45- وفرضنا على اليهود في التوراة شرعة القصاص ، لنحفظ بها حياة الناس فحكمنا بأن تؤخذ النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح يقتص فيها إذا أمكن . فمن عفا وتصدق بحقه في القصاص على الجاني ، كان هذا التصدق كفارة له ، يمحو الله بها قدراً من ذنوبه . ومن لم يحكم بما أنزل الله من القصاص وغيره ، فأولئك هم الظالمون .
ثم بين - سبحانه - بعض ما اشتملت عليه التوراة من أحكام فقال { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .
فالآية الكريمة معطوفة على ما سبقها وهو قوله - تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة } .
وقوله : ( كتبنا ) بمعنى فرضنا وقررنا . والمراد بالنفس : الذات .
أي : أنزلنا التوراة على موسى لتكون هداية ونوراً لبني إسرائيل ، وفرضنا عليهم ( أن النفس بالنفس ) أي : مقتولة أو مأخوذة بها إذا قتلتها بغير حق . وأن { والعين } مفقوءة { العين } وأن { والأنف } مجدوع { بالأنف } وأن { والأذن } مقطوعة { بالأذن } وأن { والسن } مقلوعة { بالسن } وأن { والجروح قِصَاصٌ } أي : ذات قصاص ، بأن يقتص فيها إذا أمكن ذلك ، وإلا فما لا يمكن القصاص فيه - ككسر عظم وجرح لحم لا يمكن الوقوف على نهايته - ففهي حكومة عدل .
وعبر - سبحانه - عما فرض عليهم من عقوبات في التوراة بقوله : ( كتبنا ) للإشارة إلى أن هذه العقوبات وتلك الأحكام لا يمكن جحدها أو محوها ، لأنها مكتوبة والكتابة تزيد الكلام توثيقاً وقوة .
قال القرطبي ما ملخصه : قوله - تعالى - { والعين بالعين والأنف بالأنف } إلخ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف .
وقرأ ابن كثير وانب عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح ؛ فإنه بالرفع على القطع عما قبله والاستئناف به - أي أن الجروح مبتدأ وقصاص خبره .
وقرأ الكسائي وأبو عبيد : { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح } بالرفع فيها كلها .
قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير ، عن عقيل عن الزهري ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .
والرفع من ثلاث جهات ، بالابتداء والخبر . والوجه الثاني : بالعطف على المعنى على موضع ( أن النفس ) لأن المعنى قلنا لهم : النفس بالنفس والوجه الثالث - قاله الزجاج - يكون عطفا على المضمر في النفس . لأن الضمير في النفس في موضع رفع ، لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي .
وقوله : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } ترغيب في العفو والصفح .
والضمير في ( به ) يعود إلى القصاص . والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الحث عليه فإنه أدعى إلى صفاء النفوس ، وإلى فتح باب التسامح بين الناس .
وقوله : ( فهو ) يعود إلى التصدق المدلول عليه بالفعل ( تصدق ) والضمير في قوله ( له ) يعود إلى العافي المتصدق وهو المجني عليه أو من يقوم مقامه .
والمعنى : { فَمَن تَصَدَّقَ } بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني فإن هذا التصدق يكون كفارة لذنوب هذا المتصدق ، حيث قدم العفو مع تمكنه من القصاص .
وقيل إن الضمير في ( له ) يعود على الجاني فيكون المعنى : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني ، فإن هذا التصدق يكون كفارة له . أي لذنوب الجاني ، بأن لا يؤاخذه الله بعد ذلك العفو . وأما المتصدق فأجره على الله .
وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى العافي المتصدق وهو المجني عليه أو ولى دمه فقال : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب : قول من قال : عني به : فمن تصدق به فهو كفارة له أي المجروح ، ولأنهلأن تكون الهاء في قوله ( له ) عائدة على ( من ) أولى من أن تكون عائدة على ما لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح ، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات .
وقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } تذييل قصد به التحذير من مخالفة حكم الله . أي : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ، حيث تركوا الحكم العدل واتجهوا إلى الحكم الجائر الظالم .
قال الرازي : وفيه سؤال وهو أنه - تعالى - . قال : أولا : { فأولئك هُمُ الكافرون } وثانياً { هُمُ الظالمون } والكفر أعظم من الظلم ، فلماذا ذكر أعظم التهديدات أولا وأي فائدة في ذكر الأخف بعده ؟
وجوابه : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس . ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق - سبحانه - وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه .
هذا ، ومما أخذه العلماء من هذه الآية ما يأتي :
1 - أن الآية الكريمة - ككثيرة غيرها - تنعى على بني إسرائيل إهمالهم لأحكام الله - تعالى - وتهافتهم على ما يتفق مع أهوائهم .
قال ابن كثير : هذه الآية وبخت به اليهود أيضاً وقرعت عليه ، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس . وقد خالفوا حكم ذلك عمداً وعناداً فأقادوا النضرى من القرظى ، ولم يقيدوا القرظي من النضرى وعدولا إلى الدية ، كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن ، وعدولا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإِشهار . ولهذا قال هناك { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعناداً وعمداً . وقال هنا في تتمة الآية { فأولئك هُمُ الظالمون } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخانوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض .
ثم قال : واستدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا بهذه الآية . وذلك إذا حكى مقررا ولم ينسخ . والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة . وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة .
2 - استدل جمهور الفقهاء بعموم هذه الآية على أن الرجل يقتل بالمرأة . ويؤيد ذلك ما رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم : أن الرجل يقتل بالمرأة . . وفي رواية للإِمام أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل تجب ديتها .
قال الآلوسي : واستدل بعموم { أَنَّ النفس بالنفس } من قال : يقتل المسلم بالكافر ، والحر بالعبد ، والرجل بالمرأة ومن خالف استدل بقوله - تعالى :
{ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وبقوله صلى الله عليه وسلم " لا يقتل مؤمن بكافر " .
وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه . والمراد بما روى في الحديث الكافر الحربي وق دروى أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمى .
3 - استدل العلماء بجريان القصاص في الأطراف لقوله - تعالى - { والعين بالعين } { والأنف بالأنف } إلخ . إلا أنهم قالوا بوجوب استيفاء ما يماثل فعل الجاني بدون تعد أو ظلم فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها ، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى .
وقالوا : إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمداً . فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية : إن أصاب العينين معاً خطأ ففيهما الدية الكاملة .
ويرى بعضهم أن في عين الدية كاملة لأن منفعته بها كمنفعة ذي عينين أو قريبة منها .
وقد توسع الإِمام القرطبي في بسط هذه المسائل فارجع إليه إن شئت .
4 - أخذ العلماء من هذه الآية أن الله - تعالى - رغب في العفو ، وحض عليه ، وأجزل المثوبة لمن يقوم به فقد قال - تعالى - { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } .
أي : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص فتصدقه كفارة لذنوبه .
وقد وردت في الحض على العفو نصوص كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } وقوله - تعالى - { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } وروى الإِمام أحمد عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به " .
وروى ابن جرير عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار ، فاندقت ثنيته . فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألح عليه الرجل قال معاوية : شأنك وصاحبك قال : وأبوالدرداء عند معاوية . فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده ، فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة " فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي - فخلى سبيل القرشي . فقال معاوية : " مروا له بمال " .
ومن هذه الآية وغيرها نرى أن الإِسلام قد جمع فيما شرع من عقوبات بين العدل والرحمة فقد شرع القصاص زجراً للمعتدى . وإشعاراً له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده ، جبرا لخاطر المعتدى عليه ، وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه .
ومع هذا التمكين التام للمجني عليه من الجاني فقد رغب الإِسلام المجني عليه في العفو عن الجاني حتى تشيع المحبة والمودة بين أفراد الأمة ، ووعده على ذلك بتكفير خطاياه ، وارتفاع درجاته عند الله - تعالى - .
وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله ، يعود السياق ، لعرض نماذج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ليحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا - بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء :
( وكتبنا عليهم فيها : أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ) . .
وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام ، وأصبحت جزءا من شريعة المسلمين ، التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان . وإن كانت لا تطبق إلا في دار الإسلام ، لاعتبارات عملية بحتة ؛ حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام . وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة تنفيذها وتطبيقها ، بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة ، للأزمان كافة ، كما أرادها الله .
وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى :
( فمن تصدق به فهو كفارة له ) . .
ولم يكن ذلك في شريعة التوارة . إذ كان القصاص حتما ؛ لا تنازل فيه ، ولا تصدق به ، ومن ثم فلا كفارة . .
ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال .
أول ما تقرره شريعة الله في القصاص ، هو مبدأ المساواة . . المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة . . ولم تكن شريعة أخرى - غير شريعة الله - تعترف بالمساواة بين النفوس ، فتقتص للنفس بالنفس ، وتقتص للجوارح بمثلها ، على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس . .
النفس بالنفس . والعين بالعين . والأنف بالأنف . والأذن بالأذن . والسن بالسن . والجروح قصاص . . لا تمييز . ولا عنصرية . ولا طبقية . ولا حاكم . ولا محكوم . . كلهم سواء أمام شريعة الله . فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله .
إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد " الإنسان " الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة . . أولا في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد . وثانيا في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة .
وهو أول إعلان . . وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية ، وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي .
ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم - التوراة - عنه ؛ لا فيما بينهم وبين الناس فحسب ، حيث كانوا يقولون : " ليس علينا في الآميين سبيل بل فيما بينهم هم أنفسهم . على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة ، وبني النضير العزيزة ؛ حتى جاءهم محمد [ ص ] فردهم إلى شريعة الله - شريعة المساواة . . ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء !
والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل ، أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر ، يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه ، وما زينه له اندفاعه ؛ وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل - دون نظر إلى نسبه أو مركزه ، أو طبقته ، أو جنسه - وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة . إذا قطع يدا أو رجلا قطعت يده أو رجله ؛ وإذا أتلف عينا أو أذنا أو سنا ، أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه . . وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن - طالت مدة السجن أو قصرت - فالألم في البدن ، والنقص في الكيان ، والتشويه في الخلقة شيء آخر غير الآم السجن . . على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة . . والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة ؛ والذي يذهب بحزازات النفوس ، وجراحات القلوب ، والذي يسكن فورات الثأر الجامحة ، التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية . . وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات . ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص . .
وشرع الله في الإسلام يلحظ الفطرة - كما لحظها شرع الله في التوراة - حتى إذا ضمن لها القصاص المريح . . راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو - عفو القادر على القصاص :
من تصدق بالقصاص متطوعا . . سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل [ والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص ، أو بالتنازل عن الدم والدية معا وهذا من حق الولي ، إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تغزيز القاتل بما يراه ] أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروج كلها ، فتنازل عن القصاص . . من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه ؛ يحط بها الله عنه .
وكثيرا ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو ، وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته . نفوسا لا يغنيها العوض المالي ؛ ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت . . فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل ؟ أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد ؟ . . إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل ، وتأمين الجماعة . . ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله . .
روى الإمام أحمد . قال : حدثنا وكيع ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال " كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار . فاستعدى عليه معاوية . فقال معاوية : سنرضيه . . فألح الأنصاري . . فقال معاويه : شأنك بصاحبك ! - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة ، أو حط به عنه خطيئة " . . فقال الأنصارى : فإني قد عفوت " . .
وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له به التعويض . .
وتلك شريعة الله العليم بخلقة ؛ وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر ، وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها ؛ ويكسب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام .
وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة ، التي صارت طرفا من شريعة القرآن ، يعقب بالحكم العام :
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) . .
والتعبير عام ، ليس هناك ما يخصصه ؛ ولكن الوصف الجديد هنا هو( الظالمون ) .
وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر . وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله . فهو كافر باعتباره رافضا لألوهية الله - سبحانه - واختصاصه بالتشريع لعباده ، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس . وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم ، الصالحة المصلحة لأحوالهم . فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة ، وتعرضها لعقاب الكفر . وبتعريض حياة الناس - وهو معهم - للفساد .
وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) . . فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول ؛ ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو ( من ) المطلق العام .
وهذا أيضًا مما وُبّخَتْ به اليهود وقرعوا عليه ، فإن عندهم في نص التوراة : أن النفس بالنفس . وهم يخالفون ذلك عمدًا وعنادًا ، ويُقيدون النضري من القرظي ، ولا يُقيدون القرظي من النضري ، بل يعدلون إلى الدية ، كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن ، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ؛ ولهذا قال هناك : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } لأنهم جحدوا حكم الله قصدًا منهم وعنادًا وعمدًا ، وقال هاهنا : { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخالفوا وظلموا ، وتعدى بعضهم على بعض . {[9873]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن يونس بن يزيد ، عن أبي علي بن يزيد - أخي يونس بن يزيد - عن الزهري ، عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } نصب النفس ورفع العين .
وكذا رواه أبو داود ، والترمذي والحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الله بن المبارك{[9874]} وقال الترمذي : حسن غريب .
وقال البخاري : تفرد ابن المبارك بهذا الحديث . {[9875]}
وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا ، إذا حكي مقررًا ولم ينسخ ، كما هو المشهور عن الجمهور ، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية ، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة .
وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة . رواه ابن أبي حاتم .
وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها : أن شرع إبراهيم حجة دون غيره ، وصحح منها عدم الحجية ، ونقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالا عن الشافعي ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا ، فالله أعلم .
وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ ، رحمه الله ، في كتابه " الشامل " إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه ، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة ، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم : " أن الرجل يقتل بالمرأة " وفي الحديث الآخر : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " {[9876]} وهذا قول جمهور العلماء .
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية ؛ لأن ديتها على النصف من دية الرجل ، وإليه ذهب أحمد في روايته [ عنه ]{[9877]} وحكي{[9878]} [ هذا ]{[9879]} عن الحسن [ البصري ]{[9880]} وعطاء ، وعثمان البتي ، ورواية عن أحمد{[9881]} [ به ]{[9882]} أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل تجب{[9883]} ديتها .
وهكذا احتج أبو حنيفة ، رحمه الله تعالى ، بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي ، وعلى قتل الحر بالعبد ، وقد خالفه الجمهور فيهما ، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقتل مسلم بكافر " {[9884]} وأما العبد فعن السلف في{[9885]} آثار متعددة : أنهم لم يكونوا يُقيدون العبد من الحر ، ولا يقتلون حرًا بعبد ، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح ، وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك ، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة .
ويؤيد ما قاله{[9886]} ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ ، حدثنا حُمَيْد ، عن أنس بن مالك : أن الرُّبَيع عَمّة أنس كسرت ثَنيَّة جارية ، فطلبوا إلى القوم العفو ، فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " القصاص " . فقال أخوها أنس بن النضر : يا رسول الله تكسر ثنية فلانة ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أنس ، كتاب الله القصاص " . قال : فقال : لا والذي بعثك بالحق ، لا تكسر ثنية فلانة . قال : فرضي القوم ، فعفوا وتركوا القصاص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبَّره " .
أخرجاه في الصحيحين{[9887]} وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري ، في الجزء المشهور من حديثه ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ؛ أن الرُّبَيع بنت النضر عَمَّته لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرضوا عليهم الأرش ، فأبوا فطلبوا الأرش والعفو فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم بالقصاص ، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع ؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أنس كتاب الله القصاص " . فعفا القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " . رواه البخاري عن الأنصاري . فأما الحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن أبي نَضرة ، عن عمران بن حصين ، أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء ، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا أناس فقراء ، فلم يجعل عليه شيئًا . وكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه ، عن معاذ بن هشام الدستوائي ، عن أبيه عن قتادة ، به{[9888]} وهذا إسناد قوي رجاله كلهم ثقات فإنه حديث مشكل ، اللهم إلا أن يقال : إن الجاني كان قبل البلوغ ، فلا قصاص عليه ، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء ، أو استعفاهم عنه .
وقوله تعالى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : تقتل النفس بالنفس ، وتفقأ العين بالعين ، ويقطع الأنف بالأنف ، وتنزع السن بالسن ، وتقتص الجراح بالجراح .
فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين [ به ]{[9889]} فيما بينهم ، رجالهم ونساؤهم ، إذا كان عمدًا في النفس وما دون النفس ، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدًا ، في النفس وما دون النفس ، رواه ابن جرير{[9890]} وابن أبي حاتم .
الجراح تارة تكون في مَفْصِل ، فيجب فيه القصاص بالإجماع ، كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك . وأما إذا لم تكن الجراح{[9891]} في مفصل بل في عظم ، فقال مالك ، رحمه الله : فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها ؛ لأنه مخوف خطر . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يجب القصاص في شيء من العظام{[9892]} إلا في السن . وقال الشافعي : لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقًا ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس . وبه يقول عطاء ، والشعبي ، والحسن البصري ، والزهري ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وعمر بن عبد العزيز . وإليه ذهب سفيان الثوري ، والليث بن سعد . وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد .
وقد احتج أبو حنيفة ، رحمه الله ، بحديث الرُّبَيع بنت النضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن . وحديثُ الربيع لا حجة فيه ؛ لأنه ورد بلفظ : " كَسَرَتْ ثَنيَّة جارية " وجائز أن تكون{[9893]} سقطت من غير كسر ، فيجب القصاص - والحالة هذه - بالإجماع . وتمموا الدلالة . بما رواه ابن ماجه ، من طريق أبي بكر بن عَيَّاش ، عن دهْثَم{[9894]} بن قُرَّان ، عن نِمْرَان بن جارية ، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي ؛ أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل ، فقطعها ، فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر له بالدية ، فقال : يا رسول الله ، أُريد القصاص . فقال : " خذ الدية ، بارك الله لك فيها " . ولم يقض له بالقصاص . {[9895]}
وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ، وَدَهْثَم{[9896]} بن قُرَّان العُكلي ضعيف أعرابي ، ليس حديثه مما يحتج به ، ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضًا ، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة . {[9897]}
ثم قالوا : لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تَنْدَمِل جراحة المجني عليه ، فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه ، فلا شيء له ، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، فذكر حديثًا ، قال ابن إسحاق : وذكر عَمْرو{[9898]} بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقدني . فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تعجل حتى يبرأ جرحك " . قال : فأبى الرجل إلا أن يستقيد ، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، قال : فعرج المستقيد وبرأ المستقاد منه ، فأتى المستقيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله ، عرجت وبرأ صاحبي . فقال : " قد نهيتك فعصيتني ، فأبعدك الله وبطل عرجك " . ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه . تفرد به أحمد . {[9899]}
فلو اقتص المجني عليه من الجاني ، فمات من القصاص ، فلا شيء عليه عند مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم . وقال أبو حنيفة : تجب الدية في مال المقتص . وقال عامر الشعبي ، وعطاء ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، والحارث العُكْلِي ، وابن أبي ليلى ، وحماد بن أبي سليمان ، والزهري ، والثوري : تجب الدية على عاقلة المقتص له . وقال ابن مسعود ، وإبراهيم النَّخعي ، والحكم بن عتَيبة{[9900]} وعثمان البَتِّيّ : يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة ، ويجب الباقي في ماله .
وقوله : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } يقول : فمن عفا عنه ، وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب ، وأجر للطالب .
وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : كفارة للجارح ، وأجر المجروح{[9901]} على الله ، عز وجل . رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وروي عن خيثمة بن عبد الرحمن ، ومجاهد ، وإبراهيم - في أحد قوليه - وعامر الشعبي ، وجابر بن زيد - نحو ذلك الوجه الثاني ، ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا حماد بن زاذان ، حدثنا حرمي - يعني ابن عمارة - حدثنا شعبة ، عن عمارة - يعني ابن أبي حفصة - عن رجل ، عن جابر بن عبد الله ، في قول الله ، عز وجل{[9902]} { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : للمجروح . وروى عن الحسن البصري ، وإبراهيم النخعي - في أحد قوليه - وأبي إسحاق الهمداني ، نحو ذلك .
