46- ولا تجادلوا مخالفيكم من اليهود والنصارى إلا بالطريقة التي هي أهدأ وألين وأدعى إلى القبول . إلا الذين جاوزوا حد الاعتدال في الجدال فلا حرج في مقابلتهم بالشدة ، وقولوا لمن تجادلونهم : صدَّقنا بما أنزل الله إلينا من القرآن وما أنزل إليكم من التوراة والإنجيل ، ومعبودنا ومعبودكم واحد ، ونحن له - وحده - منقَادون .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله والمؤمنين . أن يجادلوا أهل الكتاب بالتى هى أحسن ، ما داموا لم يرتكبوا ظلماً ، وأقام - سبحانه - الأدلة على أن هذا القرآن من عنده وحده ، فقال : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ . . . إِلاَّ الظالمون } .
والمجادلة : المخاصمة . يقال : جادل فلانٌ فلاناً : إذا خاصمه ، وحرص كل واحد منها على أن يغلب صاحبه بقوة حجته . أى : ولا تجادلوا - أيها المؤمنون - غيركم من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، إلا بالطريقة التى هى أحسن ، بأن ترشدوهم إلى طريق الحق بأسلوب لين كريم ، كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } وقوله : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } استثناء من الذين يجادلون بالتى هى أحسن .
أى : ناقشوهم وأرشدوهم إلى الحق بالتى هى أحسن ، إلا الذين ظلموا منهم . بأن أساءوا إليكم ، ولم يستعملوا الأدب فى جدالهم ، فقابلوهم بما يليق بحالهم من الإِغلاظ والتأديب .
وعلى هذا التفسير يكون المقصود بالآية الكريمة ، دعوة المؤمنين إلى استعمال الطريقة الحسنى فى مجادلتهم لأهل الكتاب عموماً . ما عدا الظالمين منهم فعلى المؤمنين أن يعاملوهم بالأسلوب المناسب لردعهم وزجرهم وتأديبهم .
وقيل : المرد بأهل الكتاب هنا : المؤمنون منهم ، والمرد بالذين ظلموا : من بقى على الكفر منهم .
فيكون المعنى : ولا تجادلوا - أيها المؤمنون - من آمن من أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن ، إلا لاذين بقوا على كفرهم فعاملوهم بما يليق بحالهم من التأديب والإِغلاظ عليهم .
ويبدو لنا أن التفسير الأول هو الأرجح والأظهر ، لأن الآية مسوقة لتعليم المؤمنين كيف يجادلون من بقى على دينه من أهل الكتاب ، ولأن من ترك كفره منهم ودخل فى الإِسلام أصبح مسلما وليس من أهل الكتاب ، وما دام الأمر كذلك فليس المسلمون فى حاجة إلى إرشادهم إلى كيفية مجادلته ، ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك : { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } يرجح أن المراد بأهل الكتاب هنا من بقى على دينه منهم .
أى : جادلوهم بالطريقة الحسنى ما داموا لم يظلموكم ، وقولوا لهم على سبيل التعليم والإِرشاد { آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا } وهو القرآن ، وآمنا بالذى أنزل إليكم من التوراة والإِنجيل .
قال الشوكانى : أى : آمنا بأنهما منزلان من عند الله ، وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإِسلامية ، والبعثة المحمدية ولا يدخل فى ذلك ما حرفوه وبدلوه .
{ وإلهكم وَاحِدٌ } لا شريك له لا فى ذاته ولا فى صفاته { وَنَحْنُ } جميعاً معاشر المؤمنين { لَهُ مُسْلِمُونَ } أى : مطيعون وعابدون له وحده ، ولا نتخذ أربابا من دونه - عز وجل - .
قال القرطبى ما ملخصه : اختلف العلماء فى قوله - تعالى - : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب . . . } فقال مجاهد : هى محكمة ، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتى هى أحسن ، على معنى الدعاء لهم إلى الله - عز وجل - ، والتنبيه على حججه وآياته . . وقوله : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } أى ظلموكم . .
وقيل : هذه الآية منسوخة بآية القتال وهى قوله :
{ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله . . } وقول مجاهد : حسن ، لأن أحكام الله - عز وجل - لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخير يقطع العذر ، أو حجة من معقول . .
( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون ) . .
