المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

271- إن تظهروا صدقاتكم خالية من الرياء فذلك محمود لكم مرضى منكم ، ممدوح من ربكم ، وإن تعطوها الفقراء سراً منعاً لحرجهم وخشية الرياء فذلك خير لكم ، والله يغفر لكم من ذنوبكم بسبب إخلاصكم في صدقاتكم ، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ويعلم نياتكم في إعلانكم وإخفائكم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

ثم بين - سبحانه - أن الصدقة متى صدرت عن المسلم بالطريقة التي دعت إليها تعاليم الإِسلام فإنها تكون مرجوة القبول عند الله - تعالى - سواء أفعلها المسلم في السر أم في العلن ، فقال - تعالى - : { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

الصدقات : جمع صدقة وهي ما يخرجه المسلم من ماله على جهة القربة ، وتشمل الفرض والتطوع ، وهي مأخوذة من الصدق بمعنى صدق النية وتخليصها من كل ما نهى الله عنه ، وسمى - سبحانه - ما يخرجه المسلم من ماله صدقة لأن المال بها يزكو وينمو ويطهر .

والفاء في قوله : { فَنِعِمَّا هِيَ } واقعة في جواب الشرط ، و ( نعماً ) أصلها نعم ما ، فأدغمت إحدى الميمين في الأخرى ، ونعم فعل ماض ، وما نكرة تامة بمعنى شيء ، وهي منصوبة على أنها تمييز ، والفاعل ضمير مستتر في نعم .

والمعنى : إن تبدوا صدقاتكم - أيها المؤمنون - وتظهروها فنعم شيئاً إبداؤها وإعلانها ، لأنه يرفع التهمة ويدعو أهل الخير إلى الاقتداء بهذا الفعل الحسن .

وجاء التعبير بمدح المعلنين صدقتهم بقوله " فنعما هي " للإِشارة إلى أن المسلم متى دفع صدقته لمستحقيها بنية خالصة ، فإنه يكون ممدوحاً من الله - تعالى - وممدوحاً من الناس الذين شاهدوا عمله الصالح .

هذه صدقة الجهر إذا خلصت من الرياء أما صدقة السر فقد أثنى الله على فاعلها بقوله : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : وإن تخفوا الصدقات وتعطوها للفقراء سراً ، دون أن يراكم أحد من الناس ، فعملكم هذا خير لكم عند الله لأنكم بإخفائكم للصدقة ودفعها للفقير سراً تكونون قد ابتعدتم عن الرياء ، وسترتم حال هذا الفقير المحتاج .

وقوله : { وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } أي أنه - سبحانه - يستر السيئات التي يرتكبها الشخص ، ويخفيها ولا يظهرها عند إثابته إياه على فعله الحسن لأن ما عفهل من حسنات مسح ما فعله من سيئات فهو كقوله - تعالى - : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } و { مِّن } في قوله : { مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } بيانية بمعنى أن الصدقات تكفر السيئات لأن المسلم إذا بذل ماله في سبيل الله بصدق وإخلاص ، كان أهلا لمثوبة الله ومغفرته ، ويجوز أن تكون للتبغيض أي يكفر عنكم بعض سيئاتكم بمقدار ما قدمتم من صدقات لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي أن الله - تعالى - عليم علماً دقيقاً بكل ما تعملونه أيها المؤمنون ، فعليكم أن تخلصوا له أعمالكم ، وأن تراقبوه في سركم وجهركم ، وأن تسارعوا في عمل الخيرات التي ترفع درجاتكم عند خالقكم .

وبذل كنرى أن الآية الكريمة قد مدحت صدقتي الجهر والسر متى كان المتصدق متبعاً آداب الإِسلام وتوجيهاته ، ومبتعداً عن كل ما يبطل الصدقات ، ويحبط الأعمال .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

261

وإخفاء الصدقة حين تكون تطوعا أولى وأحب إلى الله ؛ وأجدر أن تبرأ من شوائب التظاهر والرياء . فأما حين تكون أداء للفريضة فإن إظهارها فيه معنى الطاعة ، وفشو هذا المعنى وظهوره خير . . ومن ثم تقول الآية :

( إن تبدوا الصدقات فنعما هي . وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) . . فتشمل هاتين الحالتين وتعطي كل حالة ما يناسبها من التصرف ؛ وتحمد هذه في موضعها وتلك في موضعها ؛ وتعد المؤمنين على هذه وتلك تكفير السيئات :

( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) . .

وتستجيش في قلوبهم التقوى والتحرج من جانب ، والطمأنينة والراحة من جانب آخر ، وتصلها بالله في النية والعمل في جميع الأحوال :

( والله بما تعملون خبير ) . .

