المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

28- يا أيها المؤمنون ، إنما المشركون بسبب شركهم نجست نفوسهم ، وهم ضالون في العقيدة ، فلا تمكنوهم من دخول المسجد الحرام بعد هذا العام ( التاسع من الهجرة ) . وإن خفتم فقراً بسبب انقطاع تجارتهم عنكم ، فإن الله سوف يعوضكم عن هذا ، ويغنيكم من فضله إن شاء ، إن الله عليم بشئونكم ، حكيم في تدبيره لها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

وبعد هذا التذكير والتوجيه من الله - تعالى - لعباده المؤمنين - وجه - سبحانه - إليهم نداء أمرهم فيه بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام ، ووعدهم بالعطاء الذي يغنيهم ، فقال : { ياأيها الذين آمنوا . . . . } .

وقوله : { نَجَسٌ } بالتحريك - مصدر نجس الشئ ينجس فهو نجس إذا كان قذراً غير نظيف ، وفعله من باب " تعب " وفى لغة من باب " قتل " .

قال صاحب الكشاف : النجس : مصدر . يقال نجس نجسا وقذر قذرا ، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهى ملابسة لهم . أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة في وصفهم بها .

قيل : وجوز أن يكون لفظ " نجس " صفة مشبهة - وإليه ذهب الجوهرى ولا بد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظاً مجمع معنى ، ليصح الإِخبار به عن الجمع . أى جنس ونجس ونحوه .

وقوله : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } فيه ما فيه من التعبير البديع المصور المجسم لهم ، حتى لكأنهم بأرواحهم وماهيتهم وكيانهم : النجس يمشى على الأرض فيتحاشاه المتطهرون ، ويتحاماه الأتقياء من الناس .

وقوله : { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } تفريع على نجاستهم والمراد النهى عن الدخول إلا أنه عبر عنه بالنهى عن القرب مبالغة في إبعادهم عن المسجد الحرام .

والنهى وإن كان موجهاً إلى المشركين ، إلا أن المقصود منه نهى المؤمنين عن تمكينهم من ذلك ، والمراد بقوله : { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } العام الذي حصل فيه النداء بالبراءة من المشركين ، وبعدم طوافهم بالمجسد الحرام . . وهو العام التاسع من الهجرة .

قال ابن كثير : أمر الله عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً بنفى المشركين الذين هم نجس دينا - عن المسجد الحرام ، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية . وكان نزولها في سنة تسع .

ولهذا بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا صحبة أبى بكر رضى الله عنهما - عامئذ ، وأمره أن ينادى في المشركين : أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . فأتم الله ذلك وحكم به شرعاً وقدراً .

وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } بشارة من الله تعالى للمؤمنين بأن سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المشركين .

والعيلة : الفقر والفاقة : يقال : عال الرجل يعيل عيلة فهو عائل إذا افتقر ، ومنه قول الشاعر :

وما يدرى الفقير متى غناه . . . وما يدرى الغنى متى يقيل

وقرئ " عائلة " بمعنى المصدر كالعافية : اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أى : حالا عائلة .

قال ابن جرير - بعد أن ساق روايات في سبب نزول الآية - : عن عطية العوفى قال : لما قيل " ولا يحج بعد العام مشرك " قالوا : قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم ، قال فنزلت { ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } الآية .

والمعنى : لا تمكنوا أيها المؤمنون . المشركين من دخول المسجد الحرام بعد هذه السنة ، لأنهم نجس . . . ولا تخشوا الفقر والفاقة بسبب عدم تمكينهم ، حيث إنكم تتبادلون معهم التجارات والمبايعات . . لأن الله - تعالى - قد وعدكم أن يغنيكم من فضله بالعطايا والخيرات التي تكفيكم أمر معاشكم . .

وقد أنجز الله - تعالى - لهم وعده ، فأرسل السماء عليهم مدرارا ، وفتح لهم البلاد ، فكثرت بين أيديهم الغنائم وألوان الخيرات ، ودخل في دين الله من هم أيس حالا وأغنى مالا من هؤلاء المشركين . .

قال صاحب الكشاف : قوله : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } أى : من عطائه أو من تفضله بوجه آخر ، فأرسل عليهم السماء مدرارا ، فأغزر بها خيرهم ، وأكثر مسيرهم . وأسلم أهل تبالة وجرس فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به : فكان أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته .

والتقييد بالمشيئة في قوله : { إِن شَآءَ } ليس للتردد ، بل هو لتعليم المؤمنين رعاية الأدب مع الله - تعالى - كما في قوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } ولبيان أن هذا الاغناء بإرادته - سبحانه - وحده ، فعليهم أن يجعلوا اعتمادهم عليه ، وتضرعهم إليه لا إلى غيره ، وللتنبيه على أن عطاءه سبحانه لهم ، هو من باب التفضل ولا الوجوب ، لأنه لو كان واجبا مع قيده بالمشيئة .

ولما كانت مشيئته - سبحانه - تجرى حسب مقتضى علمه وحكمته ، فقد ختم الآية بقوله : { إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

أى : إن الله عليم بأحوالكم ومصالحكم ، وبما يكون عليه أمر حاضركم ومستقبلكم حكيم فيما شرعه لكم . فاستجيبوا له لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم .

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي استنبطها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

1- أن المراد بالمشركين في الآية ما يناول عبدة الأوثان وغيرهم من أهل الكتاب . كما هو مقتضى ظاهر اللفظ ، وكما يدل عليه قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ . . } أى : لا يغفر أن يشرك به بأى لون من ألوان الشرك .

ويرى كثير من الفقهاء أن المراد بالمشركين هنا عبدة الأوثان فحسب ، لأن الحديث خاص بهم من أول السورة إلى هنا .

2- يرى جمهور الفقهاء أن نجاسة المشركين مرجعها إلى خبث بواطنهم لعبادتهم سوى الله - تعالى - أما أبدانهم فطاهرة .

وقد بسط صاحب المنار القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه : " قال بعضهم بنجاسة أعيان المشركين ، ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل .

حكى هذا القول عن ابن عباس والحسن البصرى . . وجمهور الظاهرية . .

ويرى جمهور السلف والخلف وأصحاب المذاهب الأربعة أن أعيانهم طاهرة . لأنه من المعلوم أن المسلمين كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم . ومع هذا فالنبى - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بغسل شئ مما أصابته أبدانهم .

. بل الثابت أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشركة وأكل من طعام اليهود . . وأطعم هو وأصحابه وفداً من الكفار ولم يأمر بغسل الأوانى التي أكلوا وشربوا وروى الإِمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله ، فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك علينا . .

3- اختلف الفقهاء في المراد بالمسجد الحرام في قوله - تعالى - { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا . . . } .

فقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء : المراد به الحرم كله فيشمل المسجد الحرام ومكة ، لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله . وعليه فالكافر يمنع من دخول الحرم كله . .

ويرى الشافعى أن المراد المسجد الحرام بخصوصه أخذا بظاهر اللفظ .

قال القرطبى : وقال الشافعى : الآية في سائر المشركين ، خاصة في المسجد الحرام ، ولا يمنعون من دخول غيره ، فأباح دخول اليهود والنصرانى في سائر المساجد .

ويرى الإِمام مالك أن المراد المسجد الحرام بالنص وبقية المساجد تقاس عليه ، لأن العلة - وهى النجاسة - موجودة في المشركين ، والحرمة موجودة في كل مسجد .

وعليه فلا يجوز تمكينهم لا من المسجد الحرام ولا من غيره من المساجد .

ويرى الأحناف أن المراد بالمسجد الحرم كله ، إلا أن النهى هنا ليس منصباً على دخوله وإنما هو منصب على المنع من الحج والعمرة . ومن الحج إليه أى : لا تمكنوا - أيها المؤمنون - المشركين من الطواف بالمسجد الحرام بعد عامهم هذا .

قال الآلوسى : ويؤيده قوله - تعالى - { لْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } ، فإن تقييد النهى يدل على اختصاص المنهى عنه بوقت من اوقات العام . أى : لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة . . ويدل عليه نداء على - كرم الله وجهه - يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، وكذا قوله - سبحانه - { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أى فقراً بسبب منعهم ، لما أنهم كانوا يأتون في الموسم بالمتاجر ، فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى .

ثم قال : والحاصل أن الإِمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهى عليه ، ولا يمنعون عنده من دخول المسجد الحرام ومن دخول سائر المساجد .

4- قال القرطبى : في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز ، وليس ذلك بمناف للتوكل ، وإن كان الرزق مقدراً ، ولكنه علقه بالأسباب لتظهر القلوب التي تتعلق بالأسباب ، من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب وقد تقدم أن السبب لا ينافى التوكل ، ففى الحديث الذي أخرجه البخارى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :

" لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا " - أى : تغدو صباحا وهى جياع ، وتعود عشية وهى ممتلئة البطون - .