إن دعوة الله التي حملها نوح - عليه السلام - والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد [ صلى الله عليه وسلم ] لهي دعوة واحدة من عند إله واحد ، ذات هدف واحد ، هو رد البشرية الضالة إلى ربها ، وهدايتها إلى طريقه ، وتربيتها بمنهاجه . وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات : كلهم أمة واحدة ، تعبد إلها واحدا . وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان : صنف المؤمنين وهم حزب الله . وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان ، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان . وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون .
هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام ؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن ؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب ، أو جنس ، أو وطن . أو تبادل أو تجارة . ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله ، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان ؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان ؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان . ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان .
ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى ؛ لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة ، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة ، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله ، الموافقة لما قبلها من الدعوات ، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر . . ( إلا الذين ظلموا منهم )فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية ؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة . فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة . وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة .
وإن بعضهم ليفتري على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين . فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم ، مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة ! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه . فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم ، ولم ينحرف عن دين الله . وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات .
وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، و إلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون . .
وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع ، والجدل والنقاش . وكلهم يؤمنون بإله واحد ، والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم ، وهو في صميمه واحد ، والمنهج الإلهي متصل الحلقات .
قال قتادة وغير واحد : هذه الآية منسوخة بآية السيف ، ولم يبق معهم مجادلة ، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف .
وقال آخرون : بل هي باقية أو محكمة لِمَنْ أراد الاستبصار منهم في الدين ، فيجادل بالتي هي أحسن ، ليكون أنجع فيه ، كما قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [ النحل : 125 ] ، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 ] . وهذا القول اختاره ابن جرير{[22620]} ، وحكاه عن ابن زيد .
وقوله : { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي : حادوا عن وجه الحق{[22621]} ، وعَمُوا عن واضح المحجة ، وعاندوا وكابروا ، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد ، ويقاتلون بما يردعهم ويمنعهم ، قال الله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ] .
قال جابر : أمرْنَا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف .
قال مجاهد : { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } يعني : أهل الحرب ، وَمَنِ امتنع منهم عن أداء الجزية .
وقوله : { وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ } ، يعني : إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، فهذا لا نُقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقا ، ولا على تصديقه ، فلعله أن يكون باطلا ولكن نؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط وهو أن يكون منزلا لا مبدلا ولا مؤولا .
وقال البخاري ، رحمه الله : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عثمان بن عُمَر ، أخبرنا علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة{[22622]} ، رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب{[22623]} يقرؤون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون " . وهذا الحديث تفرَّد{[22624]} به البخاري{[22625]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن عُمَر ، أخبرنا يونس ، عن الزهري ، أخبرني ابن أبي نملة{[22626]} أن أبا نَمْلَةَ الأنصاري أخبره ، أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاءه رجل من اليهود ، فقال : يا محمد ، هل تتكلم هذه الجنازة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أعلم " . قال اليهودي : أنا أشهد أنها تتكلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله ورسله وكتبه ، فإن كان حقًّا لم{[22627]} تكذبوهم ، وإن كان باطلا لم{[22628]} تصدقوهم " {[22629]} قلت : وأبو نَمْلَةَ هذا هو : عُمَارة . وقيل : عمار . وقيل : عمرو بن معاذ بن زُرَارة الأنصاري ، رضي الله عنه .
ثم ليعلم أن أكثر ما يُحدّثون به غالبُه كذب وبهتان ؛ لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل ، وما أقل الصدق فيه ، ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحا .
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا سفيان ، عن سليمان بن عامر ، عن عمارة بن عمير ، عن حُرَيْث{[22630]} بن ظهير ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل ، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية ، تدعوه إلى دينه كتالية المال{[22631]} .
وقال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل{[22632]} حدثنا إبراهيم بن سعد ، أخبرنا ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله{[22633]} ، عن ابن عباس قال : كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ، وكتابكم الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم أحدث{[22634]} تقرؤونه محضا لم يُشَب ، وقد حدَثَكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتاب الله ، وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب ، وقالوا : هو{[22635]} من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا ؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن{[22636]} مسألتهم ؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم{[22637]} .
وقال البخاري : وقال أبو اليمان : أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني حُمَيد بن عبد الرحمن : أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة - وذكرَ كعبَ الأحبار - فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب{[22638]} .