ولا بد أن نلحظ طول التوجيه إلى الإنفاق ؛ وتنوع أساليب الترغيب والترهيب بصدده ؛ لندرك أمرين :

الأول : بصر الإسلام بطبيعة النفس البشرية وما يخالجها من الشح بالمال ، وحاجتها إلى التحريك المستمر والاستجاشة الدائبة لتستعلي على هذا الحرص وتنطلق من هذا الشح ، وترتفع إلى المستوى الكريم الذي يريده الله للناس . والثاني : ما كان يواجهه القرآن من هذه الطبيعة في البيئة العربية التي اشتهرت شهرة عامة بالسخاء والكرم . . ولكنه كان سخاء وكرما يقصد به الذكر والصيت وثناء الناس وتناقل أخباره في المضارب والخيام ! ولم يكن أمرا ميسورا أن يعلمهم الإسلام أن يتصدقوا دون انتظار لهذا كله ، متجردين من هذا كله ، متجهين لله وحده دون الناس . وكان الأمر في حاجة إلى التربية الطويلة ، والجهد الكثير ، والهتاف المستمر بالتسامي والتجرد والخلاص ! . . وقد كان . .

/خ274

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

وقوله : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } أي : إن أظهرتموها فنعم شيء هي .

وقوله : { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم } فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها ؛ لأنه أبعد عن الرياء ، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة ، من اقتداء الناس به ، فيكون أفضل من هذه الحيثية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمُسِر بالقرآن كالمُسِر بالصدقة " {[4491]} .

والأصل أن الإسرار أفضل ، لهذه الآية ، ولما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " {[4492]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حوشب ، عن سليمان بن أبي سليمان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " لما خلق الله الأرض جعلت تميد ، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت ، فتعجبت{[4493]} الملائكة من خلق الجبال ، فقالت : يا رب ، فهل من{[4494]} خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال : نعم ، الحديد . قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال : نعم ، النار . قالت : يا رب ، فهل من{[4495]} خلقك شيء أشد من النار ؟ قال : نعم ، الماء . قالت : يا رب ، فهل من {[4496]}خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال : نعم ، الريح . قالت : يا رب ، فهل من{[4497]} خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال : نعم ، ابنُ آدم يتصدق بيمينه فيخفيها من{[4498]} شماله " {[4499]} .

وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي ، عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ، أي الصدقة أفضل ؟ قال : " سر إلى فقير ، أو جهد من مقِل " . رواه أحمد{[4500]} .

ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن أبي ذر فذكره . وزاد : ثم نزع بهذه الآية : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم } الآية{[4501]} .

وفي الحديث المروي : " صدقة السر تطفئ غضب الرب ، عز وجل " {[4502]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب ، أخبرنا موسى بن عمير ، عن عامر الشعبي في قوله : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم } قال : أنزلت{[4503]} في أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، فأما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر ؟ " . قال : خلفت لهم نصف مالي ، وأما أبو بكر فجاء بماله كلّه يكاد{[4504]} أن يخفيه من نفسه ، حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر ؟ " . فقال : عدة الله وعدةُ رسوله . فبكى عمر ، رضي الله عنه ، وقال : بأبي أنت يا أبا بكر ، والله ما اسْتَبَقْنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا{[4505]} .

وهذا الحديث مروي من وجه آخر ، عن عمر ، رضي الله عنه{[4506]} . وإنما أوردناه هاهنا لقول الشعبي : إن الآية نزلت في ذلك ، ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل ، سواء كانت مفروضة أو مندوبة . لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية ، قال : جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها ، فقال : بسبعين ضعفًا . وجعل صدقة الفريضة عَلانيتَها أفضلَ من سرها ، فقال : بخمسة وعشرين ضعفًا .

وقوله : { وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُم } أي : بدل الصدقات ، ولا سيما إذا كانت سرا يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات ، وقد قرئ : " وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ " بالضم ، وقرئ : " وَنُكَفِّرْ " بالجزم ، عطفًا على{[4507]} جواب الشرط ، وهو قوله : { فَنِعِمَّا هِي } كقوله : " فَأَصَّدَقَ وَأَكُونَ " { وَأَكُنْ } .

وقوله { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : لا يخفى عليه من ذلك شيء ، وسيجزيكم عليه [ سبحانه وبحمده ]{[4508]} .


[4491]:رواه أحمد في المسند (4/151) وأبو داود في السنن برقم (1333) والترمذي في السنن برقم (2919) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
[4492]:صحيح البخاري برقم (660، 1423) وصحيح مسلم برقم (1031).
[4493]:في أ: "فتعجب".
[4494]:في جـ: "في".
[4495]:في جـ: "في".
[4496]:في جـ: "في".
[4497]:في جـ: "في".
[4498]:في جـ: "عن".
[4499]:المسند (3/124).
[4500]:المسند (5/178).
[4501]:ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/269) من طريق خالد بن أبي يزيد، عن علي بن يزيد به.
[4502]:رواه الترمذي في السنن برقم (2386) من حديث أنس، رضي الله عنه، وروي عن جماعة من الصحابة وهو حديث متواتر.
[4503]:في أ: "نزلت".
[4504]:في جـ: "وكاد".
[4505]:ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (1643) من طريق محمد بن الصباح بن موسى بن عيسى عن الشعبي به.
[4506]:رواه أبو داود في السنن برقم (1678) والترمذي في السنن برقم (3675) من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
[4507]:في جـ، أ، و: "على محل".
[4508]:زيادة من و.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

