74- إن المنافقين يحلفون أمامك - أيها الرسول - باللَّه أنهم ما قالوا منكرا مما بلغك عنهم ، وهم كاذبون في الإنكار ، حانثون في اليمين ، وإنهم قد قالوا كلمة الكفر ، وظهر كفرهم بعد أن كان باطنا ، وما كان سبب نقمتهم عليك إلا بطرا بالنعمة ، بعد أن أغناهم اللَّه ورسوله بما حصلوا عليه من الغنائم التي شاركوا فيها المسلمين ، فإن يرجعوا إلى اللَّه بترك النفاق والندم على ما كان منهم يقبل اللَّه توبتهم ويكون ذلك خيراً لهم ، وإن يعرضوا عن الإيمان يعذبهم اللَّه في الدنيا بمختلف ألوان البلاء ، وفي الآخرة بنار جهنم ، وليس لهم في الأرض من يُدافع عنهم أو يشفع لهم ، أو ينصرهم .
ثم بين - سبحانه - ما كان عليه المنافقون من كذب وفجور ، ومن خيانة وغدر ، وفتح أمامهم باب التوبة ، وأنذرهم بالعذاب الأليم إذا ما استمروا في نفاقهم فقال - سبحانه - : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ . . . } .
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما رواه ابن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال : " نزلت هذه الآية : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } . الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت . أقبل هو ابن امرأته مصعب من قباء . فال الجلاس : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها ! !
فقال مصعب : أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قلت : قال مصعب : فأتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - وخشيت أن ينزل في القرآن أو تصيبنى قارعة . . فقلت يا رسول الله : أقبلت أنا والجلاس من قباء . فقال كذا وكذا ، ولولا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبنى قارعة ما أخبرتك .
قال مصعب : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجلاس فقال له : أقلت الذي قال مصعب ؟ فحلف الجلاس بأنه ما قال ذلك . فأنزل الله الآية " .
وأخرج ابن اسحاق وابن أبى حاتم عن كعب بن مالك قال : لما نزل القرآن وفيه ذكر المنافقين قال الجلاس بن سويد : والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير . فسمعه عمير بن عسد فقال : والله لا جلاس إنك لأحب الناس إلى . وأحسنهم عندى أثراً . ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ، ولئن سكت عنها هلكت ، ولإِحداهما أشد عن الأخرى .
فمشى عمير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - الجلاس عما قاله عمير ، فحلف بالله ما قال ذلك ، وزعم أن عميرا كذب عليه فنزلت هذه الآية .
وقال الإِمام أحمد : " حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبى الطفيل . قال : لما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك أمر مناديه فنادى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ طريق العقبة - وهو مكان مرتفع ضيق - فلا يأخذها أحد .
قال : فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقود ركابه حذيفة ويسوقه عمار ، إذا أقيل رهط ملثمون على الرواحل ، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة : " قد ، قد " . أى حسبك حسبك . حتى هبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجع عمار .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا عمار " هل عرفت القوم " ؟ فقال : لقد عرفت عام الرواحل والقوم متلثمون . قال : " هل تدرى ما أرادوا " ؟ قال : الله ورسوله اعلم . قال : " أرادوا أن ينفورا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - راحلته فيطرحوه " " .
هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية وهى تكشف عن كذب المنافقين وغدرهم .
وقوله . سبحانه : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ . . . } استئناف مسوق لبيان جانب مما صدر عنهم من جرائم تستدعى جهادهم والإِغلاظ عليهم .
أى : يحلف هؤلاء المنافقون بالله كذاب وزورا أنهم ما قالوا هذا القول القبيح الذي بلغك عنهم يا محمد .
والحق أنهم قد قالوا " كلمة الكفر " وهى تشمل كل ما نطقوا به من اقوال يقصدون بها إيذاءه - صلى الله عليه وسلم - ، كقولهم : " هو أذن " وقولهم . " لئن كان ما جاء به حقا فنحن أشر من حمرنا . . " وغير ذلك من الكلمات القبيحة التي نطقوا بها .
وأنهم قد { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } أى : أظهروا الكفر بعد إظهاره الإِسلام .
وأنهم قد { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } أى : حاولوا إلحاق الأذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم لم يستطيعوا ذلك ، لأن الله - تعالى - عصمة من شرورهم .
وقوله : { وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } توبيخ لهم على جحودهم وكنودهم ومقابتلهم الحسنة بالسيئة .
ومعنى : نقموا : كرهوا وعابوا وأنكروا ، يقال نقم منه الشئ إذا أنكره ، وكرهه وعابه ، وكذا إذا عاقبه عليه .
أى : وما أنكر هؤلاء المنافون من أمر الإِسلام شيئا ، إلا أنهم بسببه أغناهم الله ورسوله من فضله بالغنائم وغيرها من وجوه الخيرات التي كانوا لا يجدونها قبل حللو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بنيهم .
وهذه الجملة الكريمة جاءت على الأسلوب الذي يسميه علماء البلاغة : تأكيد المدح بما يشه الذم .
قال الجمل : كأنه قال - سبحانه - ليس له - صلى الله عليه وسلم - صفة تكره وتعاب ، سوى أنه ترتب على قدومه إليهم وهجرته عندهم ، إغناء الله إياهم بعد شدة الحاجة ، وهذه ليست صفة ذم - بل هي صفة مدح - فحينذ ليس له صفة تذم أصلا .
وشبيه بهذا الاسلوب قول الشاعر يمدح قوما بالشجاعة والإِقدام
ولا عيب فيم غير أن سيوفهم . . . بهن فلول من قراع الكتاتب
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بترغيبهم وترهيبهم فقال : { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا والآخرة . . . } .
أى : فإن يتب هؤلاء المنافقون عن نفاقهم وشقاقهم وقبائح أقوالهم وأفعالهم ، يكن المتاب خيرا لهم في دنياهم وآخرتهم . " وإن يتلوا " ويعرضوا علن الحق : ويتسمروا في ضلالهم { يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا والآخرة } .
أما عذاب الدنيا فمن مظاهره : حذرهم وخوفهم من أن يطلع المؤمنين على أسرارهم وجبنهم عن مجابهة الحقائق ، وشعورهم بالضعف أمام قوة المسلمين ، وإحساسهم بالعزلة والمقاطعة من جانب المؤمنين ومعاقبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياهم بالعقوبة المناسبة لجرمهم .
وأما عذاب الآخرة ، فهو أشد وأبقى ، بسبب إصرارهم على النفاق ، وإعراضهم عن دعوة الحق .
وقوله : { وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } تذييل قصد به تيئيسهم من كل معين أو ناصر .
أى : أن هؤلاء المنافقين ليس لهم أحد في الأرض يدفع عنهم عذاب الله ، أو يحميهم من عقابه ، لأن عقابه الله لن يدفعه دافع إلا هو فعليهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، وأن يتوبوا إلى ربهم قبل أن يحل بهم عذابه .
( يحلفون باللّه ما قالوا . ولقد قالوا كلمة الكفر ، وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ) . .
والنص في عمومه يستعرض حالة المنافقين في كثير من مواقفهم ، ويشير إلى ما أرادوه مراراً من الشر للرسول - [ ص ] - وللمسلمين . . وهناك روايات تحدد حادثة خاصة لسبب نزول الآية :
قال قتادة : نزلت في عبد اللّه بن أبي . وذلك أنه اقتتل رجلان ، جهني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد اللّه للأنصاري : ألا تنصرون أخاكم ? واللّه ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي - [ ص ] - فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف باللّه ما قاله ، فأنزل اللّه فيه هذه الآية .
ويروي الإمام أبو جعفر بن جرير بإسناده عن ابن عباس قال : كان رسول اللّه - [ ص ] - جالساً تحت ظل شجرة ، فقال : " إنه سيأتيكم إنسان ، فينظر إليكم بعين الشيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه " . فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول اللّه - [ ص ] - فقال : " علام تشتمني أنت وأصحابك ? " فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا باللّه ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل اللّه عز وجل : يحلفون باللّه ما قالوا . . . الآية .
وروي عن عروة بن الزبير وغيره ما مؤداه : أنها نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت . كان له ربيب من امرأته اسمه عمير بن سعد ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها . فقال عمير : واللّه يا جلاس : إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم على أن يصله شيء يكره ؛ ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحني ، ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون عَلّي من الأخرى . فأخبر بها رسول اللّه - [ ص ] - فأنكرها وحلف باللّه ما قالها ، فأنزل اللّه الآيات . فقال الرجل قد قلته ، وقد عرض اللّه عليّ التوبة ، فأنا أتوب ، فقبل منه ذلك . .
ولكن هذه الروايات لا تنسجم مع عبارة : ( وهموا بما لم ينالوا )وهذه تضافر الروايات على أن المعنيّ بها ما أراده جماعة من المنافقين في أثناء العودة من الغزوة ، من قتل رسول اللّه - [ ص ] - غيلة وهو عائد من تبوك . فنختار إحداها :
قال الإمام أحمد - رحمه اللّه - حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد اللّه بن جميع عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول اللّه - [ ص ] - من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى : إن رسول اللّه - [ ص ] - أخذ العقبة ، فلا يأخذها أحد . فبينما رسول اللّه - [ ص ] - يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل ، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول اللّه - [ ص ] - فأقبل عمار - رضي اللّه عنه - يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول اللّه - [ ص ] - لحذيفة " قد . قد " حتى هبط رسول اللّه - [ ص ] - ، ورجع عمار . فقال يا عمار : " هل عرفت القوم ? " فقال : لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون . قال : " هل تدري ما أرادوا ? " قال : اللّه ورسوله أعلم . قال : " أرادوا أن ينفروا برسول اللّه - [ ص ] - راحلته فيطرحوه " قال : فسأل عمار رجلا من أصحاب رسول الله [ ص ] فقال : نشدتك باللّه ، كم تعلم كان أصحاب العقبة ? قال : أربعة عشر رجلاً . فقال : إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر . قال : فعد رسول اللّه - [ ص ] - منهم ثلاثة قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله [ ص ] وما علمنا ما أراد القوم . فقال عمار : أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب للّه ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
هذه الحادثة تكشف عن دخيلة القوم . وسواء كانت هي أو شيء مثلها هو الذي تعنيه الآية ، فإنه ليبدو عجيبا أن تنطوي صدور القوم على مثل هذه الخيانة . والنص يعجب هنا منهم :
( وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله ) . .
فما من سيئة قدمها الإسلام لهم ينقمون عليه هذه النقمة من أجلها . . اللهم إلا أن يكون الغنى الذي غمرهم بعد الإسلام ، والرخاء الذي أصابهم بسببه هو ما ينقمون !
ثم يعقب على هذا التعجيب من أمرهم ، بعد كشف خبيئاتهم بالحكم الفاصل :
( فإن يتوبوا يك خيراً لهم ، وإن يتولوا يعذبهم اللّه عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) . .
بعد هذا كله يظل باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه . فمن شاء لنفسه الخير فليدلف إلى الباب المفتوح . ومن أراد أن يمضي في طريقه الأعوج ، فالعاقبة كذلك معروفة : العذاب الأليم في الدنيا والآخرة . وانعدام الناصر والمعين في هذه الأرض . . ولمن شاء أن يختار ، وهو وحده الملوم :
( فإن يتوبوا يك خيراً لهم ، وإن يتولوا يعذبهم اللّه عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) . .
وقوله : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي ، وذلك أنه اقتتل رجلان : جُهَني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار : ألا تنصروا أخاكم ؟ والله{[13649]} ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : " سمِّن كلبك يأكلك " ، وقال : { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ } [ المنافقون : 8 ] فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية{[13650]} وروى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن عمه موسى بن عقبة قال : فحدثنا عبد الله بن الفضل ، أنه سمع أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، يقول : حزنت على من أصيب بالحرَّة من قومي ، فكتب إلي زيد بن أرقم ، وبلغه شدة حزني ، يذكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم ، اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار " - وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار - قال ابن الفضل : فسأل أنسا بعض من كان عنده عن زيد بن أرقم ، فقال : هو الذي يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوفى الله له بأذنه " . وذاك حين سمع رجلا من المنافقين يقول - ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب - : لئن كان هذا صادقا فنحن{[13651]} شر من الحمير ، فقال زيد بن أرقم : فهو والله صادق ، ولأنت شر من الحمار . ثم رُفع ذلك إلى رسول الله ، فجحده القائل ، فأنزل الله هذه الآية تصديقا لزيد - يعني قوله : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا } الآية .
رواه البخاري في صحيحه ، عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة . إلى قوله : " هذا الذي أوفى الله له بأذنه " {[13652]} ولعل ما بعده من قول موسى بن عقبة ، وقد رواه محمد بن فُلَيح ، عن موسى بن عقبة بإسناده ثم قال : قال ابن شهاب . فذكر ما بعده عن موسى ، عن ابن شهاب .
والمشهور في هذه القصة أنها كانت في غزوة بني المصطلق ، فلعل الراوي وَهَم في ذكر الآية ، وأراد أن يذكر غيرها فذكرها ، والله أعلم .
[ حاشية ]{[13653]} قال " الأموي " في مغازيه : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن جده قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذني قومي فقالوا : إنك امرؤ شاعر ، فإن شئت أن تعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض العلة ، ثم يكون ذنبا تستغفر الله منه . وذكر الحديث بطوله ، إلى أن قال : وكان ممن تخلف من المنافقين ، ونزل فيه القرآن منهم ، ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : الجُلاس بن سُوَيد بن الصامت ، وكان على أم عُمَير بن سعد ، وكان عمير في حجره ، فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في المنافقين ، قال الجلاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير [ قال ]{[13654]} فسمعها عمير بن سعد فقال : والله - يا جلاس - إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم علي أن يصله{[13655]} شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون علي من الأخرى . فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ما قال الجلاس . فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد ، ولقد كذب علي . فأنزل الله ، عز وجل ، فيه : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } إلى آخر الآية . فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها . فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ، ونزع فأحسن النزوع{[13656]} هكذا جاء هذا " مدرجا " في الحديث متصلا به ، وكأنه والله أعلم من كلام ابن إسحاق نفسه ، لا من كلام كعب بن مالك .
وقال عروة بن الزبير : نزلت هذه الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت ، أقبل هو وابن امرأته مُصعب من قُبَاء ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حُمُرنا هذه التي نحن عليها . فقال مصعب : أما والله - يا عدو الله - لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وخفت أن ينزل في القرآن{[13657]} أو تصيبني قارعة ، أو أن أخلط{[13658]} بخطيئته ، فقلت : يا رسول الله ، أقبلت أنا والجلاس من قباء ، فقال كذا وكذا ، ولولا مخافة أن أخلط{[13659]} بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك . قال : فدعا الجلاس فقال : " يا جلاس ، أقلت الذي قاله مصعب ؟ " فحلف ، فأنزل الله : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } الآية .
وقال محمد بن إسحاق : كان الذي قال تلك المقالة - فيما بلغني - الجلاس بن سويد بن الصامت ، فرفعها عليه رجل كان في حجره ، يقال له : عمير بن سعيد ، فأنكرها ، فحلف بالله ما قالها : فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته ، فيما بلغني .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال : " إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني الشيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه " . فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ " فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل{[13660]} الله ، عز وجل : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا } الآية{[13661]} وذلك بَيِّنٌ فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب " دلائل النبوة " من حديث محمد بن إسحاق ، عن الأعمش عن عمرو بن مُرة ، عن [ أبي ]{[13662]} البختري ، عن حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه ، قال : كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به ، وعمار يسوق الناقة - أو أنا : أسوقه ، وعمار يقوده - حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها ، قال : فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بهم ]{[13663]} فصرخ بهم فولوا مدبرين ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل عرفتم القوم ؟ قلنا : لا يا رسول الله ، قد كانوا متلثمين ، ولكنا قد عرفنا الركاب . قال : " هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، وهل تدرون{[13664]} ما أرادوا ؟ " قلنا : لا . قال : " أرادوا أن يزحموا{[13665]} رسول الله في العقبة ، فيلقوه منها " . قلنا : يا رسول الله ، أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ قال : " لا أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم حتى [ إذا ]{[13666]} أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم " ، ثم قال : " اللهم ارمهم بالدبيلة " . قلنا : يا رسول الله ، وما الدبيلة ؟ قال : " شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك " {[13667]} وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يزيد ، أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، أمر مناديا فنادى : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد . فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار ، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله ، وأقبل عمار ، رضي الله عنه ، يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله{[13668]} صلى الله عليه وسلم لحذيفة : " قد ، قد " حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ فلما هبط ]{[13669]} نزل ورجع عمار ، فقال : " يا عمار ، هل عرفت القوم ؟ " فقال : قد عرفت عامة الرواحل ، والقوم متلثمون . قال : " هل تدري ما أرادوا ؟ " قال : الله ورسوله أعلم . قال : " أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه " . قال : فسار عمار رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : نشدتك{[13670]} بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة ؟ قال : أربعة عشر . فقال : إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر . قال : فعذر{[13671]} رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله ، وما علمنا ما أراد القوم . فقال عمار : أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد{[13672]} وهكذا روى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عُرْوَة بن الزبير نحو هذا ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي ، وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة ، فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون ، وهم متلثمون ، فأرادوا سلوك العقبة ، فأطلع الله على مرادهم رسول الله{[13673]} صلى الله عليه وسلم ، فأمر حذيفة فرجع إليهم ، فضرب وجوه رواحلهم ، ففزعوا ورجعوا مقبوحين ، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة وعمارا بأسمائهم ، وما كانوا هموا به من الفتك{[13674]} به ، صلوات الله وسلامه عليه ، وأمرهما أن يكتما عليهم{[13675]} وكذلك روى يونس بن بُكَير ، عن ابن إسحاق ، إلا أنه سَمّى جماعة منهم ، فالله أعلم{[13676]} وكذا قد حكي{[13677]} في معجم الطبراني ، قاله البيهقي . ويشهد لهذه القصة بالصحة ، ما رواه مسلم :
حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا أبو أحمد الكوفي ، حدثنا الوليد بن جُمَيع ، حدثنا أبو الطفيل قال : كان [ بين ]{[13678]} رجل من أهل العقبة [ وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله ، كم كان أصحاب العقبة ]{[13679]} قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك . قال : كنا نخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم{[13680]} خمسة عشر ، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، وعذر ثلاثة قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا علمنا بما أراد القوم . وقد كان في حرة فمشى ، فقال : " إن الماء قليل ، فلا يسبقني إليه أحد " ، فوجد قوما قد سبقوه ، فلعنهم{[13681]} يومئذ{[13682]} وما رواه مسلم أيضا ، من حديث قتادة ، عن أبي نَضْرة ، عن قيس بن عباد ، عن عمار بن ياسر قال : أخبرني حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في أصحابي اثنا عشر منافقا ، لا يدخلون الجنة ، ولا يجدون ريحها حتى يلج [ الجمل ]{[13683]} في سم الخياط : ثمانية تكفيكهم الدُّبَيْلة : سراج من نار يظهر بين أكتافه حتى ينجم من صدورهم " {[13684]}
ولهذا كان حذيفة يقال له : " صاحب السر ، الذي لا يعلمه غيره " أي : من تعيين جماعة من المنافقين ، وهم هؤلاء ، قد أطلعه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره ، والله أعلم . وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة ، ثم روى عن علي بن عبد العزيز ، عن الزبير بن بكار أنه قال : هم مُعَتِّب بن قشير ، ووديعة بن ثابت ، وجد بن عبد الله بن نَبْتَل بن الحارث من بني عمرو بن عوف ، والحارث بن يزيد الطائي ، وأوس بن قَيْظِي والحارث بن سُوَيْد ، وسعد بن زرارة{[13685]} وقيس بن فهد ، وسويد وداعس من بني الحبلي ، وقيس بن عمرو بن سهل ، وزيد بن اللصيت ، وسلالة بن الحمام ، وهما من بني قينقاع أظهرا الإسلام{[13686]}
وقوله : { وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي : وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سفارته ، ولو تمت عليهم السعادة لهداهم الله لما جاء به ، كما قال ، عليه السلام{[13687]} للأنصار : " ألم أجدكم ضُلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟ " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن .
وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب كما قال تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] وكما قال ، عليه السلام{[13688]} ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله " .
ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال : { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : وإن يستمروا على طريقهم { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا } أي : بالقتل والهم والغم ، { والآخرة } أي : بالعذاب والنكال والهوان والصغار ، { وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } أي : وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم ، ولا يحصل لهم خيرا ، ولا يدفع عنهم شرا .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوَاْ إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لّهُمْ وَإِن يَتَوَلّوْا يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } .
اختلف أهل التأويل في الذي نزلت فيه هذه الآية ، والقول الذي كان قاله ، الذي أخبر الله عنه أنه يخلف بالله ما قاله . فقال بعضهم : الذي نزلت فيه هذه الآية : الجُلاس بن سويد بن الصامت .
حدثنا به ابن وكيع ، قال : حدثنا معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ قال : نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ، قال : إن كان ما جاء به محمد حقّا ، لنحن أشرّ من الحمير فقال له ابن امرأته : والله يا عدوّ الله ، لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت ، فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعة وأؤاخذ بخطيئتك فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس ، فقال : «يا جلاس أقلت كذا وكذا ؟ » فحلف ما قال ، فأنزل الله تبارك وتعالى : يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ وهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : نزلت هذه الآية : يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ في الجلاس بن سويد بن الصامت ، أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقّا ، لنحن أشرّ من حميرنا هذه التي نحن عليها فقال مصعب : أما والله يا عدوّ الله لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وخشيت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة أو أن أخلط ، قلت : يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء ، فقال كذا وكذا ، ولولا مخافة أن أؤاخذ بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك قال : فدعا الجلاس ، فقال له : «يا جلاسُ أقُلْت الّذِي قالَ مُصْعَبُ ؟ » قال : فحلف ، فأنزل الله تبارك وتعالى : يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ . . . الآية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان الذي قال تلك المقالة فيما بلغني الجلاس بن سويد بن الصامت ، فرفعها عنه رجل كان في حجره يقال له عمير بن سعيد ، فأنكر ، فحلف بالله ما قالها فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته فيما بلغني .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد كَلِمَةَ الكُفْرِ قال أحدهم : لئن كان ما يقول محمد حقّا لنحن شرّ من الحمير فقال له رجل من المؤمنين : إن ما قال لحقّ ولأنت شرّ من حمار قال : فهمّ المنافقون بقتله ، فذلك قوله : وهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظلّ شجرة ، فقال : «إنّهُ سَيَأْتِيكُمْ إنْسانٌ فَيَنْظُرُ إلَيْكُمْ بِعَيْنَي شَيْطَانٍ ، فإذا جاءَ فَلا تُكَلّمُوهُ فلم يلبث أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «عَلاَمَ تَشْتُمُني أنْتَ وأصْحَابُكَ ؟ » فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله : يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا ثم نعتهم جميعا ، إلى آخر الآية .
وقال آخرون : بل نزلت في عبد الله بن أُبيّ ابن سلولَ ، قالوا : والكلمة التي قالها ما :
حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا . . . إلى قوله : مِنْ وَلِيّ وَلا نَصِيرٍ قال : ذكر لنا أن رجلين اقتتلا ، أحدهما من جهينة والاَخر من غفار ، وكانت جهينة حلفاء الأنصار . وظهر الغفاريّ على الجهني ، فقال عبد الله بن أبيّ للأوس : انصروا أخاكم ، فوالله ما مَثَلُنا ومَثَلُ محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك وقال : لَئِنْ رَجعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله تبارك وتعالى : يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ قال : نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلولَ .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنهم يحلفون بالله كذبا على كلمة كفر تكلموا بها أنهم لم يقولوها . وجائز أن يكون ذلك القول ما رُوي عن عروة أن الجلاس قاله ، وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبي ابن سلول . والقول ما ذكره قتادة عنه أنه قال ولا علم لنا بأن ذلك من أيّ ، إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة ويتوصل به إلى يقين العلم به ، وليس مما يُدرك علمه بفطرة العقل ، فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جلّ ثناؤه : يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ .
وأما قوله : وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا فإن أهل التأويل اختلفوا في الذي كان همّ بذلك وما الشيء الذي كان همّ به . فقال بعضهم : هو رجل من المنافقين ، وكان الذي همّ به قَتْلَ ابن امرأته الذي سمع منه ما قال وخشي أن يفشيه عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : همّ المنافق بقتله ، يعني قتل المؤمن الذي قال له أنت شرّ من الحمار . فذلك قوله : وهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد به
وقال آخرون : كان الذي همّ رجلاً من قريش ، والذي همّ به قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا شبل ، عن جابر ، عن مجاهد ، في قوله : وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا قال : رجل من قريش همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له الأسود .
وقال آخرون : الذي همّ عبد الله بن أبيّ ابن سلولَ ، وكان همه الذي لم ينله قوله : لَئِنْ رَجعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ .
وقوله : ومَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ذكر لنا أن المنافق الذي ذكر الله عنه أنه قال كلمة الكفر كان فقيرا ، فأغناه الله بأن قتل له مولى ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته . فلما قال ما قال ، قال الله تعالى : ومَا نَقَمُوا يقول : ما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ وكان الجلاس قتل له مولى له ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته ، فاستغنى ، فذلك قوله : ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ .
قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا في لبني عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدية اثنى عشر مولى لبني عديّ بن كعب ، وفيه أنزلت هذه الآية : ومَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ومَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ قال : كانت لعبد الله بن أبي دية ، فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم له .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، قال : حدثنا عمرو ، قال : سمعت عكرمة : أن مولى لبني عديّ بن كعب قتل رجلاً من الأنصار ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا ، وفيه أنزلت : ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ قال عمرو : لم أسمع هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من عكرمة ، يعني الدية اثني عشر ألفا .
حدثنا صالح بن مسمار ، قال : حدثنا محمد بن سنان العوفي ، قال : حدثنا محمد بن مسلم الطائفي ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الدية اثني عشر ألفا ، فذلك قوله : ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ قال : بأخذ الدية .
وأما قوله : فإنْ يَتُوبُوا يَكَ خَيْرا لَهُمْ يقول تعالى ذكره : فإن يتب هؤلاء القائلون كلمة الكفر من قيلهم الذي قالوه فرجعوا عنه ، يك رجوعهم وتوبتهم من ذلك خيرا لهم من النفاق . وإنْ يَتَوَلّوْا يقول : وإن يدبروا عن التوبة فيأبوها ، ويصرّوا على كفرهم يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَابا ألِيما يقول : يعذّبهم عذابا موجعا في الدنيا ، إما بالقتل ، وإما بعاجل خزي لهم فيها ، ويعذّبهم في الاَخرة بالنار .
وقوله : ومَا لَهُمْ فِي الأرْضِ من وَلِيّ وَلا نَصِيرٍ يقول : وما لهؤلاء المنافقين إن عذّبهم الله في عاجل الدنيا ، من وليّ يواليه على منعه من عقاب الله ، ولا نصير ينصره من الله ، فينقذه من عقابه وقد كانوا أهل عزّ ومنعة بعشائرهم وقومهم يمتنعون بهم ممن أرادهم بسوء ، فأخبر جلّ ثناؤه أن الذين كانوا يمنعونهم ممن أرادهم بسوء من عشائرهم وحلفائهم ، لا يمنعونهم من الله ولا ينصرونهم منه إذ احتاجوا إلى نصرهم . وذُكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية تاب مما كان عليه من النفاق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : فإنْ يَتُوبُوا يكُ خَيْرا لَهُمْ قال : قال الجلاس : قد استثنى الله لي التوبة ، فأنا أتوب فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : فإنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرا لَهُمْ . . . الآية ، فقال الجلاس : يا رسول الله إني أرى الله قد استثنى لي التوبة ، فأنا أتوب فتاب ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه .
وقوله { يحلفون بالله ما قالوا } الآية ، هذه الآية نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ، وذلك كأنه كان يأتي من قباء ومعه ابن امرأته عمير بن سعد فيما قال ابن إسحاق ، وقال عروة اسمه مصعب ، وقال غيره وهما على حمارين .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمى قوماً ممن اتهمهم بالنفاق ، وقال إنهم رجس ، فقال الجلاس للذي كان يسير معه : والله ما هؤلاء الذين سمى محمد إلا كبراؤنا وسادتنا ، ولئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شر من حمرنا هذه فقال له ربيبة أو الرجل الآخر ؟ والله إنه لحق ، وإنك لشر من حمارك ، ثم خشي الرجل من أن يلحقه في دينه درك ، فخرج وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في الجلاس فقرره فحلف بالله ما قال ، فنزلت هذه الآية{[5790]} ، والإشارة ب { كلمة الكفر } إلى قوله : إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمر ، إن التكذيب في قوة هذا الكلام ، قال مجاهد وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله ، ثم لم يفعل عجزاً عن ذلك فإلى هذا هي الإشارة بقوله { وهموا بما لم ينالوا } ، وقال قتادة بن دعامة : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول ، وذلك أن سنان بن وبرة الأنصاري والجهجاه الغفاري كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع ، فثاروا ، فصاح جهجاه بالأنصار وصاح سنان بالمهاجرين ، فثار الناس فهدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا علينا ، ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفه فحلف أنه لم يقل ذلك ، فنزلت الآية مكذبة له{[5791]} ، والإشارة ب { كلمة الكفر } إلى تمثيله : سمن كلبك يأكلك ، قال قتادة والإشارة ب { هموا } إلى قوله لئن رجعنا إلى المدينة ، وقال الحسن هم المنافقون من إظهار الشرك ومكابرة النبي صلى الله عليه وسلم بما لم ينالوا ، وقال تعالى : { بعد إسلامهم } ولم يقل بعد إيمانهم لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم ، وقوله تعالى : { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله } ، معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذ لعبد الله بن أبي ابن سلول دية كانت قد تعطلت له ، ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفاً ، وقيل بل كانت للجلاس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب الخلاف المتقدم فيمن نزلت الآية من أولها ، وتقدم اختلاف القراء في { نقموا } في سورة الأعراف ، وقرأها أبو حيوة وابن أبي عبلة بكسر القاف ، وهي لغة ، وقوله { إلا أن أغناهم الله } استثناء من غير الأول كما قال النابغة :
ولاعيب فيهم غير أن سيوفهم*** بهن فلول من قراع الكتائب{[5792]}
فكأن الكلام وما نقموا إلا ما حقه أن يشكر ، وقال مجاهد في قوله { وهموا بما لم ينالوا } إنها نزلت في قوم من قريش أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يناسب الآية ، وقالت فرقة إن الجلاس هو الذي هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يشبه الآية إلا أنه غير قوي السند ، وحكى الزجّاج أن اثني عشر من المنافقين هموا بذلك فأطلع الله عليهم ، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إغنائهم من حيث كثرت أموالهم من الغنائم ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب في ذلك وعلى هذا الحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار «كنتم عالة فأغناكم الله بي »{[5793]} ، ثم فتح عز وجل لهم باب التوبة رفقاً بهم ولطفاً في قوله { فإن يتوبوا يك خيراً لهم } .
وروي أن الجلاس تاب من النفاق فقال : إن الله قد ترك لي باب التوبة فاعترف وأخلص ، وحسنت توبته ، و «العذاب الأليم » اللاحق بهم في الدنيا هو المقت والخوف والهجنة عند المؤمنين .
{ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله }
لمّا كان معظم ما أخِذ على المنافقين هو كلماتٍ دالّةً على الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من دلائل الكفر وكانوا إذا نُقِل ذلك عنهم تنصّلوا منه بالأيمان الكاذبة ، عُقّبت آية الأمر بجهادهم بالتنبيه على أنّ ما يتنصّلون به تنصلٌ كاذب وأن لا ثِقة بحَلفهم ، وعلى إثبات أنّهم قالوا ما هو صريح في كفرهم . فجملة { يحلفون } مستأنفة استئنافاً بيانياً يثيره الأمر بجهادهم مع مشاهدة ظاهر أحوالهم من التنصّل ممّا نقل عنهم ، إن اعتبر المقصود من الجملة تكذيبهم فِي حلفهم .
وقد تكون الجملة في محلّ التعليل للأمر بالجهاد إن اعتبر المقصود منها قوله : { ولقد قالوا كلمة الكفر } وما بعده ، وأن ذلك إنّما أخَّر للاهتمام بتكذيب أيمانهم ابتداء ، وأتِي بالمقصود في صورة جملة حاليَّة . ومعلوم أنّ القيد هو المقصود من الكلام المقيَّد . ويرجّح هذا أنّ معظم ما في الجملة هو شواهد كفرهم ونقضِهم عهد الإسلام ، إذ لو كان المقصود خصوص تكذيبهم فيما حلفوا لاقتُصر على إثبات مقابله وهو { ولقد قالوا كلمة الكفر } ، ولم يكن لما بعده مزيد اتّصال به .
وأيّاً ما كان فالجملة مستحقّة الفصل دون العطف .
ومفعول ما قالوا محذوف دلّ عليه قوله : { ولقد قالوا كلمة الكفر } .
وأكَّد صدور كلمة الكفر منهم ، في مقابلة تأكيدهم نفي صدورها ، بصيغة القَسم ليكون تكذيب قولهم مساوياً لقولهم في التأكيد .
وكلمةُ الكفر الكلام الدالّ عليه ، وأصل الكلمة اللفظ الواحد الذي يتركّب منه ومن مثله الكلام المفيد ، وتطلق الكلمة على الكلام إذا كان كلاماً جامعاً موجَزاً كما في قوله تعالى : { كلا إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 8 ] وفي الحديث : « أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل »
فكلمة الكفر جنس لكلّ كلام فيه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم كما أطلقت كلمة الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله . فالكلمات الصادرة عنهم على اختلافها ، ما هي إلاّ أفرادٌ من هذا الجنس كما دلّ عليه إسناد القول إلى ضمير جماعةِ المنافقين . فعن قتادة : لا عِلْمَ لنا بأنّ ذلك من أيّ إذ كان لا خبر يوجب الحجّة ونتوصّل به إلى العلم .
وقيل : المراد كلمة صدرت من بعض المنافقين تدلّ على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فعن عروة بن الزبير ، ومجاهد ، وابن إسحاق أنّ الجُلاَسَ بضم الجيم وتخفيف اللام بنَ سُويد بننِ الصامت قال : لئن كان ما يقول محمد حقّاً لنحن أشرّ من حميرنا هذه التي نحن عليها ، فأخبَر عنه ربيبُه النبي فدعاه النبي وسأله عن مقالته ، فحلف بالله ما قال ذلك ، وقيل : بل نزلت في عبد الله بن أُبي بن سَلُول لقوله الذي حكاه الله عنه بقوله : { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَنّ الأعز منها الأذلّ } [ المنافقون : 8 ] فسعى به رجل من المسلمين فأرسل إليه رسول الله فسأله فجعل يحلف بالله ما قال ذلك .
فعلى هذه الروايات يكون إسناد القول إلى ضمير جمعٍ كناية عن إخفاء اسم القائل كما يقال ما بال أقوام يفعلون كذا . وقد فعله واحد ، أو باعتبار قولِ واحدٍ وسماع البقية فجُعلوا مشاركين في التبعة كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً وإنّما قتله واحد من القبيلة ، وعلى فرض صحّة وقوع كلمة من واحد معيّن فذلك لا يقتضي أنّه لم يشاركه فيها غيره لأنّهم كانوا يتآمرون على ما يختلقونه . وكان ما يصدر من واحد منهم يتلقفه جلساؤه وأصحابه ويشاركونه فيه .
وأمّا إسناد الكفر إلى الجمع في قوله : { وكفروا بعد إسلامهم } فكذلك .
ومعنى { بعد إسلامهم } بعد أن أظهروا الإسلام في الصورة ، ولذلك أضيف الإسلام إليهم كما تقدّم في قوله تعالى : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 66 ] .
والهَمّ : نيَّة الفعل سواء فُعل أم لم يفعل .
ونوال الشيء حصوله ، أي همّوا بشيء لم يحصّلوه والذي همّوا به هو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك تواثقَ خمسةَ عشرَ منهم على أن يترصّدوا له في عَقبة بالطريق تحتها واد فإذا اعتلاها ليْلاً يدفعونه عن راحلته إلى الوادي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً وقد أخذَ عَمَّار بن يَاسِر بخطام راحلته يقودها . وكان حذيفة بن اليمان يسوقها فأحس حذيفة بهم فصاح بهم فهربوا .
وجملة : { وما نقموا } عطف على { ولقد قالوا } أي والحال أنّهم ما ينقمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على دخول الإسلامِ المدينةَ شيئاً يدعوهم إلى ما يصنعونه من آثار الكراهية والعداوة .
والنقْم الامتعاض من الشيء واستنكاره وتقدّم في قوله تعالى : { وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا } في سورة الأعراف ( 126 ) .
وقوله : إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } استثناء تهكّمي . وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النابغة :
ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهِنَّ فُلُول من قِراع الكتائب
ونكتته أنّ المتكلّم يظهر كأنّه يبحث عن شيء ينقض حكمَه الخبري ونحوَه فيذكر شيئاً هو من مؤكدات الحكم للإشارة إلى أنّه استقصى فلم يجد ما ينقضه .
وإنّما أغناهم الله ورسوله بما جلبه حلول النبي عليه الصلاة والسلام بينهم من أسباب الرزق بكثرة عمل المهاجرين وبوفرة الغنائم في الغزوات وبالأمْن الذي أدخله الإسلام فيهم إذ جعل المؤمنين إخوة فانتفت الضغائن بينهم والثارات ، وقد كان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء وكانت بينهم حروبٌ تفانَوا فيها قُبيل الهجرة وهي حروب بعاث .
والفضل : الزيادة في البذل والسخاء . و { مِن } ابتدائية . وفي جعل الإغناء من الفضل كنايةٌ عن وفرة الشيء المغنَى به لأنّ ذا الفضلِ يعطي الجَزل .
وعطف الرسول على اسم الجلالة في فعل الإغناء لأنّه السبب الظاهر المباشر .
{ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } .
التفريع على قوله : { جاهد الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ] على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس فلمّا أمر بجهادهم والغِلظة عليهم وتوعّدهم بالمصير إلى النار ، فرّع على ذلك الإخبارَ بأنّ التوبة مفتوحة لهم وأنَّ تدارك أمرهم في مكنتهم ، لأنّ المقصود من الأمر بجهادهم قطع شافة مضرّتهم أو أن يصلح حالهم .
والتوبة هي إخلاصهم الأيمانَ . والضمير يعود إلى الكفّار والمنافقين ، والضمير في { يك } عائد إلى مصدر { يتوبوا } وهو التوبُ .
والتولّي : الإعراض والمراد به الإعراض عن التوبة . والعذاب في الدنيا عذاب الجهاد والأسر ، وفي الآخرة عذاب النار .
وجيء بفعل { يك } في جواب الشرط دون أن يقال فإن يتوبوا فهو خيرٌ لهم لتأكيد وقوع الخَيْر عند التوبة ، والإيماءِ إلى أنّه لا يحصل الخير إلاّ عند التوبة لأنّ فعل التكوين مؤذن بذلك .
وحَذف نون « يكن » للتخفيف لأنّها لسكونها تهيّأت للحذف وحسَّنه وقوع حركة بعدها والحركة ثقيلة فلذلك شاع حذف هذه النون في كلامهم كقوله : { وإن تك حسنة يضاعفها } في سورة النساء ( 40 ) .
وجملة : وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } عطف على جملة { يعذبهم الله } الخ فتكون جواباً ثانياً للشرط ، ولا يريبك أنّها جملة اسمية لا تصلح لمباشرة أداة الشرط بدون فاء رابطة . لأنّه يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في المتبوعات فإنّ حرف العطف كاف في ربط الجملة تبعاً للجملة المعطوف عليها .
والمعنى أنّهم إن تولّوا لم يجدوا من ينصرهم مِن القبائل إذ لم يبق من العرب من لم يدخل في الإسلام إلاّ من لا يعبأ بهم عَدداً وعُدداً ، والمراد نفي الولي النافع كما هو مفهوم الولي وأمّا من لا ينفع فهو حبيب وودود وليس بالولي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم}، يعني بعد إقرارهم بالإيمان، {وهموا بما لم ينالوا} من قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة، {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم}
{وإن يتولوا} عن التوبة، {يعذبهم الله عذابا أليما}، يعني شديدا، {في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي} يمنعهم {ولا نصير} يعني مانع من العذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في الذي نزلت فيه هذه الآية، والقول الذي كان قاله، الذي أخبر الله عنه أنه يحلف بالله ما قاله؛
فقال بعضهم: الذي نزلت فيه هذه الآية: الجُلاس بن سويد بن الصامت... عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: نزلت هذه الآية:"يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ" في الجلاس بن سويد بن الصامت، أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقّا، لنحن أشرّ من حميرنا هذه التي نحن عليها، فقال مصعب: أما والله يا عدوّ الله لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وخشيت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة أو أن أخلط، قلت: يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء، فقال كذا وكذا، ولولا مخافة أن أؤاخذ بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك قال: فدعا الجلاس، فقال له: «يا جلاسُ أقُلْت الّذِي قالَ مُصْعَبُ؟» قال: فحلف، فأنزل الله تبارك وتعالى: "يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ..."...
عن مجاهد كَلِمَةَ الكُفْرِ قال أحدهم: لئن كان ما يقول محمد حقّا لنحن شرّ من الحمير فقال له رجل من المؤمنين: إن ما قال لحقّ ولأنت شرّ من حمار قال: فهمّ المنافقون بقتله، فذلك قوله: "وهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا"...
وقال آخرون: بل نزلت في عبد الله بن أُبيّ ابن سلولَ... عن قتادة، قوله: "يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا "إلى قوله: "مِنْ وَلِيّ وَلا نَصِيرٍ" قال: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا، أحدهما من جهينة والآخر من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار. وظهر الغفاريّ على الجهني، فقال عبد الله بن أبيّ للأوس: انصروا أخاكم، فوالله ما مَثَلُنا ومَثَلُ محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك وقال: "لَئِنْ رَجعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ"، فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله تبارك وتعالى: "يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ...".
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنهم يحلفون بالله كذبا على كلمة كفر تكلموا بها أنهم لم يقولوها. وجائز أن يكون ذلك القول ما رُوي عن عروة أن الجلاس قاله، وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبي ابن سلول. والقول ما ذكره قتادة عنه أنه قال، ولا علم لنا بأن ذلك من أيّ، إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة ويتوصل به إلى يقين العلم به، وليس مما يُدرك علمه بفطرة العقل، فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جلّ ثناؤه: "يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ".
وأما قوله: "وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا" فإن أهل التأويل اختلفوا في الذي كان همّ بذلك وما الشيء الذي كان همّ به؛
فقال بعضهم: هو رجل من المنافقين، وكان الذي همّ به قَتْلَ ابن امرأته الذي سمع منه ما قال وخشي أن يفشيه عليه...
وقال آخرون: كان الذي همّ رجلاً من قريش، والذي همّ به قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم...
وقال آخرون: الذي همّ عبد الله بن أبيّ ابن سلولَ، وكان همه الذي لم ينله قوله: "لَئِنْ رَجعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ".
وقوله: "ومَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ" ذكر لنا أن المنافق الذي ذكر الله عنه أنه قال كلمة الكفر كان فقيرا، فأغناه الله بأن قُتِل له مولى، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته. فلما قال ما قال، قال الله تعالى: "ومَا نَقَمُوا" يقول: ما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، "إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ"...
وأما قوله: "فإنْ يَتُوبُوا يَك خَيْرا لَهُمْ" يقول تعالى ذكره: فإن يتب هؤلاء القائلون كلمة الكفر من قيلهم الذي قالوه فرجعوا عنه، يك رجوعهم وتوبتهم من ذلك خيرا لهم من النفاق.
"وإنْ يَتَوَلّوْا" يقول: وإن يدبروا عن التوبة فيأبوها، ويصرّوا على كفرهم "يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَابا ألِيما" يقول: يعذّبهم عذابا موجعا في الدنيا، إما بالقتل، وإما بعاجل خزي لهم فيها، ويعذّبهم في الآخرة بالنار.
وقوله: "ومَا لَهُمْ فِي الأرْضِ من وَلِيّ وَلا نَصِيرٍ" يقول: وما لهؤلاء المنافقين إن عذّبهم الله في عاجل الدنيا، من وليّ يواليه على منعه من عقاب الله، ولا نصير ينصره من الله، فينقذه من عقابه، وقد كانوا أهل عزّ ومنعة بعشائرهم وقومهم يمتنعون بهم ممن أرادهم بسوء، فأخبر جلّ ثناؤه أن الذين كانوا يمنعونهم ممن أرادهم بسوء من عشائرهم وحلفائهم، لا يمنعونهم من الله ولا ينصرونهم منه إذ احتاجوا إلى نصرهم. وذُكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية تاب مما كان عليه من النفاق...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تَسَتَّروا بأَيْمانِهم فَهتَكَ اللهُ أستارهم وكشف أسرارهم.
قوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ}: وهي طَعْنُهُم في نُبوَّةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلُّ مَنْ وَصَفَ المعبودَ بصفاتِ الخَلْق أو أضاف إلى الخلْق ما هو من خصائص نعت الحقِّ فقد قال كلمة الكفر. قوله جلّ ذكره: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}. أي أظهروا من شعار الكفر ما دَلَّ على جُحْدِهم بقلوبهم بعد ما كانوا يُظْهِرون الموافقة والاستسلامَ، وهمُّوا بما لم ينالوا من قتلٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سوَّلت أنفسهم أنه يُخْرِج الأَعَزُّ منها الأذلَّ، وغير ذلك. يقال تمنوا زوالَ دولةِ الإسلام فأبى اللهُ إلا إعلاء أمْرِها. ثم قال: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ}: أي ما عابوه إلا بما هو أَجَلّ خصاله، فلم يحصلوا من ذلك إلا على ظهور شأنهم للكافة بما لا عذر لهم فيه. قوله جلّ ذكره: {فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِي وَلاَ نَصِيرٍ}. وأقوى أركان التوبة حلُّ عقْدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بجميع حقِّ الأمر على وجه الاستقصاء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند مرجعه من تبوك: تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا... وقيل: أرادوا أن يتوّجوا عبد الله بن أبيّ وإن لم يرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
{وَمَا نَقَمُواْ} وما أنكروا وما عابوا {إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله} وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَكُونُ بِكُلِّ مَا يُنَاقِضُ التَّصْدِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَذَلِكَ لِسَعَةِ الْحِلِّ وَضِيقِ الْعَقْدِ...
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ}:
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوْبَةِ الْكَافِرِ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ الزِّنْدِيقَ...
اعلم أن هذه الآية تدل على أن أقواما من المنافقين، قالوا كلمات فاسدة، ثم لما قيل لهم إنكم ذكرتم هذه الكلمات خافوا، وحلفوا أنهم ما قالوا، والمفسرون ذكروا في أسباب النزول وجوها...
الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي: أن المنافقين هموا بقتله [الرسول صلى الله عليه وسلم] عند رجوعه من تبوك وهم خمسة عشر تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل...
والظاهر أنهم لما اجتمعوا لذلك الغرض، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب والتصنع في ادعاء الرسالة، وذلك هو قول كلمة الكفر، وهذا القول اختيار الزجاج.
فأما قوله: {وكفروا بعد إسلامهم} فلقائل أن يقول: إنهم أسلموا، فكيف يليق بهم هذا الكلام؟ والجواب من وجهين: الأول: المراد من الإسلام السلم الذي هو نقيض الحرب، لأنهم لما نافقوا، فقد أظهروا الإسلام، وجنحوا إليه، فإذا جاهروا بالحرب، وجب حربهم.
والثاني: أنهم أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام.
وأما قوله: {وهموا بما لم ينالوا} المراد إطباقهم على الفتك بالرسول، والله تعالى أخبر الرسول عليه السلام بذلك حتى احترز عنهم، ولم يصلوا إلى مقصودهم. وأما قوله: {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} ففيه بحثان: البحث الأول: أن في هذا الفضل وجهين:
الأول: أن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة، وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله.
والثاني: روي أنه قتل للجلاس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى.
البحث الثاني: أن قوله: {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله} تنبيه على أنه ليس هناك شيء ينقمون منه...
ثم قال تعالى: {فإن يتوبوا يك خيرا لهم} والمراد استعطاف قلوبهم بعدما صدرت الجناية العظيمة عنهم، وليس في الظاهر إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير، فأما أنهم تابوا فليس في الآية، وقد ذكرنا ما قالوه في توبة الجلاس. ثم قال: {وإن يتولوا} أي عن التوبة {يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة} أما عذاب الآخرة، فمعلوم. وأما العذاب في الدنيا، فقيل: المراد به أنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب، فيحل قتالهم وقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم واغتنام أموالهم...
{وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} يعني أن عذاب الله إذا حق لم ينفعه ولي ولا نصير.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} هذا استئناف لبيان السبب المقتضي لجهادهم كالكفار، وهو أنهم أظهروا الكفر بالقول، وهموا بشر ما يغري به من الفعل، وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أظهره الله على ذلك، وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم عنه، ويحلفون على إنكارهم ليصدقوا كدأبهم الذي سبق، {اتخذوا أيمانهم جنة} [المجادلة: 16]، وكانوا يحلفون للمؤمنين ليرضوهم، وكانوا يخوضون في آيات الله وفي رسوله بما هو استهزاء خرجوا به من حظيرة الإيمان الذي يدعونه إلى محظور الكفر الذي يكتمونه. وفي هذه الآية إسناد قول آخر من الكفر إليهم ينافي الإسلام الظاهر، فضلاً عن الإيمان الباطن. والمعنى يحلفون بالله أنهم ما قالوا تلك الكلمة التي أسندت إليهم، والله تعالى يكذبهم ويثبت بتأكيد القسم و «قد» أنهم قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم، ولم يذكر الكلمة التي نفوها وأثبتها، لأنها لا ينبغي أن تذكر في نص الكتاب فيتعبد المسلمون بتلاوتها. وقد اختلف رواة التفسير المأثور في تعيينها والقائلين لها.. {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} نقم منه الشيء أنكره وعابه كما في الأساس، وكذا عاقبه عليه، وقال الراغب: نقمت الشيء إذا نكرته إما باللسان وإما بالعقوبة. أي وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم شيئاً يقتضي الكراهة والكفر والهم بالانتقام إلا إغناء الله تعالى إياهم ورسوله من فضله تعالى بالغنائم التي هي عندهم غاية الغايات في هذه الحياة، وكانوا كسائر الأنصار من الفقراء. فالإغناء من فضل الله ببعثة الرسول والنصر له وما فيه من الغنائم كما وعده. وتقدم شرحه في تفسير آية {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله} [التوبة: 59] كما تقدم في الكلام على قسمة غنائم حنين قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار (وكنتم عالة فأغناكم الله بي). والذين قالوا: إن الآية نزلت في الجُلاس بن سويد حملوا الإغناء على الدية التي ذكرت في قصته، وهو ضعيف لأن الكلام في توبيخ المنافقين كافة، ولا سيما الذين هموا بما لم ينالوا، ولم يكن جُلاس منهم، وغاية ما يقال فيها: إنها تدخل في عموم الإغناء، فيحمل جلاس من توبيخها علاوة على ما يحمله سائر المنافقين، وقد تاب وأناب رضي الله عنه. وهذا التعبير من نوع البديع الذي يسمونه المدح في معرض الذم... {فإن يتوبوا يك خيرا لهم} أي فإن يتوبوا من النفاق، وما يصدر عنه من مساوئ الأقوال والأفعال، يكن ذلك المتاب خيراً لهم في الدنيا والآخرة، كما يدل عليه مقابله في الجملة التالية، أما في الدنيا فبما فيه من الفوائد الروحية والعلمية بالإيمان بالله، والتوكل عليه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، وعلو الهمة، والتوجه إلى سعادة الآخرة، ومعاشرة الرسول الأعظم، ومشاهدة ما حجبه النفاق عنهم من أنواره، ومعارفه وفضائله، ومن الفوائد الاجتماعية بأخوة المؤمنين وما فيها من الود الخالص، والوفاء الكامل، والإيثار على النفس، وغير ذلك من مزايا التعاون والاتحاد، والحب والإخلاص، التي قلما توجد أو تكمل في غير الإسلام، وأما في الآخرة فبما تقدم بيانه قريباً من وعد الله للمؤمنين. {وإن يتولوا} عما دعوا إليه من التوبة بالإصرار على النفاق، ومساويه المدنسة للأرواح المفسدة للأخلاق، {يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة} أما في الدنيا فبمثل ما تقدم من قوله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} [التوبة: 55] وسيأتي مثله قريباً، وقوله بعده في وصف ما يلازم قلوبهم من الفرق {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون} [التوبة: 57]، وفي معناه {يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون: 4]، فهم في جزع دائم، وهم ملازم، وكذا ما ذكر آنفا في تفسير جهادهم، وما ترى في بقية الآية من حرمانهم من كل ولي ونصير في العالم، وما سيأتي من الآيات في هذه السورة من الشدة في معاملتهم. وأما في الآخرة فحسبك ما تقدم آنفا من وعيدهم. {وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} أي وما لهم في الأرض كلها أدنى ولي يتولاهم ويهتم بشأنهم، ولا أضعف نصير ينصرهم ويدافع عنهم، لأن من خذله الله وآذنه بحرب منه لا يقدر أحد أن يجيره منه، وأما ناحية الأسباب الدنيوية فأبوابها قد أغلقت في وجوههم، فإن الله تعالى حصر ولاية الأخوة والمودة وولاية النصرة في المؤمنين والمؤمنات، دون المنافقين والمنافقات، فلن يجدوا بعد الآن أحداً من المسلمين يتولاهم أو ينصرهم بما يظهرون من الإسلام، وقد كان منهم ما كان، ولا من قبائلهم وأولي أرحامهم؛ لأن الإسلام قد أبطل عصبية الأنساب، ولا من الغرباء بما كان يكون عند العرب من الجوار والحلف، فقد قضى الإسلام على الجاهلية وجوارها، ولا من أهل الكتاب أيضاً فإن أحلافهم منهم قد قضي عليهم في الحجاز بالقتل والجلاء، ولا سبيل لهم إلى غيرهم في شاسع الأمصار، على أن الله تعالى وعد المؤمنين بملك قيصر وكسرى، وهكذا كان، وصدق ما أخبر الله به من انتفاء الأولياء والأنصار لهم في الأرض كلها، وهذا من نبأ الغيب الذي يكثر في القرآن، ولم يفطن جمهور المفسرين لجميع أفراده. هذا ما يخص حرمانهم من الأولياء والأنصار في الدنيا كلها، ومن المعلوم بالنصوص الأخرى أنه ليس للمنافقين ولا للكفار ولي ولا نصير في الآخرة، وإنما خص أمر الدنيا بالذكر هنا لأنه هو الذي يهم هؤلاء المنافقين دون الآخرة التي لا يوقنون بها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...ممّا يستحق الانتباه أن يقظة المسلمين تجاه الحوادث المختلفة كانت سبباً في معرفة المنافقين وكشفهم، فقد كان المسلمون دائماً يرصدون هؤلاء، فإذا سمعوا منهم كلاماً منافياً فإنّهم يخبرون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به من أجل منعهم وتلقي الأوامر فيما يجب عمله تجاه هؤلاء. إنّ هذا الوعي والعمل المضاد المؤيّد بنزول الآيات أدى إلى فضح المنافقين وإحباط مؤامراتهم وخططهم الخبيثة.
الجملة الأُخرى تبيّن واقع المنافقين القبيح ونكرانهم للجميل فتقول الآية: إنّ هؤلاء لم يروا من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي خلاف أو أذى، ولم يتضرروا بأي شيء نتيجة للتشريع الإِسلامي، بل على العكس، فإنّهم قد تمتعوا في ظل حكم الإسلام بمختلف النعم المادية والمعنوية (وما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله) وهذه قمة اللؤم.
ولا شك أنّ إغناءهم وتأمين حاجاتهم في ظل رحمة الله وفضله وكذلك بجهود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستحق أن ينقم من جرائه هؤلاء المنافقون، بل إنّ حقّه الشكر والثناء، إلاّ أنّ هؤلاء اللؤماء المنكرين للجميل والمنحرفي السيرة والسلوك قابلوا الإحسان بالإساءة.
ومثل هذا التعبير الجميل يستعمل كثيراً في المحادثات والمقالات، فمثلا نقول للذي أنعمنا عليه سنين طويلة وقابل إحساننا بالخيانة: إنّ ذنبنا وتقصيرنا الوحيد أنّنا أويناك ودافعنا عنك وقدّمنا لك منتهى المحبّة على طبق الإخلاص.
غير أنّ القرآن كعادته رغم هذه الأعمال لم يغلق الأبواب بوجه هؤلاء، بل فتح باب التوبة والرجوع إِلى الحق على مصراعيه إن أرادوا ذلك، فقال: (فإنّ يتوبوا يك خيراً لهم). وهذه علامة واقعية الإِسلام واهتمامه بمسألة التربية، ومعارضته لاستخدام الشدّة في غير محلّها وهكذا فتح باب التوبة حتى بوجه المنافقين الذين طالماً كادوا للإسلام وتآمروا على نبيّه وحاكوا الدسائس والتهم ضده، بل إنّه دعاهم إلى التوبة أيضاً.
هذه في الحقيقة هي الصورة الواقعية للإِسلام، فما أظلم هؤلاء الذين يرمون الإِسلام بأنّه دين القوة والإِرهاب والخشونة!
هل توجد في عالمنا المعاصر دولة مستعدة لمعاملة من يسعى لإسقاطها وتحطيمها كما رأينا في تعامل الإِسلام السامي مع مناوئيه، مهما ادّعت أنّها من أنصار المحبة والسلام؟! وكما مرّ علينا في سبب نزول الآية، فإنّ أحد رؤوس النفاق والمخططين له لما سمع هذا الكلام تاب ممّا عمل، وقبل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توبته.
وفي نفس الوقت ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء أن هذا التسامح الإسلامي صادر من منطق الضعف، حذّرهم بأنّهم إن استمروا في غيهم وتنكّروا لتوبتهم، فإنّ العذاب الشديد سينالهم في الدّارين (وإنّ يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة) وإذا كانوا يظنون أنّ أحداً يستطيع أن يمدّ لهم يد العون مقابل العذاب الإِلهي فإنّهم في خطأ كبير، فإنّ العذاب إذا نزل بهم فساء صباح المنذرين: (وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير).
من الواضح بديهة أنّ عذاب هؤلاء في الآخرة معلوم، وهو نار جهنم، أمّا عذابهم في الدنيا فهو فضيحتهم ومهانتهم وتعاستهم وأمثال ذلك.