هذا ، وبتدبير آيات السورة الكريمة - من أولها إلى هنا - نراها قد وضحت العلاقات النهائية بين المسلمين وعبدة الأوثان ، وفصلت كثيراً من الأحكام التي تخص الفريقين ، ومن ذلك أنها قررت :

1- براءة الله ورسوله من عهود المشركين الذين مردوا على نقض المواثيق .

2- إعطاؤهم مهلة مقدارها أربعة أشهر يتدبرون خلالها أمرهم ، دون أن يتعرض المسلمون لهم بسوء .

3- إعلان الناس جميعاً يوم الحج الأكبر بهذه البراءة . .

4- أمر المؤمنين بإتمام مدة العهد لمن حافظ من المشركين على عهده .

5- بيان ما يجب على المؤمنين فعله إذا ما انقضت أشهر الأمان التي أعطيت للمشركين .

6- إرشاد المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم تأمين المشرك المستجير بهم حتى يسمع كلام الله ، ويطلع على حقيقة الإِسلام . . ثم توصيله إلى موضع أمنه إن لم يسلم .

7- بيان الأسباب التي تدعو إلى قتال المشركين ، وإلى وجوب البراءة منهم .

8- بيان بعض الحكم والأسرار التي من أجلها شرع الجهاد في الإِسلام .

9- بيان أن المشركين ليسوا أهلاً لعمارة مساجد الله . . وأن الذين هم أهل لذلك : المؤمنون الصادقون .

10- توجيه المؤمنين إلى أن إيمانهم يحتم عليهم أن يؤثروا محبة الله ورسوله على أى شئ آخر ، من الآباء والأبناء والإِخوان .

11- تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم حيث نصرهم في مواطن كثيرة ونصرهم يوم غزوة حنين ، بعد أن هزموا في أول المعركة دون أن تنفعهم كثرتم التي أعجبوا بها .

12- نهيهم عن تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام ، وإزالة الوساوس التي قد تخطر ببالهم بسبب هذا النهى ، بأن وعدهم - سبحانه - بأنه سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المكاسب التي تأتيهم عن طريق تبادل المنافع مع المشركين في موسم الحج .

هذه أهم الموضوعات التي تعرضت لها سورة التوبة في ثمان وعشرين آية من أولها إلى هنا . وهى موضوعات وضحت . كما أسلفنا . الأحكام النهائية في علاقات المسلمين بالمشركين عبدة الأوثان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

عندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع ، ويلمس وجدان المسلمين بالذكرى القريبة من التاريخ ، ينهي القول في شأن المشركين . ويلقي الكلمة الباقية فيهم إلى يوم الدين :

( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ؛ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء . إن الله عليم حكيم ) . .

إنما المشركون نجس . يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم . فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس ، يستقذره الحس ، ويتطهر منه المتطهرون ! وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة ، فأجسامهم ليست نجسة بذاتها . إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم .

( نجس . فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) . .

وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام ، حتى لينصب النهي على مجرد القرب منه ، ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور !

ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة ؛ والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة ؛ ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها الحياة . . . أنها كلها ستتعرض للضياع بمنع المشركين من الحج ؛ وبإعلان الجهاد العام على المشركين كافة . . .

نعم ! ولكنها العقيدة . والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة !

وبعد ذلك ، فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة :

( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) . .

وحين يشاء الله يستبدل أسبابا بأسباب ؛ وحين يشاء يغلق بابا ويفتح الأبواب . .

( إن الله عليم حكيم ) . .

يدبر الأمر كله عن علم وعن حكمة ، وعن تقدير وحساب . .

لقد كان المنهج القرآني يعمل ، في المجتمع المسلم الذي نشأ من الفتح ؛ والذي لم تكن مستوياته الإيمانية قد تناسقت بعد . .

وكما أننا نلمح من خلال السياق في هذا المقطع ما كان يعتور هذا المجتمع من ثغرات . فكذلك نلمح عمل المنهج القرآني في سد هذه الثغرات . ونلمح الجهد الطويل المبذول لتربية هذه الأمة بهذا المنهج القرآني الفريد .

إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبلغ إليها ، هي قمة التجرد لله ، والخلوص لدينه . وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة . وكان هذا يتم من خلال ما يبثه المنهج القرآني من وعي لحقيقة الفوارق والفواصل بين منهج الله الذي يجعل الناس كلهم عبيدا لله وحده ، ومنهج الجاهلية الذي يجعل الناس أربابا بعضهم لبعض . . وهما منهجان لا يلتقيان . . ولا يتعايشان . .