{ إن تبدوا الصدقات فنعما هي } فنعم شيئا إبداؤها . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل . وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وقالون بكسر النون وسكون العين ، وروي عنهم بكسر النون وإخفاء حركة العين وهو أقيس . { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء } أي تعطوها مع الإخفاء . { فهو خير لكم } فالإخفاء خير لكم ، وهذا في التطوع ولمن لم يعرف بالمال فإن إبداء الغرض لغيره أفضل لنفي التهمة عنه . عن ابن عباس رضي الله عنهما ( صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا ) . { ويكفر عنكم من سيئاتكم } قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص بالياء أي والله يكفر أو الإخفاء . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش ويعقوب بالنون مرفوعا على أنه جملة فعلية مبتدأة أو إسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي : ونحن نكفر . وقرأ نافع وحمزة والكسائي به مجزوما على محل الفاء وما بعده . وقرئ بالتاء مرفوعا ومجزوما والفعل للصدقات . { والله بما تعملون خبير } ترغيب في الإسرار .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 271 )

وقوله تعالى : { إن تبدوا الصدقات } الآية ، ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية هي في صدقة التطوع ، قال ابن عباس : جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها ، يقال بسبعين ضعفاً ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرا يقال بخمسة وعشرين ضعفاً ، قال : وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها( {[2653]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويقوي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة( {[2654]} ) ، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك ، وقال سفيان الثوري هذه الآية في التطوع ، وقال يزيد بن أبي حبيب : إنما أنزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى ، وكان( {[2655]} ) يأمر بقسم الزكاة في السر ، وهذا مردود لا سيما عند السلف الصالح ، فقد قال الطبري : أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل ، قال المهدوي : وقيل المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به ، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة النبي عليه السلام ، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع ، قال أبو محمد : وهذا القول مخالف للآثار ، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض ، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء ، وقال النقاش : إن هذه الآية نسخها قوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية }( {[2656]} ) [ البقرة : 274 ] ، وقوله : { فنعما هي } ثناء على إبداء الصدقة ، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء ، واختلف القراء في قوله { فنعما هي }( {[2657]} ) ، فقرأ نافع في غير رواية ورش ، وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل » فنِعمّا «بكسر النون وسكون » فنِعِمّا «بكسر النون والعين ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي » فَنعِمّا «بفتح النون وكسر العين وكلهم شدد الميم ، قال أبو علي من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله ، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين ، وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد ، إذ المد يصير عوضاً من الحركة ، وهذا نحو دابة وضوال وشبهه ، ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها( {[2658]} ) كأخذه بالإخفاء في باريكم ويأمركم فظن السامع الإخفاء إسكاناً للطف ، ذلك في السمع وخفائه ، وأما من قرأ " نِعِمّا " بكسر النون والعين فحجته أن أصل الكلمة " نِعم " بكسر الفاء من أجل حرف الحلق ، ولا يجوز أن يكون ممن يقول " نعم " ألا ترى أن من يقول هذا قدم ملك فيدغم ، لا يدغم ، هؤلاء قوم ملك وجسم ماجد( {[2659]} ) ، قال سيبويه : نِعِما بكسر النون والعين ليس على لغة من قال " نعم " فاسكن العين ، ولكن على لغة من قال " نعم " فحرك العين ، وحدثنا أبو الخطاب( {[2660]} ) أنها لغة هذيل وكسرها كما قال لعب ولو كان الذي قال " نعْما " ممن يقول نعم بسكون العين لم يجز الإدغام .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يشبه أن هذا يمتنع لأنه يسوق إلى اجتماع ساكنين ، قال أبو علي وأما من قرأ «نَعِمّا » بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها وهو نعم ومنه قول الشاعر :

ما أقلّت قدماي أنهم . . . نَعِمَ الساعون في الأمر المبر( {[2661]} )

ولا يجوز أن يكون ممن يقول قبل الإدغام «نعْم » بسكون العين ، وقال المهدوي وذلك جائز محتمل وتكسر العين بعد الإدغام لالتقاء الساكنين ، قال أبو علي ، وما من قوله { نعمّا } في موضع نصب ، وقوله { هي } تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر والتقدير ، نعم شيئاً إبداؤها . والإبداء هو المخصوص بالمدح . إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويدلك على هذا قوله { فهو خير لكم } أي الإخفاء خير ، فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات ، فكذلك أولاً الفاعل هو الإبداء ، وهو الذي اتصل به الضمير ، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مقامه ، واختلف القراء في قوله تعالى : { ونكفر عنكم } فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر : «ونكفرُ » بالنون ورفع الراء ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي : «ونكفرْ » بالنون والجزم في الراء ، وروي مثل ذلك أيضاً عن عاصم ، وقرأ ابن عامر : «ويكفرُ » بالياء ورفع الراء ، وقرأ ابن عباس { وتكفر } بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء ، وقرأ عكرمة : { وتكفر } بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء ، وقرأ الحسن : «ويكفرْ » بالياء وجزم الراء ، وروي عن الأعمش أنه قرأ : { ويكفر } بالياء ونصب الراء ، وقال أبو حاتم : قرأ الأعمش : «يكفر » بالياء دون واو قبلها وبجزم الراء ، وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ : «وتكفرُ » بالتاء ورفع الراء ، وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآها بتاء ونصب الراء( {[2662]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة ، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلة ، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات ، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر ، والإعطاء في خفاء هو المكفر ، ذكره مكي وأما رفع الراء فهو على وجهين : أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء ، وتقدير ونحن نكفر ، أو وهي تكفر ، أعني الصدقة ، أو والله يكفر ، والثاني : القطع والاستئناف وأن لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن لعطف جملة على جملة ، وأما الجزم في الراء فإنه حمل للكلام على موضع قوله تعالى : { فهو خير } إذ هو في موضع جزم جواباً للشرط ، كأنه قال : وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم ، ثم عطفه على هذا الموضع كما جاء قراءة من قرأ :

{ من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم }( {[2663]} ) [ الأعراف : 186 ] بجزم الراء وأمثلة هذا كثيرة ، وأما نصب الراء فعلى تقدير «إن » وتأمل( {[2664]} ) ، وقال المهدوي هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام ، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام . والجزم في الراء أفصح هذه القراءات . لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطاً إن وقع الإخفاء . وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى( {[2665]} ) ، و { من } في قوله : { من سيئاتكم } للتبعيض المحض( {[2666]} ) ، والمعنى في ذلك متمكن ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : { من } زائدة في هذا الموضع وذلك منهم خطأ ، وقوله : { والله بما تعملون خبير } وعد ووعيد .


[2653]:- رواه الإمام الطبري، ومثل هذا لا يقال بالرأي، وإنما يقال بالتوقيف، والآية عامة في الفرائض والنوافل، فالإخفاء أفضل فيهما معا، قال ابن عطية رحمه الله: «ويشبه في زماننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض فقد كثر المانع. وصار إخراجها عرضة للرياء»، وما قاله رحمه الله حق وواقع إلا أن الإمام الطبري رحمه الله روى عن ابن عباس رضي الله عنهما ما روى، وحكى الإجماع على أن إظهار الواجب أفضل، وعلى الإنسان أن ينظر إلى الظروف المحيطة به، فإن كان إظهار صدقة الفرض يشجع على إخراجها فالأمر واضح، وإلا فيعمل على إخفائها، فالإخفاء حيث تصان الكرامة وتتحرج النفس من الإعلان، والإبداء حيث تطلب الأسوة وتنفذ الشريعة، ولكل مقامه في الحياة.
[2654]:- رواه الشيخان، والترمذي بلفظ، (عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة). ورواه أبو داود في سننه بلفظك (صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلى المكتوبة). والحديث رواه زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالنافلة في البيت أفضل منها في المسجد ولو كان فاضلا كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
[2655]:- أي يزيد بن أبي حبيب.
[2656]:- من الآية (274) من سورة البقرة.
[2657]:- مثله قوله تعالى: [إن الله نِعِمَّا يعظكم به]، والقراءات الثلاث التي ذكرها ابن عطية كلها تشدد الميم، واللغات في هذه المادة أربع: نعم بفتح فكسر، ولك أن تطرح الكسرة فتقول: نَعْم بفتح فسكون، ونِعِم بكسرتين، ولك أن تطرح الكسرة الثانية فتقول: نِعْم بكسر فسكون، وهذه أفصح اللغات، وإن كان أصلها نَعِم بفتح فكسر، وقد قالوا: إن كل ما كان على فَعِل بفتح فكسر وثانيه حرف حلقي ففيه هذه اللغات الأربع.
[2658]:- أي كسر العين كسرا خفيفا مختلساً، وهذا الجواب من أبي علي الفارسي، ثم إن ما أنكروه قد جاء عن أكثر القراء في عدة مواضع، والحق أن القراءات منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومتواترة، فلا ينبغي أن يتطرق الشك إليها، ومتى تطرق إلى ذلك تطرق إلى غيره. الأمر كله راجع إلى التقاء الساكنين وعدمهن فحيث يلتقي الساكنان لا يجوز الادغام مثل: «قوم ملِك – وجسم ماجد». لأن الواو في (قوم) ساكنة، والسين في (جسم) ساكنة، أما في قولهم: "قدم ملك" فيجوز الإدغام لأن الدال متحركة.
[2659]:- يعني أن قراءة: (فَنِعِما هي) بكسرتين لها تقديران: أحدهما أنها جاءت على لغة من يقول: (نعِم) وهي لغة هذيل. وثانيهما أن تكون جاءت على أن الأصل (نِعْم) بكسر فسكون ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين، وهذا التقدير الثاني هو الذي قال فيه أبو الخطاب: إن كسر النون لعب. تأمل.
[2660]:- هو العلاء بن عبد الوهاب الأندلسي، كان من أهل العلم والأدب والذكاء والهمة العالية في طلب العلم، رحل إلى المشرق، وحدث ببغداد ودمشق، وتوفي ببلده المرية سنة 454هـ. انظر : "نفح الطيب".
[2661]:- البيت لطرفة بن العبد وهو من قصيدة طويلة: من جملتها: نحن في المَشْتَاةِ نَدْعو الجَفَلَـى لا نرى الآدِبَ فِيناَ يَنْتِقِـرْ وفي رواية: "قدمي" بالإفراد. والأمر المُبرُّ: الذي يطلب به البِرُّ والتقرب إلى الله. والجفلى: الجماعة من الناس. يقال: دعاهم جميعا إلى الطعام من غير تخصيص. الآدب: هو الذي يقيم مأدبة طعام – وينتقر: يختار فريقا ويخصهم بالدعوة.
[2662]:- ذكر عشر قراءات باعتبار قراءتي الأعمش.
[2663]:- من الآية (186) من سورة الأعراف.
[2664]:- قال الزمخشري في "الكشاف": «وقرأ الحسن رضي الله عنه بالياء والنصب بإضمار أن، ومعناه إن يخفوها يكن خيرا لكم وأن يكفر عنهم» ا هـ. الكشاف 1-397 وقال أبو (ح): «ومن نصب الراء فبإضمار (أن)، وهو عطف على مصدر متوهم، ونظيره قراءة من قرأ: [يحاسبكم به الله فيغفر] بنصب الراء، إلا أنه هنا يعسر تقدير المصدر المتوهم من قوله [فهو خير لكم] فيحتاج إلى تكلف، بخلاف قوله: [يحاسبكم] فإنه يُقدَّر: تقع محاسبة فغفران». – ثم نقل كلام الزمخشري، وعقب عليه بما يفيد أن تقدير كلامه: «يكن خيرا لكم وتكفيرا» فيكون في موضع نصب، والذي تقرر عند البصريين، بأن مثل هذا المصدر المنسبك من أن المضمرة مع الفعل المنصوب بها هو مرفوع معطوف على مصدر متوهم مرفوع تقديره من المعنى، وضرب لذلك أمثلة فارجع إليه إن شئت. البحر المحيط 2-325و326.
[2665]:- قد يقال: إن الرفع أبلغ وأعم، لأن التكفير المتعلق بما قبله مترتب معنى على بذل الصدقات أُبديت أو أخُفيت، وإن كان الإخفاء خيرا، وأما على الجزم فإنه يكون خاصا بإخفاء الصدقة، ولا يمكن أن يقال: إن الذي يبدي صدقاته لا يكفر من سيئاته، على أن الرفع هو اختيار الخليل وسيبويه.
[2666]:- ويكون ذلك دالا على أن المراد بالسيئات الصغائر. والله أعلم.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إن تبدوا الصدقات}: إن تعلنوها، {فنعما هي وإن تخفوها}، يعني تسروها، {وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} من العلانية، وأعظم أجرا، {ويكفر عنكم} بصدقات السر والعلانية، {من سيئاتكم}: من ذنوبكم، يعني ذنوبكم أجمع، وكلٌّ مقبولٌ: السرُّ والعلانيةُ...

