المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} (76)

76- وانتهي الأمر إلى تفتيش الرحال ، وكان لا بد من الأحكام حتى لا يظهر في تنفيذ الخطة افتعال ، وتولى يوسف التفتيش بنفسه ، بعد أن مهّد الأمر ، فبدأ بتفتيش أوعية العشرة الأشقاء ، ثم انتهي إلى تفتيش وعاء أخيه ، فأخرج السقاية منه ، وبذلك نجحت حيلته ، وحق له بقضاء إخوته أن يحتجز بنيامين ، وهكذا دبَّر الله الأمر ليوسف فما كان في استطاعته أخذ أخيه بمقتضى شريعة ملك مصر إلا بإرادة الله ، وقد أرادها ، فدبَّرنا الأمر ليوسف ووفقناه إلى ترتيب الأسباب وإحكام التدبير والتلطف في الاحتيال ، وهذا من فضل الله الذي يعلى في العلم منازل من أراد ، وفوق كل صاحب علم مَن هو أعظم ، فهناك من يفوقه في علمه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} (76)

وقوله - سبحانه - { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } معطوف على كلام محذوف يفهم من المقام .

والتقدير : وبعد هذه المحاورة التي دارت بين إخوة يوسف وبين الذين اتهموهم بالسرقة أخبر الإخوة بتفتيش أمتعتهم للبحث عن الصواع بداخلها .

" فبدأ " المؤذن بتفتيش أوعيتهم ، قبل أن يفتش وعاء " بنيامين " فلم يجد شيئاً بداخل أوعيتهم .

فلما وصل إلى وعاء " بنيامين " وقام بتفتيشه وجد السقاية بداخله ، فاستخرجها منه على مشهد منهم جميعاً .

ويبدو أن هذا الحوار من أوله كان بمشهد ومرأى من يوسف - عليه السلام - وكان أيضاً بتدبير وتوجيه منه للمؤذن ومن معه ، فهو الذي أمر المؤذن بأن ينادى { أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } وهو الذي أشار عليه بأن يسألهم عن حكم السارق في شريعتهم ، وهو الذي أمره بأن يبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل أن يفتش وعاء شقيقه " بنيامين " دفعا للتهمة ، ونفيا للشبهة . . .

روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعاء " بنيامين " لتفتيشه قال يوسف - عليه السلام - : ما أظن هذا أخذ شيئاً ؟ فقالوا : " والله لا تتركه حتى تنظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا " .

ويطوي القرآن ما اعترى إخوة يوسف من دهشه وخزي ، بعد أن وجدت السقاية في رحل " بنيامين " وبعد أن أقسموا بالله على براءتهم من تهمة السرقة . . يطوي القرآن كل ذلك ، ليترك للعقول أن تتصوره . . .

ثم يعقب على ما حدث ببيان الحكمة التي من أجلها ألهم الله - تعالى - يوسف أن يفعل ما فعل من دس السقاية في رحل أخيه ، ومن سؤال إخوته عن جزاء السارق في شريعتهم فيقول { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . }

و " كدنا " من الكيد وأصله الاحتيال والمكر ، وهوصرف غيرك عما يريده بحيله ، وهو مذموم إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح ، ومحمود إن تحرى به الفاعل الخير والجميل .

والمراد به هنا : النوع المحمود ، واللام في " ليوسف " للتعليل .

والمراد بدين الملك : شريعته التي يسير عليها في الحكم بين الناس .

والمعنى : مثل هذا التدبير الحكيم دبرنا من أجل يوسف ما يوصله إلى غرضه ومقصده ، وهو احتجاز أخيه بنيامين معه ، بأن ألهمناه بأن يضع السقاية في رحل أخيه ، وبأن يسأل إخوته عن حكم السارق في شريعتهم . . وما كان يوسف ليستطيع أن يحتجز أخاه معه ، لو نفذ شريعة ملك مصر ، لأن شريعته لا تجيز استرقاق السارق سنة كما هو الحال في شريعة يعقوب ، وإنما تعاقب السارق بضربه وتغريمه قيمة ما سرقه .

وما كان يوسف ليفعل كل ذلك التدبير الحكيم في حال من الأحوال ، إلا في حال مشيئة الله ومعونته وإذنه بذلك ، فهو - سبحانه - الذي ألهمه أن دس السقاية في رحل أخيه ، وهو - سبحانه - الذي ألهمه أن يسأل إخوته عن عقوبة السارق في شريعتهم حتى يطبقها على من يوجد صواع الملك في رحله منهم .

والجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله - تعالى - على يوسف حيث ألهمه ما يوصله إلى مقصوده بأحكم أسلوب .

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ } أى : مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الإِخوة إلى الإِفتاء المذكور . . . دبرنا وصنفنا من أجل يوسف ما يحصل به غرضه . . .

وقوله { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك } أى في حكمه وقضائه والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد ، كأنه قيل : لماذا فعل ؟ فقيل : لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد ، لأن جزاء السارق في دينه أن يضاعف عليه الغرم . . . دون أن يسترق كما هو الحال في شريعة يعقوب .

وقوله { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } أى : لم يكن يوسف ليتمكن من أخذ أخيه في حال نم الأحوال ، إلا في حال مشيئته - تعالى - التي هي عبارة عن ذلك الكيد المذكور . . .

قالوا : وفى الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً .

وقوله - سبحانه - { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } استئناف لبيان قدرة الله - تعالى - وسعة رحمته وعطائه .

أى : نرفع من نشاء رفعه من عبادنا إلى درجات عالية من العلوم والمعارف والعطايا والمواهب كما رفعنا درجات يوسف - عليه السلام - .

{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ } من أولئك المرفوعين { عليم } يزيد عنهم في علمهم وفى مكانتهم عند الله - تعالى - فهو - سبحانه - العليم بأحوال عباده ، وبمنازلهم عنده ، وبأعلاهم درجة ومكانة .

وقال - سبحانه - { نرفع } بصيغة الاستقبال وللأشعار بأن ذلك سنة من سننه الإِلهية التي لا تتخلف ولا تتبدل ، وأن عطاءه - سبحانه - لايناله إلا الذين تشملهم إرادته ومشيئته كما تقتضيه حكمته .

وجاءت كلمة { درجات } بالتنكير ، للإِشارة إلى عظمها وكثرتها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} (76)

54

كل هذا الحوار كان على منظر ومسمع من يوسف . فأمر بالتفتيش . وأرشدته حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل رحل أخيه . كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش :

( فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ) !

ويدعنا السياق نتصور الدهشة بالمفاجأة العنيفة لأبناء يعقوب الموقنين ببراءتهم ، الحالفين ، المتحدين . . فلا يذكر شيئا عن هذا ، بل يتركه يتملاه الخيال على الصورة التي تكمل رسم المشهد بانفعالاته . . بينما يأخذ في التعقيب ببعض مرامي القصة ، ريثما يفيق النظارة وأبناء يعقوب مما هم فيه :

( كذلك كدنا ليوسف ) . .

أي كذلك دبرنا له هذا التدبير الدقيق .

( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) . .

فلو حكم شريعة الملك ما تمكن من أخذ أخيه ، إنما كان يعاقب السارق على سرقته ، دون أن يستولي على أخيه كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم . وهذا هو تدبير الله الدي ألهم يوسف أسبابه . وهو كيد الله له . والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء . وإن كان الشر قد غلب عليه . وظاهر الأمر هنا أنه شر يحل بأخيه وهو شر يحل بإخوته لإحراجهم أمام أبيه . وهو سوء - ولو مؤقتا - لأبيه . فلهذا اختار تسميته كيدا على إجمال اللفظ وبالإلماع إلى ظاهره . وهو من دقائق التعبير .

( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) . . ( إلا أن يشاء الله ) . .

فيدبر مثل هذا التدبير الذي رأيناه .

ويتضمن التعقيب الإشارة إلى ما ناله يوسف من رفعة :

( نرفع درجات من نشاء ) . .

وإلى ما ناله من علم ، مع التنبيه إلى أن علم الله هو الأعلى :

( وفوق كل ذي علم عليم ) . .

وهو احتراس لطيف دقيق .

ولا بد أن نقف أمام التعبير القرآني الدقيق العميق :

( كذلك كدنا ليوسف . . ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك . . . ) . .

إن هذا النص يحدد مدلول كلمة " الدين " - في هذا الموضع - تحديدا دقيقا . . إنه يعني : نظام الملك وشرعه . . فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته . إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه . وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعتهم ؛ فطبقها يوسف عليهم عندما وجد صواع الملك في رحل أخيه . . وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها " الدين " . .

هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا . سواء منهم من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهلين !

إنهم يقصرون مدلول " الدين " على الاعتقاد والشعائر . . ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ؛ ويؤدي الشعائر المكتوبة . . . داخلا في " دين الله " مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في

الأرض . . بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول " دين الملك " بانه نظام الملك وشريعته . وكذلك " دين الله " فهو نظامه وشريعته . .

إن مدلول " دين الله " قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر . . ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين .

لقد كان يعني دائما : الدينونة لله وحده ؛ بالتزام ما شرعه ، ورفض ما يشرعه غيره . وإفراده - سبحانه - بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء ؛ وتقرير ربوبيته وحده للناس : أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره . وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين " الله " ومن هم في " دين الملك " أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده ، وأن الآخرين يدينون لنظام الملك وشرعه . أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر ، ويدينون لغير الله في النظام والشرائع !

وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة ، ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماما .

وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلمسون لهم عذرا في أنهم يجهلون مدلول كلمة " دين الله " وهم من ثم لا يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها بوصفها هي " الدين " . وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين !

وأنا لا أتصور كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين !

إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها . فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها ؟ وكيف يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها ؟

إن هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة ، أو يخفف عنهم العذاب فيها ؛ ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها . . ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله ، والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل . وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض !

إن الذي يعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم . . إنه ليس دين الله قطعا . فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة . فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في " دين الله " . ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في " دين الملك " . ولا جدال في هذا .

والذين يجهلون مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين . لأن الجهل هنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية . والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلا وواقعا أن يكون معتقدا به . إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة . . وهذه بديهية . .

وخير لنا من أن ندافع عن الناس - وهم في غير دين الله - ونتلمس لهم المعاذير ، ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده ! . .

خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول " دين الله " ليدخلوا فيه . . أو يرفضوه . .

هذا خير لنا وللناس أيضا . . خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين ، الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة . . وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه - وأنهم في دين الملكلا في دين الله - قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام ، ومن دين الملك إلى دين الله !

كذلك فعل الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} (76)

لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة ، قال لهم إخوة يوسف : { تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أي : لقد تحققتم وعلمتم منذ{[15230]} عرفتمونا ، لأنهم{[15231]} شاهدوا منهم سيرة حسنة ، أنَّا ما جئنا للفساد في الأرض ، وما كنا سارقين ، أي : ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة ، فقال{[15232]} لهم الفتيان : { فَمَا جَزَاؤُهُ } أي : السارق ، إن كان فيكم { إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } أي : أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه{[15233]} ؟ { قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

وهكذا كانت شريعة إبراهيم : أن السارق يدفع إلى المسروق منه . وهذا هو الذي أراد يوسف ، عليه السلام ؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، أي فتشها قبله ، تورية ، { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه ؛ ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه ، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة .

وقوله : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } أي : لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر ، قاله الضحاك وغيره .

وإنما قيض الله له أن{[15234]} التزم له إخوته بما التزموه ، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ؛ ولهذا مدحه تعالى فقال : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } كما قال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ المجادلة : 11 ] .

{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم ، حتى ينتهي إلى الله عز وجل . وكذا رَوَى عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله فوق كل ذي علم عليم [ فقال ابن عباس : بئس ما قلت ، الله العليم ، وهو فوق كل عالم ]{[15235]} وكذا روى سماك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم . وهكذا{[15236]} قال عكرمة .

وقال قتادة : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بُدئ وتعلمت العلماء ، وإليه يعود ، وفي قراءة عبد الله " وَفَوْقَ كُلِّ عالم عليم " .


[15230]:- في ت : "مذ".
[15231]:- في ت : "لا لأنهم".
[15232]:- في أ : "فقالت".
[15233]:- في أ : "فيهم من أخذها".
[15234]:- في ت : "أنه".
[15235]:- زيادة من ت ، أ.
[15236]:- في ت ، أ : "وكذا".

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} (76)

{ بدأ } أي أمر يوسف عليه السلام بالبداءة بأوعية بقية إخوته قبلَ وعاء أخيه الشقيق .

