وقوله - تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } بيان لنعمة أخرى من النعم التى أنعم الله بها على داود .
واللبوس : كل ما يلبس كاللباس والملبس : والمراد به هنا : الدروع .
أى : وبجانب ما منحنا داود من فضائل ، فقد علمناه من لدنا صناعة الدروع بحذق وإتقان ، وهذه الصناعة التى علمناه إياها بمهارة وجودة { لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ } .
أى : لتجعلكم فى حرز ومأمن من الإصابة بآلة الحرب . وتقى بعضكم من بأس بعض ، لأن الدرع تقى صاحبها من ضربات السيوف ، وطعنات الرماح .
يقال : أحصن فلان فلانا ، إذا جعله فى حرز وفى مكان منيع من العدوان عليه .
والاستفهام فى قوله : { فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } للحض والأمر أى : فاشكروا الله - تعالى - على هذه النعم ، بأن تستعملوها فى طاعته - سبحانه - .
قال القرطبى - رحمه الله - : " وهذه الآية أصل فى اتخاذ الصنائع والأسباب ، وهو قول أهل العقول والألباب . لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء ، فالسبب سنة الله فى خلقه ، فمن طعن فى ذلك فقط طعن فى الكتاب والسنة ، وقد أخبر الله - تعالى - عن نبيه داود أنه كان يصنع الدروع ، وكان - أيضا - يصنع الخوص ، وكان يأكل من عمل يده ، وكان آدم حراثا ، ونوح نجارا ، ولقمان خياطا ، وطالوت دباغا ، فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس ، ويدفع بها عن نفسه الضرر والبأس ، وفى الحديث : " إن الله يحب المؤمن المحترف المتعفف ، ويبغض السائل الملحف " .
( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ، فهل أنتم شاكرون ? ) . .
تلك هي صنعة الدروع حلقا متداخلة ، بعد أن كانت تصنع صفيحة واحدة جامدة . والزرد المتداخل أيسر استعمالا وأكثر مرونة ، ويبدو أن داود هو الذي ابتدع هذا النوع من الدروع بتعليم الله . والله يمن على الناس أن علم داود هذه الصناعة لوقايتهم في الحرب : ( لتحصنكم من بأسكم )وهو يسألهم سؤال توجيه وتحضيض : ( فهل أنتم شاكرون ? ) . .
والحضارة البشرية سارت في طريقها خطوة خطوة وراء الكشوف . ولم تجيء طفرة ، لأن خلافة الأرض تركت لهذا الإنسان ، ولمداركه التي زوده الله بها ليخطو في كل يوم خطوة ؛ ويعيد تنسيق حياته وفق هذه الخطوة . وإعادة تنسيق الحياة وفق نظام جديد ليست سهلة على النفس البشرية ؛ فهي تهز أعماقها ؛ وتغير عاداتها ومألوفها ؛ وتقتضي فترة من الزمان لإعادة الاستقرار الذي تطمئن فيه إلى العمل والإنتاج . ومن ثم شاءت حكمة الله أن تكون هناك فترة استقرار تطول أو تقصر . بعد كل تنسيق جديد .
والقلق الذي يستولي على أعصاب العالم اليوم منشؤه الأول سرعة توالي الهزات العلمية والاجتماعية التي لا تدع للبشرية فترة استقرار ، ولا تدع للنفس فرصة التكيف والتذوق للوضع الجديد .
{ وعلمناه صنعة لبوس } عمل الدرع وهو في الأصل اللباس قال :
البس لكل حالة لبوسها *** إما نعيمها وإما بوسها
قيل كانت صفائح فحلقها وسردها . { لكم } متعلق بعلم أو صفة للبوس { ليحصنكم من بأسكم } بدل منه بدل الاشتمال بإعادة الجار ، والضمير لداود عليه الصلاة والسلام أو للبوس وفي قراءة ابن عامر وحفص بالتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع وفي قراءة أبي بكر ورويس بالنون لله عز وجل { فهل أنتم شاكرون } ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع .
عدد الله تعالى على البشر أن علم داود { صنعة } الدروع فكان يصنعها أحكم صنعة لتكوين وقاية من الحرب وسبب نجاة من العدو ، و «اللبوس » في اللغة السلاح فمنه الدرع والسيف والرمح وغير ذلك ومنه قول الشاعر [ عامر بن الحليس ] : [ الكامل ]
ومعي لبوس للبئيس كأنه . . . روق بجبهة ذي لقاح مجفل{[8252]}
يعني الرمح . وقرأ نافع والجمهور «ليحصنكم » بالياء على معنى ليحصنكم داود اللبوس ، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «لتحصنكم » بالتاء على معنى الصنعة أو الدروع التي أوقع عليها اللبوس ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «لنحصنكم » على معنى رد الفعل إلى الله تعالى ، ويروى أَنه كان الناس قبل تتخذ القوي لباساً من صفائح الحديد فكان ثقله يقطع بأكثر الناس .
وامتن الله بصنعة علّمها داوود فانتفع بها الناس وهي صنعة الدروع ، أي درُوع السرد . قيل كانت الدروع من قبللِ داوود ذات حَراشف من الحديد ، فكانت تثقل على الكُماة إذا لبسوها فألهم الله داوود صنع دُروع الحَلَق الدقيقة فهي أخف محملاً وأحسن وقاية .
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر صمويل الأول أن جالوت الفلسطيني خرج لمبارزة داوود لابساً درعاً حَرشفياً ، فكانت الدروع الحرشفية مستعملة في وقت شباب داوود فاستعمل العرب دروع السرد . واشتهر عند العرب ، ولقد أجاد كعب بن زهير وصفها بقوله :
شمّ العَرانين أبَطال لَبُوسُهم *** من نَسج دَاوودَ في الهيجا سرابيل
بيض سَوابغ قد شُكت لها حلَق *** كأنها حلَق القَفعاء مجدول
وكانت الدروع التُّبَّعية مشهورة عند العرب فلعل تُبّعاً اقتبسها من بني إسرائيل بعد داوود أو لعل الدروع التبعية كانت من ذات الحراشف ، وقد جمعها النابغة بقوله :
وكلَ صموت نِثلة تبّعية *** ونَسْج سُلَيْم كلّ قَمصاء ذَائِل
أراد بسليم ترخيم سليمان ، يعني سليمان بن داوود ، فنسب عمل أبيه إليه لأنه كان مدخِراً لها .
واللبوس بفتح اللام أصله اسم لكل ما يُلبس فهو فَعول بمعنى مفعول مثل رَسول . وغلب إطلاقه على ما يُلبس من لامة الحرب من الحديد ، وهو الدرع فلا يطلق على الدرع لِباس ويطلق عليها لبوس كما يطلق لَبوس على الثياب . وقال ابن عطية : اللبوس في اللغة السلاح فمنه الرمح ومنه قول الشاعر وهو أبو كبير الهذلي :
ومعي لَبُوس للبئيس كأنه *** رَوق بجبهة ذي نِعاج مجفل
وقرأ الجمهور { ليُحْصِنكم } بالمثناة التحتية على ظاهر إضمار لفظ { لَبوس } . وإسناد الإحصَان إلى اللبوس إسناد مجازي . وقرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر بالمثناة الفوقية على تأويل معنى { لَبوس } بالدرع ، وهي مؤنثة ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ، ورويس عن يعقوب { لنحصنكم } بالنون .
وضمائر الخطاب في { لكم ، ليحصنكم ، من بأسكم ، فهل أنتم شاكرون } موجهة إلى المشركين تبعاً لقوله تعالى قبل ذلك : { وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون } [ الأنبياء : 50 ] لأنهم أهملوا شكر نعم الله تعالى التي منها هذه النعمة إذ عبدوا غيره .
والإحصان : الوقاية والحماية . والبأس : الحرب .
ولذلك كان الاستفهام في قوله تعالى { فهل أنتم شاكرون } مستعملاً في استبطاء عدم الشكر ومكنّى به عن الأمر بالشكر .
وكان العدول عن إيلاء ( هل ) الاستفهامية بجملة فعلية إلى الجملة الاسمية مع أن ل ( هل ) مزيد اختصاص بالفعل ، فلم يقل : فهل تشكرون ، وعدل إلى { فهل أنتم شاكرون } ليدلّ العدول عن الفعلية إلى الاسمية على ما تقتضيه الاسمية من معنى الثبات والاستمرار ، أي فهل تقرر شكركم وثبت لأن تقرر الشكر هو الشأن في مقابلة هذه النعمة نظير قوله تعالى { فهل أنتم منتهون } في آية تحريم الخمر [ المائدة : 91 ] .