قلت : معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد ؛ لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن ، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة ؛ لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة ، ومع ذلك وقرب العهد وضعت{[22639]} أحاديث كثيرة في هذه الأمة ، لا يعلمها إلا الله ومن منحه الله علما بذلك ، كل بحسبه ، ولله الحمد والمنة .
عطف على جملة { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } [ العنكبوت : 45 ] الآية ، باعتبار ما تستلزمه تلك من متاركة المشركين والكف عن مجادلتهم بعد قوله تعالى { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعْقِلُها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] كما تقدم آنفاً . وقد كانت هذه توطئة لما سيحدث من الدعوة في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لأن مجادلة أهل الكتاب لا تَعرِض للنبيء صلى الله عليه وسلم ولا للمؤمنين في مكة ، ولكن لما كان النبي عليه الصلاة والسلام في إبان نزول أواخِر هذه السورة على وشْك الهجرة إلى المدينة وكانت الآيات السابقة مجادلةً للمشركين غليظة عليهم من تمثيل حالهم بحال العنكبوت ، وقوله { وما يعقِلُها إلى العالمون } هَيأ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام طريقة مجادلة أهل الكتاب . فهذه الآية معترضة بين محاجّة المشركين والعود إليها في قوله تعالى { وكذلك أنزلنا إليك الكتاب } [ العنكبوت : 47 ] الآيات .
وجيء في النهي بصيغة الجمع ليعمّ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إذ قد تعرض للمسلمين مجادلات مع أهل الكتاب في غير حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو قبل قدومه المدينة .
والمجادلة : مفاعلة من الجَدل ، وهو إقامة الدليل على رأي اختلَف فيه صاحبه مع غيره ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يَخْتانون أنفسهم } في سورة النساء ( 107 ) . وبهذا يعلم أن لا علاقة لهذه الآية بحكم قتال أهل الكتاب حتى ينتقل من ذلك إلى أنها هل نسخت أم بقي حكمها لأن ذلك خروج بها عن مهيعها . والمجادلة تعرض في أوقات السلم وأوقات القتال .
و{ أهل الكتاب } : اليهود والنصارى في اصطلاح القرآن . والمقصود هنا اليهود فهم الذين كانوا كثيرين في المدينة والقرى حولَها . ويشمل النصارى إن عرضت مجادلتهم مثل ما عرض مع نصارى نجران .
و { بالتي هي أحسن } مستثنى من محذوف دل عليه المستثنى ، تقديره : لا تجادلوهم بجدال إلا بجدال بالتي هي أحسن . و { أحسن } اسم تفضيل يجوز أن يكون على بابه فيقدر المفضّل عليه مما دلت عليه القرينة ، أي بأحسن من مجادلتكم المشركين ، أو بأحسن من مجادلتهم إياكم كما تدل عليه صيغة المفاعلة . ويجوز كون اسم التفضيل مسلوب المفاضلة لقصد المبالغة في الحسن ، أي إلا بالمجادلة الحُسنى كقوله تعالى { وجادِلْهم بالتي هي أحسن } في آخر سورة النحل ( 125 ) . فالله جعل الخيار للنبيء في مجادلة المشركين بين أن يُجادلهم بالحسنى كما اقتضته آية سورة النحل ، وبين أن يجادلهم بالشدة كقوله : { يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم } [ التوبة : 73 ] ، فإن الإغلاظ شامل لجميع المعاملات ومنها المجادلات ولا يختص بخصوص الجهاد فإن الجهاد كله إغلاظ فلا يكون عطف الإغلاظ على الجهاد إلاّ إغلاظاً غير الجهاد .
ووجه الوصاية بالحسنى في مجادلة أهل الكتاب أن أهل الكتاب مؤمنون بالله غير مشركين به فهم متأهّلون لقبول الحجة غير مظنون بهم المكابرة ولأن آداب دينهم وكتابهم أكسبتهم معرفة طريق المجادلة فينبغي الاقتصار في مجادلتهم على بيان الحجة دون إغلاظ حذراً من تنفيرهم ، بخلاف المشركين فقد ظهر من تصلبهم وصَلفهم وجلافتهم ما أيأس من إقناعهم بالحجة النظرية وعيَّن أن يعاملوا بالغلظة وأن يبالغ في تهجين دينهم وتفظيع طريقتهم لأن ذلك أقرب نجوعاً لهم .