{والله بما تعملون خبير}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"إنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ": إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه، "فَنِعِمّا هِيَ": فنعم الشيء هي. "وَإِنْ تُخْفُوها": وإن تستروها فلم تلعنوها "وتؤتوها الفُقَرَاءَ": وتعطوها الفقراء في السرّ، "فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ": فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها. وذلك في صدقة التطوّع. وقال آخرون: إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم. قالوا: وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوّع فإخفاؤه أفضل من علانيته.

ولم يخصص الله من قوله: "إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ "فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية حكم سائر الفرائض غيرها.

"وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ":

اختلف القراء في قراءة ذلك. فرُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأه: «وتُكَفّرُ عَنْكُمْ» بالتاء. ومن قرأه كذلك. فإنه يعني به: وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم. وقرأ آخرون: "وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ "بالياء بمعنى: ويكفر الله عنكم بصدقاتكم على ما ذكر في الآية من سيئاتكم. وقرأ ذلك بعد عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة والبصرة: «وَنُكَفّرْ عَنْكُمْ» بالنون وجزم الحرف، يعني: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم، بمعنى: مجازاة الله عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها.

وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ: «وَنُكَفّرْ عَنْكُمْ» بالنون وجزم الحرف، على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوّع ابتغاء وجهه من صدقته بتكفير سيئاته.

فإن قال قائل: وما وجه دخول «مِنْ» في قوله: "وَنُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ"؟ قيل: وجه دخولها في ذلك بمعنى: ونكفر عنكم من سيئاتكم ما نشاء تكفيره منها دون جميعها، ليكون العباد على وجل من الله فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدّق فيجترئوا على حدوده ومعاصيه.

وقال بعض نحويي البصرة: معنى «مِنْ» الإسقاط من هذا الموضع، ويتأوّل معنى ذلك: ونكفر عنكم سيئاتكم.

"وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ": والله بما تعملون في صدقاتكم من إخفائها وإعلان وإسرار بها وإجهار، وفي غير ذلك من أعمالكم. خَبِيرٌ يعني بذلك ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه شيء من ذلك، فهو بجميعه محيط، ولكله محص على أهله حتى يوفيهم ثواب جميعه وجزاء قليله وكثيره.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

161- {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} وذلك حيث يقتضي الحال الإبداء إما للاقتداء، وإما لأن السائل إنما سأل عن ملأ من الناس، فلا ينبغي أن يترك التصدق خيفة الرياء في الإظهار، بل ينبغي أن يتصدق ويحفظ سره عن الرياء بقدر الإمكان، وهذا لأن في الإظهار محذورا ثالثا سوى المن والرياء، وهو هتك ستر الفقير، فإنه ربما يتأذى بأن يرى في صورة المحتاج فمن أظهر السؤال فهو الذي هتك ستر نفسه [نفسه: 1/255]...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

وَالتَّحْقِيقُ... أَنَّ الْحَالَ فِي الصَّدَقَةِ تَخْتَلِفُ بِحَالِ الْمُعْطِي لَهَا، وَالْمُعْطَى إيَّاهَا، وَالنَّاسِ الشَّاهِدِينَ لَهَا.

أَمَّا الْمُعْطِي فَلَهُ فَائِدَةُ إظْهَارِ السُّنَّةِ وَثَوَابِ الْقُدْرَةِ، وَآفَتُهَا الرِّيَاءُ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى.

وَأَمَّا الْمُعْطَى إيَّاهَا فَإِنَّ السِّرَّ أَسْلَمُ لَهُ مِن احْتِقَارِ النَّاسِ لَهُ أَوْ نِسْبَتِهِ إلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الْغِنَى عَنْهَا وَتَرَكَ التَّعَفُّفَ.

وَأَمَّا حَالُ النَّاسِ فَالسِّرُّ عَنْهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ لَهُمْ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا طَعَنُوا عَلَى الْمُعْطِي لَهَا بِالرِّيَاءِ، وَعَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ وَلَهُمْ فِيهَا تَحْرِيكُ الْقُلُوبِ إلَى الصَّدَقَةِ، لَكِنَّ هَذَا الْيَوْمَ قَلِيلٌ.

أحكام القرآن لابن الفرس 595 هـ :

وقد كره ربيعة إظهار جميع أعمال البر، واحتج بالآية المتقدمة، وأجاز مالك ذلك دون كراهة إذا كان أوله لله وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأنه لا يستطاع التخلص منه. وقد قال تعالى:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي" فأثنى على إظهارها، وإن كان كتمانها خيرا أو إذا أثنى الله على شيء لم يكره، ومن هذا صلاة النافلة في رمضان، فقال مالك رحمه الله: قيام الرجل بها في بيته فرادى أفضل، خلافا للشافعي في قوله إن القيام بها في المساجد أفضل. وفي الآية حجة لمالك رحمه الله لأن الله تعالى إنما نبه بالصدقات على جميع أعمال البر فإذا كان عمل البر السر في الصدقة أفضل فهو في صلاة النافلة أفضل أيضا. وتضمنت الآية أن الصدقة حق للفقير أيضا...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أما قوله تعالى: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: التكفير في اللغة التغطية والستر، ورجل مكفر في السلاح مغطى فيه، ومنه يقال: كفر عن يمينه، أي ستر ذنب الحنث بما بذل من الصدقة، والكفارة ستارة لما حصل من الذنب...

...

...

المسألة الثالثة: في دخول {من} في قوله {من سيئاتكم} وجوه؛ الأولى منها والأصح أن المراد بها : ونكفر عنكم بعض سيئاتكم لأن السيئات كلها لا تكفر بذلك، وإنما يكفر بعضها ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغواء بارتكابها إذا علم أنها مكفرة، بل الواجب أن يكون العبد في كل أحواله بين الخوف والرجاء وذلك إنما يكون مع الإبهام...

{والله بما تعملون خبير} وهو إشارة إلى تفضيل صدقة السر على العلانية، والمعنى أن الله عالم بالسر والعلانية وأنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاته، فقد حصل مقصودكم في السر، فما معنى الإبداء، فكأنهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء ليكون أبعد من الرياء...

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

ثم أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه في صدقاتهم، وأنه يثيبهم عليها، إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصة لوجهه: فقال: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي}. أي فنعم شيء هي، وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية، فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه، فيمنعه ذلك من إخراجها، وينتظر بها الإخفاء، فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه، أو بينه وبين إخراجها، فلا يؤخر صدقته العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر، وهذه كانت حال الصحابة رضوان الله عليهم.