وبدون هذا الفقه الضروري لطبيعة هذا الدين وحقيقته ، وطبيعة الجاهلية وحقيقتها ؛ لا يملك إنسان أن يقوم الأحكام الإسلامية ، التي تقرر قواعد المعاملات والعلاقات بين المعسكر المسلم وسائر المعسكرات .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين ، الذين هم نَجَس دينًا ، عن المسجد

الحرام ، وألا يقربوه بعد نزول هذه الآية . وكان نزولها في سنة تسع ؛ ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر ، رضي الله عنهما ، عامئذ ، وأمره أن ينادي في المشركين : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف{[13357]} بالبيت عريان . فأتم الله ذلك ، وحكم به شرعا وقدرا .

وقال عبد الرازق : أخبرنا ابن جُرَيْج ، أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } إلا أن يكون عبدًا ، أو أحدا من أهل الذمة{[13358]}

وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال الإمام أحمد : حدثنا حُسَين{[13359]} حدثنا شريك ، عن الأشعث - يعني : ابن سَوَّار - عن الحسن ، عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك ، إلا أهل العهد وخدمهم{[13360]} {[13361]}

تفرد به أحمد مرفوعا ، والموقوف أصح إسنادا .

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : كتب عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه : أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، وأتبع نهيه قول الله : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }

وقال عطاء : الحرم كله مسجد ، لقوله تعالى : { فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } .

ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما دلت [ على طهارة المؤمن ، ولما ]{[13362]} ورد في [ الحديث ]{[13363]} الصحيح : " المؤمن لا ينجس " {[13364]} وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم .

وقال أشعث ، عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ . رواه ابن جرير .

وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } قال ابن إسحاق : وذلك أن الناس قالوا : لتنقطعن عنا الأسواق ، ولتهلكن{[13365]} التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فنزلت{[13366]} { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } من وجه غير ذلك - { إِنْ شَاءَ } إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : إن هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق ، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك ، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب ، من الجزية .

وهكذا رُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَير ، وقتادة والضحاك ، وغيرهم .

{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ } أي : بما يصلحكم ، { حَكِيم } أي : فيما يأمر به وينهى عنه ؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله ، العادل في خلقه وأمره ، تبارك وتعالى ؛ ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة . فقال : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }


[13357]:- في ت ، أ : "يطوفن".
[13358]:- تفسير عبد الرزاق (1/245).
[13359]:- في أ : "حسن".
[13360]:- في ت ، أ : "وخدمكم".
[13361]:- المسند (3/392) وقال الهيثمي في المجمع (4/10) : "فيه أشعث بن سوار وفيه ضعف وقد وثق".
[13362]:- زيادة من ك ، أ.
[13363]:- زيادة من ك ، أ.
[13364]:- صحيح البخاري برقم (283) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، ولفظه : "إن المسلم لا ينجس".
[13365]:- في ت : "وليمكن".
[13366]:- في ك ، أ : "فنزل".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

{ يا أيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }

استئناف ابتدائي للرجوع إلى غرض إقصاء المشركين عن المسجد الحرام المفاد بقوله : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } [ التوبة : 17 ] الآية ، جيء به لتأكيد الأمر بإبعادهم عن المسجد الحرام مع تعليله بعلّة أخرى تقتضي إبعادهم عنه : وهي أنّهم نجس ، فقد علّل فيما مضى بأنّهم شاهدون على أنفسهم بالكُفر ، فليسوا أهلاً لتعمير المسجد المبني للتوحيد ، وعلّل هنا بأنّهم نجس فلا يعمروا المسجد لطهارته .

و { نجس } صفة مشبهة ، اسم للشيء الذي النجاسة صفة ملازمة له ، وقد أنيط وصف النجاسة بهم بصفة الإشراك ، فعلمنا أنّها نجاسة معنوية نفسانية وليست نجاسة ذاتية .

والنجاسة المعنوية : هي اعتبار صاحب وصف من الأوصاف محقّراً متجنَّباً من الناس فلا يكون أهلاً لفضل ما دام متلبّساً بالصفة التي جعلته كذلك ، فالمشرك نجَس لأجل عقيدة إشراكه ، وقد يكون جسده نظيفاً مطيّباً لا يستقذر ، وقد يكون مع ذلك مستقذرَ الجسد ملطخاً بالنجاسات لأنّ دينه لا يطلب منه التطهّر ، ولكن تنظّفهم يختلف باختلاف عوائدهم وبيئتهم . والمقصود من هذا الوصف لهم في الإسلام تحقيرهم وتبعيدهم عن مجامع الخير ، ولا شكّ أنّ خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات ، ولذلك أوجب الغسل على المشرك إذا أسلم انخلاعاً عن تلك القذارة المعنوية بالطهارة الحسّيّة لإزالة خباثة نفسه ، وإنّ طهارة الحدث لقريب من هذا .