وروى ابن جرير ، عن عامر الشعبي وقتادة ، مثله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن قيس - يعني بن مسلم - قال : سمعت طارق بن شهاب يحدث ، عن الهيثم أبي{[9903]} العريان النخعي قال : رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيهًا بالموالي ، فسألته عن قول الله [ عز وجل ]{[9904]} { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تَصدق به .
وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم . وكذا رواه ابن جرير من طريق سفيان وشعبة .
وقال ابن مَرْدُويَه : حدثني محمد بن علي ، حدثنا عبد الرحيم بن محمد المُجَاشِعي ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري ، حدثنا يحيى بن سليمان الجُعْفي ، حدثنا مُعلَّى - يعني ابن هلال{[9905]} - أنه سمع أبان بن تغلب ، عن أبي العريان الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو - وعن أبان بن تغلب ، عن الشعبي ، عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : هو الذي تكسر سنه ، أو تقطع يده ، أو يقطع الشيء{[9906]} منه ، أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك ، وقال فَيُحَطّ عنه قدر خطاياه ، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه ، وإن كان الثلث فثلث خطاياه ، وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك . {[9907]}
ثم قال{[9908]} ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، حدثنا ابن فضيل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السَّفَر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار ، فاندقت ثنيته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية ، فلما ألح عليه الرجل قال : شأنك وصاحبك . قال : وأبو الدرداء عند معاوية ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده ، فيهبه ، إلا رفعه الله به درجة ، وحط عنه به خطيئة " . فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي ، فخلى سبيل القرشي ، فقال معاوية : مروا له بمال .
هكذا رواه ابن جرير{[9909]} ورواه الإمام أحمد فقال : حدثنا وَكِيع ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السَّفر قال : كسر رجل من قريش سنّ رجل من الأنصار ، فاستعدى عليه معاوية ، فقال القرشيُّ : إن هذا دق سنّي ؟ قال معاوية : إنا سنرضيه . فألح الأنصاري ، فقال معاوية : شأنك بصاحبك ، وأبو الدرداء جالس ، فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء في{[9910]} جسده ، فيتصدق به ، إلا رفعه الله به درجة أو حط عنه بها خطيئة " . فقال الأنصاري : فإني ، يعني : قد عفوت .
وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك ، وابن ماجه من حديث وَكِيع ، كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق ، به{[9911]} ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ولا أعرف لأبي السَّفَر سماعًا من أبي الدرداء .
وقال [ أبو بكر ]{[9912]} بن مردويه : حدثنا دَعْلَج بن أحمد ، حدثنا محمد بن علي بن زيد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا سفيان ، عن عمران بن ظبيان ، عن عدي بن ثابت ؛ أن رجلا هَتَم فمه رجل ، على عهد معاوية ، رضي الله عنه ، فأعْطِي دية ، فأبى إلا أن يقتص ، فأعطي ديتين ، فأبى ، فأعطي ثلاثًا ، فأبى ، فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن{[9913]} رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من تصدق بدم فما دونه ، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت " . {[9914]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج بن النعمان ، حدثنا هُشَيْم ، عن المغيرة ، عن الشعبي ؛ أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل يجرح من{[9915]} جسده جراحة ، فيتصدق بها ، إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به .
ورواه النسائي ، عن علي بن حُجْر ، عن جرير بن عبد الحميد ، ورواه ابن جرير ، عن محمود بن خِدَاش ، عن هُشَيْم ، كلاهما عن المغيرة ، به . {[9916]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن مجالد ، عن عامر ، عن المحرَّر بن أبي هريرة ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أصيب بشيء من جسده ، فتركه لله ، كان كفارة له " . {[9917]}
وقوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا كُفْر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .
{ وكتبنا عليهم وفرضنا على اليهود . { فيها } في التوراة . { أن النفس بالنفس } أي أن النفس تقتل بالنفس . { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن } رفعها الكسائي على أنها جمل معطوفة على أن وما في حيزها باعتبار المعنى وكأنه قيل : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، والعين بالعين ، فإن الكتابة والقراءة تقعان على الجمل كالقول ، أو مستأنفة ومعناها : وكذلك العين مفقوءة بالعين ، والأنف مجدوعة بالأنف ، والأذن مصلومة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن ، أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن في قوله بالنفس ، { وإنما ساغ لأنه في الأصل مفصول عنه بالطرف ، والجار والمجرور حال مبينة للمعنى ، وقرأ نافع { والأذن بالأذن } وفي أذنيه بإسكان الذال حيث وقع . { والجروح قصاص } أي ذات قصاص ، وقرأه الكسائي أيضا بالرفع ووافقه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر على أنه إجمال للحكم بعد التفضيل . { فمن تصدق } من المستحقين . { به } بالقصاص أي فمن عفا عنه . { فهو } فالتصدق . { كفارة له } للمتصدق يكفر الله به ذنوبه . وقيل للجاني يسقط عنه ما لزمه . وقرئ " فهو كفارته له " أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء . { ومن لم يحكم بما أنزل الله } من القصاص وغيره . { فأولئك هم الظالمون } .
