل العملية السلبية والنهبية أهم ما فيها هو الأكل؛ لأن الأكل هو المتكرر عند الناس، وهو يختلف عن اللباس، فكل فصل يحتاج الإنسان إلى ملابس تناسبه، لكن الأكل عملية يومية؛ لذلك فأي نهب يكون من أجل الأكل. ولذلك نقول في أمثالنا العامية عن النهاب:"فلان بطنه واسعة" إنها مسألة الأكل.
وقد أوضح الحق هذا الأمر لأكل مال اليتيم: أنت تحشو في بطنك نارا. ويعني ذلك أنه يأكل في بطنه ما يؤدي إلى النار في الآخرة. وهذا قد يحدث عقابا في الدنيا فيصاب آكل مال اليتيم في بطنه بأمراض تحرق أحشاءه، ويوم القيامة يرى المؤمنون هؤلاء القوم الذين أكلوا مال اليتيم، وعليهم سمات أكل مال اليتيم. وإياك أن تفهم أن البطون هي التي ستكون ممتلئة بالنار فقط، وألا يكون هناك نار أمام العيون. بل سيكون في البطون نار وسيصلون سعيرا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد ذكرنا في مطلع هذه السّورة أن آيات هذه السورة نزلت لبناء مجتمع صالح وسليم، ولهذا تسعى آياتها في تطهير المجتمع من الرواسب الجاهلية وما تبقّى في نفوس بعض المسلمين الحديثي العهد بالإِسلام من العادات السيئة أوّلا، لتتهيأ الأرضية لإِقامة ذلك المجتمع الصالح المنشود.
وأية عادة ترى أقبح من أكل أموال اليتامى؟ ولهذا ابتدأت هذه السورة بعبارات شديدة النكير على من يتصرف في أموال اليتامى تصرفاً غير مشروع، وغير صحيح، والآية الحاضرة هي أوضح هذه العبارات.
تقول هذه الآية: (إِنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلماً إِنّما يأكلون في بطونهم ناراً).
ولقد ورد نظير هذه العبارة في موضع آخر من القرآن الكريم وذلك في شأن الذين يكتمون الحق، ويحرفون الكلم عن مواضعها لتحقيق بعض المكاسب المادية الشخصية إذ يقول سبحانه عنهم: (إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمناً قليلا أُولئك ما يأكلون في بطونهم إلاّ النّار).
ثمّ أنّه سبحانه يقول في بيان نتيجة أكل أموال اليتامى: (وسيصلون سعيراً).
و«يصلى» من «الصلى» بمعنى الدخول في النار والاحتراق بلهيبها، وأمّا «السعير» فبمعنى النار المشتعلة.
ويقصد القرآن من هذه الجملة إِنّ الذين يأكلون أموال اليتامى مضافاً إِلى أنّهم يأكلون النار في الحقيقة في هذه الدنيا سيدخلون عمّا قريب ناراً مشتعلة الأوار وحارقة اللهب في الدار الآخرة.
ويستفاد من هذه الآية أن لأعمالنا مضافاً إِلى وجهها الظاهري وجهاً واقعياً أيضاً، وجهاً مستوراً عنّا في هذه الدنيا، لا نراه بعيوننا هنا، ولكنّه يظهر في العالم الآخر، وهذا الأمر هو ما يشكل مسألة تجسم الأعمال المطروحة في المعتقدات الإِسلامية.
إِنّ القرآن يصرح في هذه الآية بأنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلماً وجوراً، وإِن كان الوجه الظاهري لفعلهم هذا هو الأكل من الأطعمة اللذيذة الملونة، ولكن الوجه الواقعي لهذه الأغذية هو النار المحرقة الملتهبة، وهذا الوجه هو الذي يظهر ويتجلّى على حقيقته في عالم الآخرة.
إِنّ بين الوجه الواقعي للعمل والكيفية الظاهرية للعمل تناسباً وتشابهاً دائماً، فكما أن أكل مال اليتيم وغصب حقوقه يحرق فؤاد اليتيم، ويؤذي روحه، فكذا يكون الوجه الواقعي للعمل ناراً محرقة.
إِنّ الانتباه إِلى هذا الأمر (أي الوجه الحقيقي الواقعي لكل عمل) خير رادع للذين يؤمنون بهذه الحقائق، كيما لا يرتكبوا المعاصي ولا يقترفوا الذنوب، فهل يوجد ثمّة من يحب أن يأخذ بيديه قبسات من النار، ويضعها في فمه ويبتلعها؟
إِنّه من غير الممكن والحال هذه أن يقدم المؤمنون على أكل مال اليتيم ظلماً، ولو أنّنا وجدنا ثمّة من لا يقدم على هذا الفعل، بل ولا يفكر في المعصية أبداً كالأولياء، فلأنهم يرون بفضل ما لديهم من الإِيمان والعلم، وما حصلوا عليه من تربية خلقية حقائق الأفعال البشرية ووجوهها الواقعية، فلا يفكرون في اقتراف هذه الأعمال السيئة، فضلا عن الهمّ باقترافها.
إِنّ الطفل الجاهل هو الذي يمكن أن يسحره ويجذبه جمال الجذوات المتقدمة وألسنة اللهب المندفعة منها فيمد يده إِليها، ولكن الإِنسان العاقل الذي جرب حرارة النار وذاق ألمها، كيف يمكن أن يفكر يوماً بذلك.
هذا ولقد وردت أحاديث كثيرة تنهى بشدّة عن أكل مال اليتيم والعدوان على حقوقه، وتؤكد على أنّها كبيرة موبقة، بل وتعتبر أبسط الأعمال من هذا النوع مشمولا لهذا الحكم الصارم وموضوعاً لهذه العقوبة القاسية.