وقد فرّع على نجاستهم بالشرك المنع من أن يقربوا المسجد الحرام ، أي المنع من حضور موسم الحجّ بعد عامهم هذا .

والإشارة إلى العام الذي نزلت فيه الآية وهو عام تسعة من الهجرة ، فقد حضر المشركون موسم الحجّ فيه وأعلن لهم فيه أنّهم لا يعودون إلى الحجّ بعد ذلك العام ، وإنّما أمهلوا إلى بقية العام لأنّهم قد حصَلوا في الموسم ، والرجوع إلى آفاقهم متفاوت « فأريد من العام موسم الحجّ ، وإلاّ فإنّ نهاية العام بانسلاخ ذي الحجّة وهم قد أمهلوا إلى نهاية المحرم بقوله تعالى : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } [ التوبة : 2 ] .

وإضافة ( العام ) إلى ضمير ( هم ) لمزيد اختصاصهم بحكم هائل في ذلك العام كقول أبي الطيب :

فإن كان أعجبكم عامكم *** فعودوا إلى مصر في القابل

وصيغة الحصر في قوله : { إنما المشركون نجس } لإفادة نفي التردّد في اعتبارهم نجساً ، فهو للمبالغة في اتّصافهم بالنجاسة حتّى كأنّهم لا وصف لهم إلاّ النجسية .

ووصف ( العام ) باسم الإشارة لزيادة تمييزه وبيانه .

وقوله : { فلا يقربوا المسجد } ظاهره نهي للمشركين عن القرب من المسجد الحرام . ومواجهةُ المؤمنين بذلك تقتضي نهي المسلمين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام . جعل النهي عن صورة نهي المشركين عن ذلك مبالغة في نهي المؤمنين حين جُعلوا مكلّفين بانكفاف المشركين عن الاقتراب من المسجد الحرام من باب قول العرب : « لا أرينّك ههنا » فليس النهي للمشركين على ظاهره .

والمقصود من النهي عن اقترابهم من المسجد الحرام النهي عن حضورهم الحج لأنّ مناسك الحجّ كلّها تتقدّمها زيارة المسجد الحرام وتعقبها كذلك ، ولذلك لمّا نزلت « براءة » أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينادَى في الموسم أن لا يحجّ بعد العام مشرك وقرينة ذلك توقيت ابتداء النهي بما بعد عامهم الحاضر . فدلّ على أنّ النهي منظور فيه إلى عمل يكمل مع اقتراب اكتمال العام وذلك هو الحجّ . ولولا إرادة ذلك لما كان في توقيت النهي عن اقتراب المسجد بانتهاء العام حكمة ولكان النهي على الفور .

{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

عطف على جملة النهي . والمقصود من هذه الجملة : وعد المؤمنين بأن يغنيهم الله عن المنافع التي تأتيهم من المشركين حين كانوا يفدون إلى الحجّ فينفقون ويهدُون الهدايا فتعود منهم منافع على أهل مكة وما حولها ، وقد أصبح أهلها مسلمين فلا جرم أن ما يرد إليها من رزق يعود على المؤمنين .

والعَيْلة : الاحتياج والفقر أي إنْ خطر في نفوسكم خوف الفقر من انقطاع الإمداد عنكم بمنع قبائِل كثيرة من الحجّ فإنّ الله سيغنيكم عن ذلك . وقد أغناهم الله بأن هَدى للإسلام أهل تَبَالَة وجُرَش من بلاد اليمن ، فأسلموا عقب ذلك ، وكانت بلادهم بلاد خصب وزرع فحملوا إلى مكّة الطعام والمِيرة ، وأسلم أيضاً أهل جُدَّة وبلدهم مرفأ ترد إليه الأقوات من مصر وغيرها ، فحملوا الطعام إلى مكة ، وأسلم أهل صنعاء من اليمن ، وبلدهم تأتيه السفن من أقاليم كثيرة من الهند وغيرها .

وقوله : { إن شاء } يفتح لهم باب الرجاء مع التضرّع إلى الله في تحقيق وعده لأنّه يفعل ما يشاء .

وقوله : { إن الله عليم حكيم } تعليل لقوله : { وإن خفتم عيلة } أي أنّ الله يغنيكم لأنّه يعلم ما لكم من المنافع من وفادة القبائِل ، فلمّا منعكم من تمكينهم من الحجّ لم يكن تاركاً منفعتكم فقَدر غناكم عنهم بوسائل أخرى عَلِمَها وأحكم تدبيرها .