«الكتب » في هذه الآية هو حقيقة كتب في الألواح ، وهو بالمعنى كتب فرض وإلزام ، والضمير في { عليهم } لبني إسرائيل وفي { فيها } للتوراة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { أن النفس بالنفس } بنصب النفس على اسم { أن } وعطف ما بعد ذلك منصوباً على { النفس } ويرفعون «والجروحُ قصاص » على أنها جملة مقطوعة . وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كله . و { قصاص } خبر { أن } وروى الواقدي عن نافع أنه رفع «والجروحُ » وقرأ الكسائي «أن النفسَ بالنفس » نصباً ورفع ما بعد ذلك ، فمن نصب «والعينَ » جعل عطف الواو مشركاً في عمل «أن » ولم يقطع الكلام مما قبله . ومن رفع «والعينُ » فيتمثل ذلك من الاعراب أن يكون قطع مما قبل ، وصار عطف الواو عطف جملة كلام لا عطف تشريك في عامل ، ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى لأن معنى قوله : { وكتبنا عليهم أن النفس بالنفس } قلنا لهم النفس بالنفس ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى : { يطاف عليهم بكأس من معين }{[4563]} يمنحون كأساً من معين عطف وحوراً عيناً على ذلك ، ويحتمل أن يعطف قوله { والعين } على الذكر المستتر{[4564]} في الطرق الذي هو الخبر ، وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى : { إنه يراكم هو قبيلة من حيث لا ترونهم }{[4565]} وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى : { ما أشركنا ولا آباؤنا }{[4566]} .
قال القاضي أبو محمد : ولسيبويه رحمه الله في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب { لا } في قوله : { ولا آباؤنا } فكانت { لا } عوضاً من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة ، قال ابو علي : وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضاً إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضاً من الضمير الواقع قبل حرف العطف ، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير ، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم ، لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه .
قال القاضي أبو محمد : وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية ، لأن { لا } ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ، ونفت هي أيضاً عن الآباء فتمكن العطف ، قال أبو علي ومن رفع «والجروحُ قصاص » فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع [ والعين ] ويجوز أن يستأنف : [ والجروح ] ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة ، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة .
ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصُب من نصبه . وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ «أنْ النفسُ بالنفس » بتخفيف «أن » ورفع «النفسُ » ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية . وقرأ أبيّ بن كعب بنصب «النفس » وما بعدها ثم قرأ : «وأن الجروح قصاص » بزيادة «أن » الخفيفة ورفع «الجروحُ » .
ومعنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضاً على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ، ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه . ومضى عليه إجماع الناس ، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله : { النفس بالنفس } فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي ، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين . وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يقتل مسلم بكافر »{[4567]} وقال ابن عباس رضي الله عنه : رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزز بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية ، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم خالفوا كتابهم ، وحكى الطبري عن ابن عباس : كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد{[4568]} . قال الثوري : وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها { النفس بالنفس } .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك قوله تعالى : { والجروح قصاص } هو عموم يراد به الخصوص في جراح القود ، وهي التي لا يخاف منها على النفس ، فأما ما خيف منه كالمأمومة{[4569]} وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها . و «القصاص » مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه . فكأن الجاني يقتص أثره ويتبع فيما سنه فيقتل كما قتل ، وقوله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } يحتمل ثلاثة معان ، أحدها أن تكون «من » للجروح أو ولي القتيل . ويعود الضمير في قوله : { له } عليه أيضاً ، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه ويعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه ، وقال بهذا التأويل عبد الله بن عمر وجابر بن زيد وأبو الدرداء وذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :«ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة{[4570]} » ، وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي أنه يحط من ذنوبه بقدر ما عفا من الدية والله أعلم .
وقال به أيضاً قتادة والحسن ، والمعنى الثاني أن تكون «من » للجروح أو ولي القتيل ، والضمير في { له } يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصح عنه : فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب ، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة ، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى ، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر لأن المعنى يقتضيه ، قال بهذا التأويل ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد وإبراهيم وعامر الشعبي وزيد بن أسلم ، والمعنى الثالث أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في { له } يعود عليه أيضاً ، والمعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه ، وذهب القائلون بهذا التأويل إلى الاحتجاج بأن مجاهداً قال إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب ، وروي أن عروة بن الزبير أصاب عين إنسان عند الركن وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير . فإن كان بعينك بأس فأنا بها .
قال القاضي أبو محمد : وانظر َأن { تصدق } على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق ، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوماً تأولوا الآية أن المعنى { والجروح قصاص } فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل قلق . وقد تقدم القول على قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله } الآية . وفي مصحف أبيّ بن كعب «ومن يتصدق به فإنه كفارة له » .