وهكذا ينبغي أن يكون الحال في ابتداء مجادلة أهل الكتاب ، وبقدر ما يسمح به رجاء الاهتداء من طريق اللين ، فإن هم قابلوا الحسنى بضدها انتقل الحكم إلى الاستثناء الذي في قوله : { إلا الذين ظلموا منهم } . و { الذين ظلموا منهم } هم الذين كابروا وأظهروا العداء للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأبوا أن يتلقوا الدعوة فهؤلاء ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين حسداً وبغضاً على أن جاء الإسلام بنسخ شريعتهم ، وجعلوا يكيدون للنبيء صلى الله عليه وسلم ونشأ منهم المنافقون وكل هذا ظلم واعتداء .
وقد كان اليهود قبل هجرة المسلمين إلى المدينة مسالمين الإسلام وكانوا يقولون : إن محمداً رسول الأميين كما قال ابن صياد لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم " أتشهد أني رسول الله ؟ فقال : أشهد أنك رسول الأميين " فلما جاء المدينة دعاهم في أول يوم قدم فيه وهو اليوم الذي أسلم فيه عبد الله بن سَلام فأخذوا من يومئذ يتنكرون للإسلام .
وعطف { وقولوا ءامنا } إلى آخر الآية تعليم لمقدمة المجادلة { بالتي هي أحسن } . وهذا مما يسمى تحرير محل النزاع وتقريب شقة الخلاف وذلك تأصيل طرق الإلزام في المناظرة وهو أن يقال قد اتفقنا على كذا وكذا فلنحتجّ على ما عدا ذلك ، فإن ما أمروا بقوله هنا مما اتفق عليه الفريقان فينبغي أن يكون هو السبيل إلى الوفاق وليس هو بداخل في حيّز المجادلة لأن المجادلة تقع في موضع الاختلاف ولأن ما أمروا بقوله هنا هو إخبار عمّا يعتقده المسلمون وإنما تكون المجادلة فيما يعتقده أهل الكتاب مما يخالف عقائد المسلمين مثل قوله : { يا أهل الكتاب لِمَ تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاّ من بَعْده } إلى قوله : { وما كان مِنَ المُشْركين } آل عمران : ( 65 67 ) . ولأجل أن مضمون هذه الآية لا يدخل في حيّز المجادلة عطفت على ما قبلها ولو كانت مما شملته المجادلة لكان ذلك مقتضياً فصلها لأنها مثل بدل الاشتمال .
ومعنى { بالذي أُنْزِلَ إلَيْنا } القرآن . والتعبير عنه بهذه الصلة للتنبيه على خطأ أهل الكتاب إذ جحدوا أن ينزل الله كتاباً على غير أنبيائهم ، ولذلك عقب بقوله : { وأنزل إليكم } . وقوله : { وأنزل إليكم } عطف صلة اسم موصول محذوف دل عليه ما قبله . والتقدير : والذي أنزل إليكم ، أي الكتاب وهو « التوراة » بقرينة قوله { إليكم } . والمعنى : إننا نؤمن بكتابكم فلا ينبغي أن تنحرفوا عنا وهذا كقوله تعالى : { قُلْ يأهل الكِتَاب هل تَنْقِمون مِنَّا إلاّ أنْ ءامنّا بالله وما أُنْزِل إليْنَا ومَا أُنْزِلَ مِن قَبْل } [ المائدة : 59 ] ، وكذلك قوله : { وإلهَنا وإلهكُم واحِد } تذكير بأن المؤمنين واليهود يؤمنون بإله واحد . فهذان أصلان يختلف فيهما كثير من أهل الأديان .
وقوله : { ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون } مراد به كلاَ الفريقين ، فريق المتكلمين وفريق المخاطبين . فيشمل المسلمين وأهلَ الكتاب فيكون المراد بوصف { مسلمون } أحد إطلاقيه وهو إسلام الوجه إلى الله ، أي عدم الإشراك به ، أي وكلانا مسلمون لله تعالى لا نشرك معه غيره . وتقديم المجرور على عامله في قوله : { لَهُ مُسْلِمُون } لإفادة الاختصاص تعريضاً بالمشركين الذين لم يفردوا الله بالإلهية .