ثم قال: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها. وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل: وإن تخفوها فهو خير لكم، فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش، وبناء قنطرة، وإجراء نهر، أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد. الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس، وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى، وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته. وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة، مع تضمنه الإخلاص، وعدم المراءاة وطلبهم المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيرا من إظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم صدقة السر وأثنى على فاعلها، وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق، وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته، ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم، فإنه بما تعملون خبير.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان حال الإنفاق المحثوث عليه يختلف بالسر والجهر فكان مما يسأل عنه قال سبحانه وتعالى حاثاً على الصدقة في كلتا الحالتين مع ترجيح الإسرار لما فيه من البعد عن الرياء: {إن تبدوا الصدقات} أي المتطوع بها، قال الحرالي: وهي من أدنى النفقة ولذلك لا تحل لمحمد ولا لآل محمد لأنها طهرة وغسول يعافها أهل الرتبة العلية والاصطفاء، وقال: والهدية أجل حق المال لأنها لمن فوق رتبة المهدي والهبة لأنها للمثل {فنعماً هي} فجمع لها الأمداح المبهمة لأن نعم كلمة مبالغة تجمع المدح كله وما كلمة مبهمة تجمع الممدوح فتطابقتا في الإبهام؛

وقال أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح: إن نِعْم،، وبِئْس للمبالغة فالمراد بهما التناهي في المدح والذم ولاختصاصهما بهذا المعنى منعتا التصرف، واقتصر بهما على المعنى لأن المدح والذم إنما يكونان متعلقين بما ثبت واستقر، لا يمدح الإنسان بما لم يقع منه...

{وإن تخفوها} حتى لا يعلم بها إلا من فعلتموها له. ولما كان المقصود بها سد الخلة قال: {وتؤتوها الفقراء فهو} أي فذلك الإخفاء والقصد للمحتاج {خير لكم} لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات...

{والله} أي الذي له كل كمال {بما تعملون} أي من ذلك وغيره {خبير} فلم يدع حاجة أصلاً إلى الإعلان فعليكم بالإخفاء فإنه أقرب إلى صلاح الدين والدنيا فأخلصوا فيه وقروا عيناً بالجزاء عليه...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذا حكم آخر من أحكام الصدقات يشعر بالحاجة إليه المخلصون الذين يتحامون الرياء والفخر في الإنفاق. وما كل مظهر للعمل الصالح مرائيا به ولكن كل مخف له بعيد عن الرياء. ولذلك قال تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} أي فنعم شيئا إبداؤها. وأصلها نعم ما هي...

أقول: فإذا انقلبت الحال فصار المؤدي للفريضة نادرا لا يكاد يعرف فإذا عرف أشير إليه بالبنان فهل يصير الأفضل له إخفاؤها؟ الظاهر أن الإظهار في هذه الحالة يكون آكد لأن ظهور الإسلام وقوته بإظهار شعائره وفرائضه ولمكان القدوة... بل قال بعض العلماء إن الإظهار أفضل لمن يرجو اقتداء الناس به في صدقته وإن كانت تطوعا، لأن نفعها حينئذ يكون متعديا، وهو أفضل من النفع القاصر بلا نزاع. فعلى هذا تكون الخيرية في الآية خاصة بصدقتين متساويتين في الفائدة إحداهما خفية والأخرى جلية. فلا شك أن الخفية تكون حينئذ أفضل. ولك أن تقول: إن الخيرية فيها عامة إلا أنها مقيدة بقيد الحيثية كما يقولون أي إن كل صدقة خفية خير من كل صدقة جلية، من حيث هي ستر لحال الفقير وتكريم له ومجنبة لنزغات الرياء.

ولا يلزم من ذلك أن تكون خيرا من كل جهة. فإذا وجد في الجلية فائدة ليست في الخفية كالاقتداء تكون خيرا من هذه الجهة أو الحيثية. ولك أن توازن بعد ذلك بين الفضيلتين المختلفتي الجهة أيتهما أرجح وذلك يختلف باختلاف حال المعطي والمعطي، والقدوة. فرب معطي لا يقتدي به أحد ومعطي يقتدي به الواحد والاثنان، ومعطي يتبعه الجماهير، ورب معطى إليه يرى من العار أن يأخذ من كل أحد ويفضل أن يعطيه زيد وحده في السر ولا يحب أن يأخذ من غيره ولو في السر... ولا يبعد عن هدى الآية من يقول إن الإنفاق في المصالح العامة كإنشاء المدارس للتربية الملية والتعليم النافع، وإنشاء المستشفيات والدعوة إلى الدين والجهاد ونحو ذلك يشبه إيتاء الزكاة، فلا ينبغي إخفاؤه وإن أخفى المنفق اسمه، وأن تفضيل الإخفاء خاص بالصدقة على الفقراء كما هو صريح قوله {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء} [البقرة: 271] الخ ولم يقل: وإن تخفوها وتجعلوها في سبيل الله فهو خير لكم: وذلك أن الصدقة على الفقير سد لخلة، فلا يحتاج فيها إلى المباراة في الاستكثار كما يحتاج في إقامة المصالح العامة، ثم إن فيها من ستر حاله وحفظ كرامته ما لا يجيء مثله في المصالح.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

والمخلص في صدقته لا يعسر عليه حين الصدقة في المصالح العامة- أن يجمع بين إخفاء الصدقة الذي يسلم به من منازعة الرياء، وبين إبدائها الذي يكون مدعاة للأسوة والاقتداء، بأن يرسل حوالة مالية لجمعية خيرية ولا يذكر لها اسمه أو يذكره لرئيسها أو أمين صندوقها فحسب، وقد جرت عادة الجمعيات أن تشيد بمثل هذه الصدقة بلسان أعضائها أو بلسان الجرائد والمجلات ونحوها، وذلك أوسع طرق الشهرة وأبعدها مدى في عصرنا...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

{ويكفر عنكم من سيئاتكم}.. وتستجيش في قلوبهم التقوى والتحرج من جانب، والطمأنينة والراحة من جانب آخر، وتصلها بالله في النية والعمل في جميع الأحوال: {والله بما تعملون خبير}..