وأوعية : جمع وعاء ، وهو الظرف ، . مشتق من الوعي وهو الحفظ . والابتداء بأوعية غير أخيه لإبعاد أن يكون الذي يُوجد في وعائه هو المقصود من أول الأمر . وتأنيث ضمير { استخرجها } للسقاية . وهذا التأنيث في تمام الرشاقة إذ كانت الحقيقة أنها سقاية جعلت صواعاً . فهو كردّ العجز على الصدر .

والقول في { كذلك كدنا ليوسف } كالقول في { كذلك نجزي الظالمين } [ سورة يوسف : 75 ] .

والكَيْد : فعل يتوصل بظاهره إلى مقصد خفي . والكيد : هنا هو إلهام يوسف عليه السلام لهذه الحيلة المحكمة في وضع الصواع وتفتيشه وإلهام إخوته إلى ذلك الحكم المُصْمَت .

وأسند الكيد إلى الله لأنه ملهمه فهو مسبّبه . وجعل الكيد لأجل يوسف عليه السلام لأنه لفائدته .

وجملة { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } بيان للكيد باعتبار جميع ما فيه من وضع السقاية ومن حكم إخوته على أنفسهم بما يلائم مَرغوب يوسف عليه السلام من إبقاء أخيه عنده ، ولولا ذلك لمَا كانت شريعة القبط تخوله ذلك ، فقد قيل : إن شرعهم في جزاء السارق أن يؤخذ منه الشيء ويضرب ويغرم ضعفي المسروق أو ضعفي قيمته . وعن مجاهد { في دين الملك } أي حكمه وهو استرقاق السراق . وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لقوله : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } أي لولا حيلة وضع الصُّواع في متاع أخيه . ولعل ذلك كان حكماً شائعاً في كثير من الأمم ، ألا ترى إلى قولهم : { من وجد في رحله فهو جزاؤه } [ سورة يوسف : 75 ] كما تقدم ، أي أن ملك مصر كان عادلاً فلا يؤخذ أحد في بلاده بغير حق . ومثله ما كان في شرع الرومان من استرقاق المدين ، فتعين أن المراد بالدّين الشريعة لا مطلق السلطان .

ومعنى لام الجحود هنا نفي أن يكون في نفس الأمر سبب يخول يوسف عليه السلام أخذ أخيه عنده .

والاستثناء من عموم أسباب أخذ أخيه المنفية . وفي الكلام حرف جر محذوف قبل { أن } المصدرية ، وهو باء السببية التي يدل عليها نفي الأخذ ، أي أسبابه . فالتقدير : إلا بأن يشاء الله ، أي يُلهم تصوير حالته ويأذن ليوسف عليه السلام في عَمله باعتبار ما فيه من المصالح الجمة ليوسف وإخوته في الحال والاستقبال لهم ولذريتهم .

وجملة { نرفع درجات من نشاء } تذييل لقصة أخذ يوسف عليه السلام أخاه لأن فيها رفع درجة يوسف عليه السلام في الحال بالتدبير الحكيم من وقت مناجاته أخاه إلى وقت استخراج السقاية من رحله . ورفع درجة أخيه في الحال بإلحاقه ليوسف عليه السلام في العيش الرفيه والكمال بتلقي الحكمة من فيه .

ورفع درجات إخوته وأبيه في الاستقبال بسبب رفع درجة يوسف عليه السلام وحنوه عليهم . فالدرجات مستعارة لقوة الشرف من استعارة المحسوس للمعقول . وتقدم في قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجة } في سورة البقرة ( 228 ) ، وقوله : { لهم درجات عند ربهم } في سورة الأنفال ( 4 ) .

وجملة وفوق كل ذي علم عليم } تذييل ثان لجملة { كذلك كدنا ليوسف } الآية .

وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه ، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس .

والفوقية مجاز في شرف الحال ، لأن الشرف يشبّه بالارتفاع .

وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف { عليم } باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه .

وظاهر تنكير { عليم } أن يراد به الجنس فيعم كلّ موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى . فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه . ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم .

وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة والتعظيم ، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص .

وقرأ الجمهور { درجات من نشاء } بإضافة { درجات } إلى { من نشاء } . وقرأه حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف بتنوين { درجاتٍ } على أنه تمييز لتعلق فعل { نرفع } بمفعوله وهو { من نشاء } .