ثم مدح - سبحانه - المؤمنين الصادقين الذين لم تمنعهم جراحهم وآلامهم عن الاستجابة لأمر رسولهم - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى - : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - مدح المؤمنين على غزوتين تعرف إحداهما : بغزوة حمراء الأسد ، والثانية : بغزوة بدر الصغرى . وكلاهما متصلة بغزوة أحد .
أما غزوة حمراء الأسد فهى المرادة من هذه الآية ، فإن الأصح فى سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه بعد أن انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ، ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فَلِم تركناهم ؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم ، فهموا بالرجوع .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة . فندب أصحابه إلى الخروج فى طلب أبى سفيان وقال : لا اريد أن يخرج الآن معى إلا من كان معى فى القتال - فى أحد - .
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد .
وهى مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة .
فألقى الله الرعب فى قلوب المشركين فانهزموا .
وروى أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى . وكان كل ذلك لإثخان الجراح فيهم ، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة .
وقوله { استجابوا } بمعنى أجابوا . وقيل : استجابوا ، أصلها طلبوا الإجابة لأن الأصل فى الاستفعال طلب الفعل . والقرح : الجراح الشديدة .
والمعنى : أن الله - تعالى - لا يضيع أجر هؤلاء المؤمنين الصادقين ، الذين أجابوا داعى الله وأطاعوا رسوله ، بأن خرجوا للجهاد فى سبيل عقيدتهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة مع ما بهم من جراح شديدة ، وآلام مبرحة .
ثم بين - سبحانه - جزاءهم فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } أى للذين أحسنوا منهم بأن أدوا جميع المأمورات ، واتقوا الله فى كل أحوالهم بأن صانوا أنفسهم عن جميع المنهيات ، لهؤلاء أجر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - .
وقوله { الذين استجابوا } فى موضع رفع على الابتداء وخبره قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } ويجوز أن يكون فى موضع جر على أنه صفة للمؤمنين فى قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } .
قال صاحب الكشاف : و " من " فى قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ } للتبيين مثلها فى قوله - تعالى - { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم .
وبعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن " المؤمنين " الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم ، فيعين من هم ؛ ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم :
( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا . وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ، واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ) . .
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول [ ص ] إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة . وهم مثخنون بالجراح . وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة . وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة ، ومرارة الهزيمة ، وشدة الكرب . وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا ، فقل عددهم ، فوق ما هم مثخنون بالجراح !
ولكن رسول الله [ ص ] دعاهم . ودعاهم وحدهم . ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال ! - فاستجابوا . . استجابوا لدعوة الرسول [ ص ] وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول ( من بعد ما أصابهم القرح ) ، ونزل بهم الضر ، وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله [ ص ] ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى ، وتومى ء إلى حقائق كبرى ، نشير إلى شيء منها :
فلعل رسول الله [ ص ] شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم ، هو شعور الهزيمة ، وآلام البرح والقرح ؛ فاستنهضهم لمتابعة قريش ، وتعقبها ، كي يقر في أخلادهم إنها تجربة وابتلاء ، وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء ، وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء ، إنما هي واحدة وتمضي ، ولهم الكرة عليهم ، متى نفضوا عنهم الضعف والفشل ، واستجابوا لدعوة الله والرسول .
ولعل رسول الله [ ص ] شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش ، وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته . فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ؛ يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . .
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة .
ولعل رسول الله [ ص ] شاء أن يشعر المسلمين ، وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم ، بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض . . حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها ، وليس لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها ، فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها ، ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها ، ولا يقدمونها فداها . .
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنين - بقيام هذا الأمر الجديد ، وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة .
وقوله : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } هذا كان يوم " حمراء الأسد " ، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرُّوا راجعين إلى بلادهم ، فلما استمروا{[6182]} في سيرهم تَنَدّمُوا لم لا تَمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة . فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليُرْعِبَهم ويريهم أن بهم قُوّةً وجلدا ، ولم يأذنْ لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد ، سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه - لما سنذكره - فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله [ عز وجل ]{[6183]} ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، بئسما{[6184]} صنعتم ، ارجعوا . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حَمْراء الأسد - أو : بئر أبي عيينة{[6185]} - الشك من سفيان - فقال المشركون : نرجع من قابل . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تعد{[6186]} غزوة ، فأنزل{[6187]} الله عز وجل : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ }
ورواه ابن مَرْدويه من حديث محمد بن منصور ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس فذكره{[6188]} .
وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لستّ عشرةَ ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو ، وأذن مؤذنه ألا يخرج{[6189]} معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرام فقال : يا رسول الله ، إن أبي كان خَلَّفني على أخوات لي سَبْع وقال : يا بَنَيّ ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النّسوةَ لا رجلَ فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ، فتخلّف على أخواتك ، فتخلفت عليهن ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج معه . وإنما خرج رسول الله مُرْهبا للعدو ، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوةً ، وأن الذي أصابهم لم يُوهنْهم عن عدوهم .
قال ابن إسحاق : حدثني{[6190]} عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان ؛ أن رجلا من أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل ، كان شَهد أحدا قال : شهدتُ أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي{[6191]} فرجعنا جريحين ، فلما أذّن مُؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدوّ ، قلتُ لأخي - أو قال{[6192]} لي - : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابَّة نركبها ، وما منّا إلا جريح ثَقيل ، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جراحا{[6193]} منه ، فكان إذا غُلب حملته عُقْبة ومشى عُقْبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون{[6194]} .
وقال البخاري : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ] {[6195]} } قالت{[6196]} لعروة : يا ابن أختي ، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر ، رضي الله عنهما ، لمّا أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد ، وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا فقال : " مَنْ يَرْجِعُ فِي إثْرِهِمْ ؟ " فانتدبَ منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير ، رضي الله عنهما .
هكذا رواه البخاري منفردا به ، بهذا السياق . وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصَم ، عن العباس الدوري ، عن أبي النضر ، عن أبى سعيد المؤدب ، عن هشام بن عروة ، به ، ثم قال : صحيح ولم يخرجاه . كذا قال{[6197]} .
ورواه أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن البَهِيّ ، عن عروة قال : قالت لي عائشة : يا بُني ، إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[6198]} .
وروى ابن ماجة ، عن هشام بن عمّار ، وهُدْبَة بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان ، به{[6199]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه . حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه ، أنبأنا سَمويه ، أنبأنا عبد الله بن الزبير ، أنبأنا سفيان ، أنبأنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنْ كَانَ أبَواك لَمن{[6200]} الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ : أبو بكر والزبير ، رضي الله عنهما " {[6201]} .
ورفْعُ هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده ، لمخالفته رواية {[6202]} الثقات من وقْفه على عائشة كما قدمناه ، ومن جهة معناه ، فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة ، وإنما قالت عائشة لعروة بن الزبير ذلك لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهم .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد ، حدثني أبي ، [ حدثني ] {[6203]} عَمي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الله قَذَفَ في قَلْب أبي سفيان الرُّعْب يوم أحد بعد ما{[6204]} كان منه ما كان ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفًا ، وَقَدْ رَجَعَ ، وَقَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبَ " . وكانت وقعةُ أحد في شوال ، وكان التجار يَقْدَمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مَرة ، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد{[6205]} وكان أصاب المؤمنين القرح ، واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، واشتد عليهم الذي أصابهم . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَدَب الناس لينطلقوا معه ، ويتبعوا ما كانوا مُتَّبعين ، وقال : " إنَّمَا يَرْتَحِلُونَ الآنَ فَيَأْتُونَ الْحَجَّ ولا يَقْدرُونَ عَلَى مِثْلِهَا حَتَّى عَامٍ مُقْبِلٍ " . فجاء الشيطان فخوف أولياءه فقال : إن الناس قد جمعوا لكم فأبى عليه الناس أن يتبعوه ، فقال : " إنَّي ذَاهِبٌ وإنْ لمْ يَتْبَعْنِي أحَدٌ " . لأحضض الناس ، فانتدب معه أبو بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والزبير ، وسعد ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان ، فطلبوا حتى بلغوا الصفراء ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[6206]} { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ [ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ] }{[6207]} {[6208]} .