ولا بد أن نلحظ طول التوجيه إلى الإنفاق؛ وتنوع أساليب الترغيب والترهيب بصدده؛ لندرك أمرين:

الأول: بصر الإسلام بطبيعة النفس البشرية وما يخالجها من الشح بالمال، وحاجتها إلى التحريك المستمر والاستجاشة الدائبة لتستعلي على هذا الحرص وتنطلق من هذا الشح، وترتفع إلى المستوى الكريم الذي يريده الله للناس.

والثاني: ما كان يواجهه القرآن من هذه الطبيعة في البيئة العربية التي اشتهرت شهرة عامة بالسخاء والكرم.. ولكنه كان سخاء وكرما يقصد به الذكر والصيت وثناء الناس وتناقل أخباره في المضارب والخيام! ولم يكن أمرا ميسورا أن يعلمهم الإسلام أن يتصدقوا دون انتظار لهذا كله، متجردين من هذا كله، متجهين لله وحده دون الناس. وكان الأمر في حاجة إلى التربية الطويلة، والجهد الكثير، والهتاف المستمر بالتسامي والتجرد والخلاص!.. وقد كان...

.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

التعبير في نفقة السر بقوله تعالى: {وتؤتوها الفقراء} فيه إشارة إلى ثلاثة أمور:

أولها: أن الصدقة قسمان: قسم يعطى إلى الحكام، وهو الصدقات المفروضة التي قدرها الشارع، فهذه يجمعها أولو الأمر ومن ينوبون عنهم من ولاة وعمال، أو جماعات يختارونها لذلك، وهذه تكون معلنة بلا ريب.

والقسم الثاني يعطى الفقراء مباشرة وهو الصدقات غير المفروضة، والصدقات المفروضة غير المقدرة التي تكون على حسب حال الشخص، كمن يرى شخصا في مخمصة وجوع، ويخشى عليه من الموت فإن الصدقة تكون فرضا على من يعلم حاله، وهذه الصدقات التي تعطى الفقراء مباشرة يكون السر فيها أولى، بل أكاد أقول إنه يكون لازما؛ لأن الإعلان أذى، وقد قرر المولى العلي القدير أن الأذى يبطل الصدقة في قوله تعالى: [يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى... 264] (البقرة).

الأمر الثاني الذي يفيده التعبير بقوله تعالى: [وتؤتوها الفقراء]: الإشارة إلى وجوب تحري صفة الفقر فيمن يعطى، فلا يعطي إلا ذا حاجة، ولا يكون من الصدقات ما يعطى لغير الفقراء؛ لأنه يكون مروءة أو جودا ولا يكون صدقة يبتغي بها ما عند الله، إذ يبتغي بها ما عند الناس، وإن ذلك وإن كان من نظام الدنيا ليس من الصدقة في شيء.

الأمر الثالث: أن الإعطاء في هذه الصدقات بوصف الفقر، لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم، ولا بر ولا فاجر؛ فإذا كان غير المسلم في حال مخمصة ولا يعلم حاله إلا مسلم فرض عليه أن يدفع عنه مخمصته؛ فإن ذلك من الرحمة المفروضة لكل إنسان، ولذا ورد في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"في كل كبد رطبة أجر" وفي رواية لغيرهما "في كل كبد حرّى أجر "فهذا يدل على أن الرحمة بكل الأحياء فيها أجر، فكيف بالرحمة بالإنسان...

{والله بما تعملون خبير} ختم سبحانه الآية الكريمة بذلك الختام السامي، والمعنى فيه أن الله ذا الجلال والإكرام المعبود بحق، الذي انفرد بالألوهية خبير، أي عليم علما دقيقا صادقا بما تعملون أيها المؤمنون. فهذه الجملة السامية تشعر المؤمن برقابة الله تعالى على أعماله، وعلى بواعث هذه الأعمال، وعلى القلوب التي تنبعث منها النيات والمقاصد، عليم سبحانه بكل ذلك؛ فإذا أحس العبد برقابة الله القوي القادر بهذا العلم السامي نقى قلبه من كل شوائب الرياء في صدقاته كلها، جهرها وسرها، خافيها وظاهرها. ثم هذه الجملة كما تربي في نفس المؤمن المهابة من الله، والشعور بمراقبته تتضمن وعدا ووعيدا؛ لأنه إذا كان الله سبحانه وتعالى عليما علما دقيقا بكل ما يعمل العبد من خير وشر، فإنه يكافئ العبد بما ينتج فعله، إن خيرا فالثواب والنعيم المقيم، وإن شرا فالعذاب الأليم...