عطفت جملة { كتبنا } على جملة { أنزلنا التّوراة } المائدة : 44 ) . ومناسبة عطف هذا الحكم على ما تقدّم أنّهم غيّروا أحكام القصاص كما غيّروا أحكام حدّ الزّنى ، ففاضلوا بين القتلى والجرحى ، كما سيأتي ، فلذلك ذيّله بقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون } ، كما ذيّل الآية الدّالّة على تغيير حكم حد الزّنى بقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44 ] .
والكَتْب هنا مجاز في التّشريع والفرض بقرينة تعديته بحرف ( على ) ، أي أوجبنا عليهم فيها ، أي في التّوراة مضمونَ { أنّ النّفس بالنّفس } ، وهذا الحكم مسطور في التّوراة أيضاً ، كما اقتضت تعديّة فعل { كتبنا } بحرف ( في ) فهو من استعمال اللّفظ في حقيقته ، ومجازه .
وفي هذا إشارة إلى أنّ هذا الحكم لا يستطاع جحده لأنّه مكتوب والكتابة تزيد الكلام توثّقاً ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى فاكتبوه } في سورة البقرة ( 282 ) ، وقال الحارث بن حلّزة :
وهل ينقض ما في المهارق الأهواءُ
والمكتوب عليهم هو المصدر المستفاد من ( أنّ ) . والمصدرُ في مثل هذا يؤخذ من معنى حرف الباء الّذي هو التّعويض ، أي كتبنا تعويض النّفسسِ بالنّفس ، أي النّفس المقتولة بالنّفس القاتلة ، أي كتبنا عليهم مساواةَ القصاص . وقد اتّفق القرّاء على فتح همزة ( أنّ ) هنا ، لأنّ المفروض في التّوراة ليس هو عين هذه الجمل ولكن المعنى الحاصل منها وهو العوضية والمساواة فيها .
وقرأ الجمهور والعينَ بالعينَ } وما عطف عليها بالنصب عطفاً على اسم ( أنّ ) . وقرأه الكسائي بالرفع . وذلك جائز إذا استكملت ( أنّ ) خبرها فيعتبر العطف على مجموع الجملة .
والنّفس : الذات ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { وتنسون أنفسكم } في سورة البقرة ( 44 ) . والأذن بضمّ الهمزة وسكون الذال ، وبضمّ الذال أيضاً . والمراد بالنفس الأولى نفس المعتدى عليه ، وكذلك في والعين } الخ .
والباء في قوله : { بالنّفس } ونظائره الأربعة باء العوض ، ومدخولات الباء كلّها أخبار ( أنّ ) ، ومتعلّق الجار والمجرور في كلّ منها محذوف ، هو كون خاصّ يدلّ عليه سياق الكلام ؛ فيقدر : أنّ النّفس المقتولة تعوّض بنفس القاتل والعين المتلفة تعوّض بعين المتلف ، أي بإتلافها وهكذا النفس متلفة بالنّفس ؛ والعين مفقوءة بالعين ، والأنفَ مجدوع بالأنف ؛ والأذن مصلُومة بالأذن .
ولام التّعريف في المواضع الخمسة داخلة على عضو المجني عليه ، ومجرورات الباء الخمسة على أعضاء الجاني . والاقتصار على ذكر هذه الأعضاء دون غيرها من أعضاءِ الجسد كاليد والرِجل والإصبع لأنّ القطع يكون غالباً عند المضاربة بقصد قطع الرقبة ، فقد ينبو السيفُ عن قطع الرّأس فيصيب بعض الأعضاء المتّصلة به من عين أو أنف أو أذن أو سنّ . وكذلك عند المصاولة لأنّ الوجه يقابل الصائل ، قال الحَريش بنُ هلال :
نعرِّض للسيوف إذا التقينا *** وُجوهاً لا تعرّض لللّطَام
وقوله : { والجروحَ قصاص } أخبر بالقصاص عن الجروح على حذف مضاف ، أي ذات قصاص . وقصاص مصدر قاصّة الدَّالّ على المفاعلة ، لأنّ المجنيّ عليه يقاصّ الجاني ، والجاني يقاصّ المجني عليه ، أي يقطع كلّ منهما التبعة عن الآخر بذلك . ويجوز أن يكون { قصاص } مصدراً بمعنى المفعول ، كالخلْق بمعنى المخلوق ، والنَّصْب بمعنى المنصوب ، أي مقصوص بعضها ببعض . والقصاص : المماثلة ، أي عقوبة الجاني بجِراح أن يُجرح مثل الجرح الّذي جنى به عمداً . والمعنى إذا أمكن ذلك ، أي أُمِن من الزيادة على المماثلة في العقوبة ، كما إذا جَرحه مأمومة على رأسه فإنَّه لا يدري حين يَضرب رأس الجاني ماذا يكون مدى الضّربة فلعلّها تقضي بموته ؛ فيُنتقَل إلى الدية كلّها أو بعضها . وهذا كلّه في جنايات العمد ، فأمّا الخطأ فلم تتعرض له الآية لأنّ المقصود أنّهم لم يقيموا حكم التوراة في الجناية .
وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وخلف { والجروح } بالنّصب عطفاً على اسم ( أنّ ) . وقرأه ابن كثير ، وابنُ عامر ، وأبو عمرو ، والكسائي ، ويعقوب بالرّفع على الاستئناف ، لأنّه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصّل حكم قطع الأعضاء .
وفائدة الإعلام بما شرع الله لبني إسرائيل في القصاص هنا زيادة تسجيل مخالفتهم لأحكام كتابهم ، وذلك أنّ اليهود في المدينة كانوا قد دخلوا في حروب بعاث فكانت قريظة والنضير حرباً ، ثمّ تحاجزوا وانهزمت قريظة ، فشرطت النضير على قريظة أنّ ديّة النضيري على الضِعف من ديّة القُرظي وعلى أنّ القرظي يُقتل بالنضيري ولا يقتل النضيري بالقرظي ، فأظهر الله تحريفهم لكتابهم . وهذا كقوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } إلى قوله { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } [ البقرة : 84 ، 85 ] . ويجوز أن يقصد من ذلك أيضاً تأييد شريعة الإسلام إذ جاءت بمساواة القصاص وأبطلت التكايُل في الدّماء الّذي كان في الجاهلية وعند اليهود . ولا شكّ أنّ تأييد الشّريعة بشريعة أخرى يزيدها قبولاً في النّفوس ، ويدلّ على أنّ ذلك الحكم مراد قديم لله تعالى ، وأنّ المصلحة ملازمة له لا تختلف باختلاف الأفوام والأزمان ، لأنّ العرب لم يزل في نفوسهم حرج من مساواة الشّريف الضّعيف في القصاص ، كما قالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تثأر بأخيها عبد الله بن معد يكرب :
فيَقْتُلَ جَبْراً بامرىءٍ لم يكن له *** بَوَاءً ولكنْ لاَ تَكَايُلَ بالدّم{[222]}
تريد : رضينا بأن يُقتل الرجل الذي اسمه ( جبر ) بالمرء العظيم الّذي ليس كفؤاً له ، ولكن الإسلام أبطل تكايُل الدّماء . والتكايل عندهم عبارة عن تقدير النّفس بعدّة أنفس ، وقد قدّر شيوخ بني أسد دَم حُجْرٍ والد امرىء القيس بدِيات عشرة من سادة بني أسد فأبى امرؤ القيس قبول هذا التّقدير وقال لهم : « قد علمتم أن حُجراً لم يكن ليَبُوء به شيء » وقال مهلهل حين قَتَل بُجيرا :
والبَواء : الكفاء . وقد عَدّت الآية في القصاص أشياء تكثر إصابتها في الخصومات لأنّ الرّأس قد حواها وإنَّما يقصد القاتل الرأس ابتداء .
وقوله : { فمن تصدّق به فهو كفارة له } هو من بقية ما أخبر به عن بني إسرائيل ، فالمراد ب { مَنْ تصدّق } من تصدّق منهم ، وضمير { به } عائد إلى ما دلّت عليه باء العوض في قوله { بالنفس } الخ ، أي من تصدّق بالحقّ الذي له ، أي تنازل عن العوض . وضمير { له } عائد إلى { من تصدّق } . والمراد من التصدّق العفو ، لأنّ العفو لمّا كان عن حقّ ثابت بيد مستحقّ الأخذ بالقصاص جُعل إسقاطه كالعطيّة ليشير إلى فرط ثوابه ، وبذلك يتبيّن أن معنى { كفّارة له } أنّه يكفّر عنه ذنوباً عظيمة ، لأجل ما في هذا العفو من جلب القلوب وإزالة الإحن واستبقاء نفوس وأعضاء الأمّة .
وعاد فحذّر من مخالفة حكم الله فقال : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون } لينبّه على أنّ التّرغيب في العفو لا يقتضي الاستخفاف بالحكم وإبطال العمل به لأنّ حكم القصاص شُرع لحكم عظيمة : منها الزجر ، ومنها جبر خاطر المعتدى عليه ، ومنها التفادي من ترصّد المعتدى عليهم للانتقام من المعتدين أو من أقوامهم . فإبطال الحكم بالقصاص يعطّل هذه المصالح ، وهْو ظلم ، لأنّه غمص لحقّ المعتدى عليه أو ولِيّه . وأمّا العفو عن الجاني فيحقّق جميع المصالح ويزيد مصلحة التحابب لأنّه عن طيب نفس ، وقد تغشى غباوة حكّام بني إسرائيل على أفهامهم فيجعلوا إبطال الحكم بمنزلة العفو ، فهذا وجه إعادة التّحذير عقب استحباب العفو . ولم ينبّه عليه المفسّرون . وبه يتعيّن رجوع هذا التّحذير إلى بني إسرائيل مثل سابقه .
وقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون } القول فيه كالقول في نظيره المتقدّم . والمراد بالظّالمين الكافرون لأنّ الظلم يطلق على الكفر فيكون هذا مؤكّداً للّذي في الآية السابقة . ويحتمل أنّ المراد به الجور فيكون إثبات وصف الظلم لزيادة التشنيع عليهم في كفرهم لأنّهم كافرون ظالمون .