ثم قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال .
قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مَكْتوم فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . وقد مَر به - كما حدثني عبد الله بن أبي بكر - معبد بن أبي مَعْبد الخزاعي ، وكانت خُزاعة - مسلمهم ومشركهم - عيبة نُصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتِهامة ، صَفْقَتُهم معه ، لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد ، أما والله لقد عَزّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوَددْنا أن الله عافاك فيهم . ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا : أصبنا حَد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم . . لنُكرّنَّ على بقيتهم فَلَنَفْرُغَنَّ منهم . فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جَمْع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحَنَق عليكم شيء لم أر مثله قط . قال : ويلك . ما تقول ؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل {[6209]} حتى ترى نواصي الخيل - قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك . ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر ، قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
كادَتْ تُهدُّ منَ الأصوات رَاحلتي*** إذْ سَالَت الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيل
تَرْدى بأسْدٍ كرام لا تَنَابلة *** عنْد اللّقاء ولا ميل مَعَازيل{[6210]}
فَظَلْتُ عَدْوا أظُنُّ الأرض مائلةً*** لَمَّا سَمَوا برئيس غير مَخْذول
فقلتُ : ويل ابن حَرْب من لقائكُمُ *** إذا تَغَطْمَطَت البطحاء بالجيل{[6211]}
إني نذير لأهل البَسْل ضَاحيَةً *** لكل ذي إرْبَة منهم ومعقول
من جَيْش أحمدَ لا وَخْشٍ تَنَابِلة *** وليس يُوصف ما أنذرت بالقيل
قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه .
ومر به ركب من بني عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريدُ المدينة . قال : ولم ؟ قالوا :
بعكاظ إذ وَافَيْتُمونا{[6212]} قالوا : نعم . قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا{[6213]} المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، فمر الركب{[6214]} برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل{[6215]} .
وذكر ابن هشام عن أبي عُبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه رجوعهم : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوِّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ لَوْ صُبِّحُوا بَها لَكَانُوا كَأَمْسِ الذَّاهِبِ " {[6216]} .
وقال الحسن البصري [ في قوله ]{[6217]} { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } إن أبا سفيِان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ رَجَعَ وَقَدْ قَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ [ الرُّعْبَ ]{[6218]} فمن يَنْتَدبُ فِي طَلَبِهِ ؟ " فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعُمَر ، وعثمان ، وعلي ، وناس من أصحاب النبي{[6219]} صلى الله عليه وسلم ، فاتبعوهم ، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ، يطلبه فلقي عيرا من التجار فقال : ردُّوا محمدا ولكم من الجُعْل كذا وكذا ، وأخْبروهم أني قد جمعت لهم جموعا ، وأنني راجع إليهم . فجاء التجار فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فأنزل الله هذه الآية .
وهكذا قال عِكْرِمة ، وقتادة وغير واحد : إن هذا السياق نزل في شأن [ غزوة ]{[6220]} حَمْراء الأسد " ، وقيل : نزلت في بَدْر الموعد ، والصحيح الأول .
{ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } صفة للمؤمنين ، أو نصب على المدح أو مبتدأ خبره . { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } بجملته ومن البيان ، والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل لا التقييد ، لأن المستجيبين كلهم محسنون متقون . روي ( أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه للخروج في طلبه وقال لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس ، فخرج عليه الصلاة والسلام مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي ثمانية أميال من المدينة- وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر ، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا ) فنزلت .
جملة { الذين استجابوا لله والرسول } صفة للمؤمنين أو مبتدأ خبره { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } وهذه الاستجابة تشير إلى ما وقع إثر أُحُد من الأرجاف بأنّ المشركين ، بعد أن بلغوا الرّوحاء ، خطر لهم أنْ لو لحقوا المسلمين فاستأصلوهم . وقد مرّ ذكر هذا وما وقع لمعبد بن أبي معبد الخزاعي عند قوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم } [ آل عمران : 149 ] . وقد تقدّم القول في القرح عند قوله : { إن يمسسكم قرح } [ آل عمران : 140 ] . والظاهر أنَّه هنا للقرح المجازي ، ولذلك لم يجمع فيقال القروح .