المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

144- لما أشيع قتل محمد في غزوة أُحد ، همّ بعض المسلمين بالارتداد ، فأنكر الله عليهم ذلك قائلا : ليس محمد إلا رسول قد مات من قبله المرسلون أمثاله ، وسيموت كما ماتوا ، وسيمضي كما مضوا ، أفإن مات أو قتل رجعتم على أعقابكم إلى الكفر ؟ ، ومن يرجع إلى الكفر بعد الإيمان فلن يضر الله شيئاً من الضرر ، وإنما يضر نفسه بتعريضها للعذاب ، وسيثيب الله الثابتين على الإسلام الشاكرين لنعمه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

ثم تمضى السورة الكريمة فى حديثها عن غزوة أحد ، فتذكر المؤمنين بما كان منهم عندما اشيع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، وترشدهم إلى أن الآجال بيد الله ، وأن المؤمنين الصادقين قاتلوا مع أنبيائهم فى سبيل إعلاء كلمة الله بدون ضعف أو ملل فعليهم أن يتأسوا بهم فى ذلك ، وأن الله - تعالى - قد تكفل بان يمنح المؤمنين الصادقين المجاهدين فى سبيله أجرهم الجزيل فى الدنيا والآخرة .

استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق هذه المعانى بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول : { وَمَا مُحَمَّدٌ . . . } .

قال ابن كثير : لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ، وقتل من قتل منهم ، نادى الشيطان : ألا إن محمداً قد قتل ، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلت محمداً . وإنما قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه فى رأسه . فوقع ذلك فى قلوب كثير من الناس ، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فحصل ضعف ووهن وتأخر - بين المسلمين - عن القتال . ففى ذلك أنزل الله تعالى - { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } الآية .

وقوله - تعالى - { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } تقرير لحقيقة ثابتة ، ولأمر مؤكد ، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم واحد من البشر ، وأنه سيموت كما يموت جميع البشر ، وأنه ليس له صفة تميزه عن سائر البشر سوى الرسالة التى وهبها الله - تعالى - له ، ومنحه إياها ، وأن هذه الرسالة لا تقتضى بقاءه أو خلوده ، إذ الرسل الذين سبقوه قد أدوا رسالتهم فى الحياة كما أمرهم خالقهم ثم ماتوا أو قتلوا .

وما دام الأمر كذلك فمحمد صلى الله عليه وسلم سيموت وينتقل إلى الرفيق الأعلى كما مات الذين سبقوه من الأنبياء ، وكما سيموت جميع البشر .

والقصر فى قوله - تعالى - : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } من باب قصر الموصوف على الصفة ، أى قصر محمد صلى الله عليه وسلم على وصف الرسالة قصراً إضافياً .

وفى هذا القصر رد على ما صدر من بعض المسلمين من اضطراب وضعف حين أرجف المنافقون فى غزوة أحد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل .

فكأنه - تعالى - يقول لهم : إن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من الرسل الذين أرسلهم الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وسيكون مصيره إلى الموت إن عاجلا أو آجلا كما هو شأن سائر البشر الذين اصطفى الله - تعالى - منهم رسله ، إلا أن رسالته التى جاء بها من عند الله لن تموت من بعده ، بل ستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولا يصح أن يضعف أتباعه فى عقيدتهم أو فى تبليغ رسالته من بعده ، بل عليهم أن يستمسكوا بما جاءهم به ، وأن يدافعوا عنه بأنفسهم وأموالهم .

ولذا فقد وبخ الله - تعالى - بعض المسلمين الذين صدر منهم اضطراب أو ضعف عندما أشاع ضعاف النفوس بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل فى غزوة أحد فقال - تعالى - : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } ؟

أى : إذا مات محمد صلى الله عليه وسلم - أيها المؤمنون - وقد علمتم أن موته حق لا ريب فيه ، أو قتل وهو يدافع عن دينه وعقيدته ، { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } أى : رجعتم إلى ما كنتم عليه من الكفر والضلال .

والانقلاب : الرجوع إلى المكان . وهو هنا مجاز فى الرجوع إلى الحال التى كانوا عليها قبل الإسلام .

يقال لكل من رجع إلى حاله السىء الأول : نكص على عقبيه ، وارتد على عقبيه . والعقب مؤخر الرجل . وجمع أعقاب .

قال صاحب الكشاف : قوله { أَفإِنْ مَّاتَ } الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبب . والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل ، مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه .

قإن : قلت : لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل ؟ قلت : لكونه مجوزا عند المخاطبين .

فإن قلت : أما علموه من ناحية قوله : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } قلت : هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوى البصيرة " .

وفى قوله { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } تنفير شديد من الرجوع إلى الضلال بعد الهدى ، وتصوير بليغ لمن ارتد عن الحق بعد أن هداه الله إليه .

فقد صور - سبحانه - حالة من ترك الهداية إلى الضلال ، بحالة من رجع إلى الوراء وبصره إلى الأمام ، وأعقابه هى التى تقوده إلى الخلق ، وهو فى حالة انتكاس ، بأن جعل رأسه إلى أسفل وعقبه إلى أعلا . ولا شك أن هذا أقبح منظر يكون عليه الإنسان .

وقوله { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً } الغرض منه تأكيد الوعيد ، لأن كل عاقل يعلم أن الله - تعالى - لا يضره كفر الكافرين .

أى : ومن ينقلب على عقبيه بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بأن يرجع إلى ما كان عليه من الكفر والضلال ، فلن يضر الله شيئاً من الضرر وإن قل ، إنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب ، وبحرمانها من الأجر والثواب .

ثم أتبع - سبحانه - هذا الوعيد بالوعد فقال : { وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } أى : وسيثيب الله - تعالى - الثابتين على الحق والصابرين على الشدائد الشاكرين له نعمه فى السراء والضراء ، سيثيبهم على ذلك بالنصر فى الدنيا وبرضوانه فى الآخرة .

وعبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين مع أن الصبر فى هذا الموطن أظهر ، وذلك لأن الشكر فى هذا المقام هو أسمى درجات الصبر ، لأن هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب النبى - صلى الله عليه وسلم - فى ساعة العسرة ، لم يكتفوا بتحمل البلاء معه فقط ، بل تجاوزوا حدود الصبر إلى حدود الشكر على هذه الشدائد التى ميزت الخبيث من الطيب ، فالشكر هنا صبر وزيادة ، وقليل من الناس هو الذى يكون على هذه الشاكلة ، ولذا قال - تعالى -

{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } فالآية الكريمة قد تضمنت عتابا وتوبيخا لأولئك المسلمين الذين ضعف يقينهم ، وفترت همتهم ، عندما أرجف المرجفون فى غزوة أحد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل .

كما تضمنت الثناء الجزيل على أولئك الثابتين الصابرين الذين لم تؤثر فى قوة إيمانهم تلك الأراجيف الكاذبة ، بل مضوا فى جهادهم وثباتهم بدون تردد أو تزعزع ولقد كان الثابتون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة أحد كثيرين ومن بينهم أنس بن النضر - رضى الله عنه - ، فقد ورى البخارى عن أنس - رضى الله عنه - قال : غاب عمى أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله . غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين ، لئن أشهدنى الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع .

فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون . قال : اللهم إنى أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المسلمين - . وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المشركين - .

ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ . فقال : يا سعد بن معاذ ! ! الجنة ورب النضر إنى لأجد ريحها من دون أحد .

قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع .

قال أنس : فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ، وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه .

قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفى أشباهه : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } كما تضمنت الآية الكريمة التحذير عن الارتداد عن دين الله بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان أنه بشر من البشر ، وأنه يموت كما يموت سائر البشر ، وأن رسالته هى الخالده الباقية ، فمن تمسك بها فقد سعد وفاز . ومن أعرض عنها فلن يضر الله شيئاً .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

121

ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة ؛ وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق ؛ متخذا من أحداث المعركة محورا لتقرير تلك الحقائق ؛ ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد :

( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ؛ وسيجزي الله الشاكرين . وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ؛ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ؛ وسنجزي الشاكرين . وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا ، والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، والله يحب المحسنين ) . .

إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة ، حدثت في غزوة أحد . ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل ، فركبه المشركون ، وأوقعوا بالمسلمين ، وكسرت رباعية الرسول [ ص ] وشج وجهه ، ونزفت جراحه ؛ وحين اختلطت الأمور ، وتفرق المسلمون ، لا يدري أحدهم مكان الآخر . . حينئذ نادى مناد : إن محمدا قد قتل . . وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين . فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة ، مصعدين في الجبل منهزمين ، تاركين المعركة يائسين . . لولا أن ثبت رسول الله [ ص ] في تلك القلة من الرجال ؛ وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون ، حتى فاءوا إليه ، وثبت الله قلوبهم ، وأنزل عليهم النعاس امنة منه وطمأنينة . . كما سيجيء . .

فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول ، يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه ، ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي ؛ ويجعلها محورا لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة ، وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين :

( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين ) . .

إن محمدا ليس إلا رسولا . سبقته الرسل . وقد مات الرسل . ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله . . هذه حقيقة أولية بسيطة . فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة ؟

إن محمدا رسول من عند الله ، جاء ليبلغ كلمة الله . والله باق لا يموت ، وكلمته باقية لا تموت . . وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل . . وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول . وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة !

إن البشر إلى فناء ، والعقيدة إلى بقاء ، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس ، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ . . والمسلم الذي يحب رسول الله [ ص ] وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرا . الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة . وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك ! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدا إثر واحد . . وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم ، وبكل مشاعرهم ، حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره [ ص ] . . هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب ، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد [ ص ] والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده ، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت .

إن الدعوة أقدم من الداعية :

( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) . .

قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن ، العميقة في منابت التاريخ ، المبتدئة مع البشرية ، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق .

وهي أكبر من الداعية ، وأبقى من الداعية . فدعاتها يجيئون ويذهبون ، وتبقى هي على الأجيال والقرون ، ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول ، الذي أرسل بها الرسل ، وهو باق - سبحانه - يتوجه إليه المؤمنون . . وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ، ويرتد عن هدى الله . والله حي لا يموت :

ومن ثم هذا الاستنكار ، وهذا التهديد ، وهذا البيان المنير :

( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين ) . .

وفي التعبير تصوير حي للارتداد : ( انقلبتم على أعقابكم ) . . ( ومن ينقلب على عقبيه ) . فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة ، كأنه منظر مشهود . والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ، ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف : إن محمدا قد قتل ، فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين ، وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين ، وانتهى أمر الجهاد للمشركين ! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا ، فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب ، كارتدادهم في المعركة على الأعقاب ! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس - رضي الله عنه - فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم ، وقالوا له : إن محمدا قد مات : " فما تصنعون بالحياة من بعده ؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله [ ص ] " .

( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) . .

فإنما هو الخاسر ، الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق . . وانقلابه لن يضر الله شيئا . فالله غني عن الناس وعن إيمانهم . ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ، ولخيرهم هم . وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله . وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق ، وتعوج الأمور كلها ، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة ، وتستقيم في ظله النفوس ، وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها ، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه .

( وسيجزي الله الشاكرين ) . .

الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج ، فيشكرونها باتباع المنهج ، ويشكرونها بالثناء على الله ، ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم ، ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة ، وهو أكبر وأبقى . .

وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة ، وبهذه الآية ، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي [ ص ] وهو حي بينهم . وأن يصلهم مباشرة بالنبع . النبع الذي لم يفجره محمد [ ص ] ولكن جاء فقط ليومىء إليه ، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق ، كما أومأ إليه من قبله من الرسل ، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه !

وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم ، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى . العروة التي لم يعقدها محمد [ ص ] إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون !

وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة ، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة ، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة ، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول [ ص ] أو يقتل ، فهم إنما بايعوا الله . وهم أمام الله مسؤولون !

وكأنما كان الله - سبحانه - يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم . فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب ، وأن يصلهم به هو ، وبدعوته الباقية ، قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول .

ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهرا سيفه ، يهدد به من يقول : إن محمدا قد مات !

ولم يثبت إلا أبو بكر ، الموصول القلب بصاحبه ، وبقدر الله فيه ، الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع ، فإذا هم يثوبون ويرجعون !

/خ179

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } فسيخلو كما خلوا بالموت أو القتل . { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } إنكارا لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به . وقيل الفاء للسببية والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته . روي ( أنه لما رمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه ، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد قتلت محمدا وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ، فانكفأ الناس وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلي عباد الله فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرق الباقون ، وقال بعضهم : ليت ابن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ، وقال ناس من المنافقين لو كان نبيا لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنهما : يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعده فقاتلوا على ما قاتل عليه ، ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقولون وأبرأ إليك منه وشد بسيفه فقاتل حتى قتل ) فنزلت . { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا } بارتداده بل يضر نفسه . { وسيجزي الله الشاكرين } على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه .