ثم تنتقل السورة الكريمة فتحكى لنا جانبا آخر من أحوال الكافرين فى هذا اليوم العصيب ، كما تحكى لنا جانبا من مظاهر قدرة الله - تعالى - فتقول :
{ اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ . . . } .
المراد باليوم فى قوله - تعالى - : { اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ . . . } يوم القيامة .
وقوله : { نَخْتِمُ } من الختم ، والختم الوسم على الشئ بطابع ونحوه ، مأخوذ من وضع الخاتم على الشئ وطبعه فيه للاستيثاق ، لكى لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخله ما هو خارج عنه .
أى : فى يوم القيامة نختم على أفواه الكافرين فنجعلها لا تنطق ، وإنما تكلمنا أيديهم ، وتشهد عليهم أرجلهم بما كانوا يكسبونه فى الدنيا من أقوال الباطلة ، وأفعال قبيحة .
قالوا : وسبب الختم على أفواههم ، أنهم أنكروا أنهم كانوا مشركين فى الدنيا ، كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى قوله - تعالى - : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } أو ليكونوا معروفين لأهل الموقف فى ذلك اليوم العصيب ، أو لأن إقرار غير الناطق أبلغ فى الحجة من إقرار الناطق ، أو ليعلموا أن أعضاءهم التى ارتكبت المعاصى فى الدنيا ، قد صارت شهودا عليهم فى الآخرة .
وجعل - سبحانه ما تنطق به الأيدى كلاما ، وما تنطق به الأيدى كلاما ، وما تنطق به الأرجل شهادة ، لأن مباشرة المعاصى - غالباً - تكون بالأيدى ، أما الأرجل فهى حاضرة لما ارتكب بالأيدى من سيئات ، وقول الحاضر على غيره شهادة بما له ، أما قول الفاعل فهو إقرار ونطق بما فعله .
قال الجمل : وقال الكرخى : أسند سبحانه فعل الختم إلى نفسه ، وأسند الكلام والشهادة إلى الأيديى والأرجل ، لئلا يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا ، أو قهراً ، والإِقرار مع الإِجبار غير مقبول . فقال : تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم ، أى باختيارها بعد إقدار الله لها على الكلام ، ليكون أدل على صدور الذنب منهم .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث ، التى صرحت بأن أعضاء الإِنسان تشهد عليه يوم القيامة بما ارتكبه فى الدنيا من سيئات . ومن تلك الأحاديث ما جاء عن أنس بن مالك - رضى الله عنه - أنه قال : " كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال : " أتدرون مم أضحك ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال من مجادلة العبد ربه يوم القيامة .
يقول : رب ألأم تُجِرنى من الظلم ؟ فيقول : بلى ، فيقول : لا أجيز علىَّ إلا شاهدا من نفسى ، فيقول الله - تعالى - له : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، وبالكرام الكاتبين شهودا .
قال : فيختم على فيه . ويقال لأركانه - أى لأعضائه - : انطقى . فتنطق بما عمله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بعداً وسحقاً فعنكن كنت أناضل " " .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - :
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ . حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
ولا يقف المشهد عند هذا الموقف المؤذي ويطويه . بل يستطرد العرض فإذا مشهد جديد عجيب :
( اليوم نختم على أفواههم ، وتكلمنا أيديهم ، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) . .
وهكذا يخذل بعضهم بعضاً ، وتشهد عليهم جوارحهم ، وتتفكك شخصيتهم مزقاً وآحاداً يكذب بعضها بعضاً . وتعود كل جارحة إلى ربها مفردة ، ويثوب كل عضو إلى بارئه مستسلماً .
وقوله تعالى : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } : هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة ، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا ، ويحلفون ما فعلوه ، فيختم الله على أفواههم ، ويستنطق جوارحهم بما عملت .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة ، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث التميمي ، حدثنا أبو عامر الأسدي ، حدثنا سفيان ، عن عبيد المُكتب ، عن الفُضَيْل بن عمرو ، عن الشعبي ، {[24795]} عن أنس بن مالك قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال : «أتدرون مم أضحك ؟ » قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : «من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : رب{[24796]} ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول : بلى . فيقول : لا أجيز علي إلا شاهدًا من نفسي . فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حَسيبًا ، وبالكرام الكاتبين{[24797]} شهودا . فيختم على فيه ، ويُقال لأركانه : انطقي . فتنطق بعمله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا ، فعنكنَّ كنتُ أناضل » .
وقد رواه مسلم والنسائي ، كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر ، عن أبي النضر ، عن عُبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي ، عن سفيان - هو الثوري - به . {[24798]} ثم قال النسائي : [ لا أعلم{[24799]} أحدًا روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي ، وهو حديث غريب ، والله تعالى أعلم .
كذا قال ، وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي - وهو العَقَدِيّ - عن سفيان .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن بَهز{[24800]} بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنكم تُدْعَون مُفَدَّمة{[24801]} أفواهكم بالفِدَام ، فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه » . رواه النسائي ]{[24802]} عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق ، به . {[24803]}
وقال سفيان بن عيينة ، عن سُهَيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل ، قال فيه : «ثم يلقى{[24804]} الثالث فيقول : ما أنت ؟ فيقول : أنا عبدك ، آمنت بك وبنبيك وبكتابك ، وصمت وصليت وتصدقت - ويثني بخير ما استطاع - قال : فيقال له : ألا نبعث عليك شاهدنا{[24805]} ؟ قال : فيفكر في نفسه ، من الذي يشهد عليه ، فيُختَم على فيه ، ويقال لفخذه : انطقي . فتنطق{[24806]} فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل ، وذلك المنافق ، وذلك ليعذر من نفسه . وذلك الذي سخط الله عليه » .
ورواه مسلم وأبو داود ، من حديث سفيان بن عيينة ، به بطوله . {[24807]}
ثم قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا ضَمْضَم بن زُرْعَة عن شُرَيْح بن عبيد ، {[24808]} عن عقبة بن عامر ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه ، فَخذُه من الرِّجل اليسرى » . {[24809]} .
ورواه ابن جرير عن محمد بن عوف ، عن عبد الله بن المبارك ، عن إسماعيل بن عياش ، به مثله . {[24810]}
وقد جَوَّد إسناده الإمام أحمد ، رحمه الله ، فقال : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيْح بن عُبَيد الحضرمي ، عمن حَدَّثه عن عقبة بن عامر ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه ، فَخذه من الرجل الشمال » . {[24811]}
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا يونس بن عُبَيد ، عن حُمَيد بن هلال قال : قال أبو بردة : قال أبو موسى{[24812]} هو الأشعري ، رضي الله عنه - : يُدعى المؤمن للحساب يوم القيامة ، فَيَعْرضُ عليه{[24813]} رَبُّه عملَه فيما بينه وبينه ، فيعترف{[24814]} فيقول : نعم أيْ رب ، عملتُ عملتُ عملت . قال : فيغفر الله له ذنوبه ، ويستره منها . قال : فما على الأرض خَليقة ترى{[24815]} من تلك الذنوب شيئًا ، وتبدو حسناته ، فَوَدَّ أن الناس كلهم يرونها ، ويُدعى الكافر والمنافق للحساب ، فَيَعرضُ رَبُّه عليه عمله ، فيجحد وفيقول : أي رب ، وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل . فيقول له الملك : أما عملت كذا ، في يوم كذا ، في مكان كذا ؟ فيقول : لا وعزتك أيْ رب ما عملتُه . فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه . قال أبو موسى الأشعري : فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ{[24816]} اليمنى ، ثم تلا { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }{[24817]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىَ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْوَاهِهِمْ : اليوم نطبع على أفواه المشركين ، وذلك يوم القيامة وَتُكَلّمُنا أيْدِيهِمْ بما عملوا في الدنيا من معاصي الله وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ قيل : إن الذي ينطق من أرجلهم : أفخاذهم من الرجل اليُسرى بَمَا كانُوا يَكْسِبُونَ في الدنيا من الاَثام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا يونس بن عبيد ، عن حميد بن هلال ، قال : قال أبو بردة : قال أبو موسى : يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة ، فيعرض عليه ربّه عمله فيما بينه وبينه ، فيعترف فيقول : نعم أي ربّ عملت عملت عملت ، قال : فيغفر الله لهم ذنوبه ، ويستره منها ، فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئا ، وتبدو حسناته ، فودّ أن الناس كلهم يرونها ويدَعى الكافر والمنافق للحساب ، فيعرض عليه ربه عمله فيجحده ، ويقول : أي ربّ ، وعزّتك لقد كتب عليّ هذا الملك ما لم أعمل ، فيقول له الملك : أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول : لا وعزّتك أي ربّ ، ما عملته ، فإذا فعل ذلك ختم على فيه . قال الأشعري : فإني أحسب أوّل ما ينطق منه لفخذه اليمنى ، ثم تلا : اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْوَاهِهِمْ وتُكَلّمُنا أيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثني يحيى ، عن أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن الشعبيّ ، قال : يقال للرجل يوم القيامة : عملت كذا وكذا ، فيقول : ما عملت ، فيختم على فيه ، وتنطق جوارحه ، فيقول لجوارحه : أبعدكنّ الله ، ما خاصمت إلا فيكنّ .
حدثنا بشر ، قلا : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْوَاهِهِمْ . . . الاَية ، قال : قد كانت خصومات وكلام ، فكان هذا آخره ، وَخَتَمَ على أفْوَاهِهِمْ .
حدثني محمد بن عوف الطائي ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عياش ، عن ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن عقبة بن عامر ، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «أوّلُ شَيْءٍ يَتَكَلّمُ مِنَ الإنْسانِ ، يَوْمَ يَخْتِمُ اللّهُ على الأَفْوَاهِ ، فَخِذُهُ مِنْ رِجْلِهِ اليُسْرَى » .
ثم أخبر تعالى محمداً إخباراً تشاركه فيه أمته في قوله { اليوم نختم على أفواههم } أي في ذلك اليوم يكون ذلك ، وروي في هذا المعنى أن الله تعالى يجعل الكفرة يخاصمون فإذا لم يأتوا بشيء تقوم به الحجة رجعوا إلى الإنكار فناكروا الملائكة في الأعمال فعند ذلك يختم الله تعالى على أفواههم فلا ينطقون بحرف ، ويأمر تعالى جوارحهم بالشهادة فتشهد{[9806]} ، وروى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن أول ما يتكلم من الكافر فخذه اليسرى »{[9807]} ، وقال أبو سعيد اليمني : ثم سائر جوارحه ، وروي أن بعض الكفرة يقول يومئذ لجوارحه : تباً لك وسحقاً فعنك كنت أماحل ونحو هذا من المعنى ، وقد اختلفت فيه ألفاظ الرواة ، وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده أنه قرأ «ولتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم » بزيادة لام كي والنصب ، وهي مخالفة لخط المصحف .